الجزائر دولة عضو في منظمة الدول المصدرة للنفط "الأوبيك"، وهي بذلك تعتبر من بين البلدان البترولية. كما أنها بلد يصدر الغاز، وهي بكل ذلك تكون بلدا يتوفر على مصادر الطاقة التي يتنافس حولها العالم وخاصة الدول الصناعية التي لا يمكن أن تستمر في تقدمها الصناعي بدون هذه الطاقة. ما تتوفر عليه الجزائر من بترول وغاز يجعلها تمتلك مصادر الطاقة التي من شأنها أن تكون قيمة مضافة لتقوية الاقتصاد الوطني، ومصدرا مُدرا للدخل يساهم في توفير العيش الكريم والرفاهية للشعب الجزائري. توفر الجزائر على البترول والغاز يجعل منها، بلغة المنطق وأرقام الاقتصاد، دولة غنية موقعها في مصاف الدول التي حققت طفرتها التنموية وإقلاعها الاقتصادي، ووفرت لشعبها العيش في مستوى الرفاهية وليس فقط العيش الكريم. لكن واقع الحال يشهد غير ذلك. فالجزائر تعاني من أعطاب اقتصادية كبيرة، ونقص حاد في جميع مستلزمات الحياة الكريمة للمواطن الجزائري، وهو ما دفع بهذا الأخير إلى الخروج للشارع فيما يسمى جزائريا بالحراك. كما أن ترتيب الجزائر في مؤشرات التنمية، يضعها في مراتب بعيدة عن الدول العضوة في منظمة الأوبيك التي تتوفر هي الأخرى على البترول والغاز. سبب هذا الواقع الجزائري يكمن في خطأ استراتيجي وقع فيه النظام الجزائري منذ انقلاب الجيش بزعامة الجنيرال بومدين واستلائه على السلطة إلى يومنا هذا. عنوان هذا الخطأ الاستراتيجي هو العداء المجاني والغير مفهوم للمملكة المغربية. فما هي تجليات هذا الخطأ الاستراتيجي؟ وما هي أهم معالمه؟ بعد استقلال المغرب في 18 نونبر 1956، قدم المغفور له محمد الخامس دعما كبيرا للجزائر على حساب المصالح الخاصة والحيوية للمملكة المغربية. ففي الوقت الذي حققت فيه المملكة المغربية استقلالها، كانت الثورة الجزائرية وصلت ذروتها في محاربة الاستعمار الفرنسي. وهو ما دفع هذا الأخير لممارسة ضغوطات كبيرة على ملك المغرب من أجل إيقاف دعمه للثورة الجزائرية. لكن المغرب اختار الاصطفاف إلى جانب أشقاءه الجزائريين متحملا تبعات هذا الاصطفاف. ولعل أبرز موقف أبان عنه المغرب في دعمه للثورة الجزائرية وحقها في الاستقلال، هو رفض المملكة المغربية ترسيم حدودها مع الجارة الشرقية وهي لا زالت تحت الاستعمار الفرنسي. علما أن هذه الحدود كانت ستضم منطقة بشار (تقع في هذه المنطقة قرية العرجة التي طرد منها جنيرالات الجزائر الفلاحين المغاربة الذين ظلوا يستغلون أراضيها لأكثر من قرن)، ومنطقة تندوف التي سمح النظام الجزائري لانفصاليي البوليساريو بالاستقرار فيها وقيامهم بعملياتهم العدوانية على الحدود المغربية مع الجزائر. منذ استيلاء الجنيرالات على الحكم في الجزائر، كانت سياستهم مع المغرب قائمة على أساس خلق الصراع ولو بدون سبب والعداوة المفرطة. في المقابل كانت سياسة المملكة المغربية اتجاه الشقيقة الجزائر قائمة على أساس بناء جسور التعاون وحسن الجوار وبناء المستقبل المشترك للشعوب. سياسة المغرب هذه اتجاه الجزائر لم تكن في وقت من الأوقات سياسة ظرفية، وإنما كانت اختيارا استراتيجيا، جعلت المغرب لا يمانع في أن تكون منطقة بشار وتندوف داخل الحدود الجزائرية، مادام قاطنو هذه المناطق هم أشقاء جزائريون يتقاسم معهم المغاربة اللغة والدين والتاريخ وحتى المُصاهرة. إذا كانت هذه هي مقومات السياسة المغربية اتجاه الجزائر، فإن جنيرالات هذا البلد حوَّلوا منطقة تندوف إلى بؤرة لخلق توتر دائم مع المغرب، وتمادوا في عدائهم هذا بطرد مغاربة من منطقة عمَّروها لأكثر من قرن من الزمان. عقيدة العداء المجاني التي سلكها النظام الجزائري ضد المملكة المغربية جعلته حبيس هذا الخيار، وكل همه هو مراقبة ما يقع في جاره الغربي. وهو الأمر الذي فوت على البلد فرصة بناء تصور لجزائر المستقبل، وفرصة تحديد الخيارات التنموية والمشاريع الاقتصادية لجزائر متقدمة ونامية. في المقابل، عندما لم يجد المغرب في النظام الجزائري أي استجابة لأطروحة حسن الجوار والتعاون المشترك في بناء المستقبل، قام بالمضي في تحديد معالم نهضته التنموية، وبناء خياراته الاستراتيجية في تحقيق طفرته التنموية، مستعملا إمكاناته الذاتية ومعتمدا على طاقاته الداخلية. الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه النظام الجزائري جعل البلاد تعرف عجزا غير مسبوق في الموازنة العامة فاق 22 مليار دولار، ونسبة تضخم عالية تفوق 4،5 بالمئة، وتراجع احتياط البلد من العملة الصعبة إلى أقل من 46،8 مليار دولار وهي نسبة لم تشهدها البلاد من قبل، حيث بلغت هذه النسبة 194 مليار دولار في 2014 حين بلغ سعر البرميل أكثر من 150 دولارا. هذه الوضعية جعلت الاقتصاد الجزائري رهينة تقلبات السوق البترولية، ويضع مستقبله في يد الدول المصدرة للنفط. لكن الأخطر من هذه الوضعية الاقتصادية المتردية، هو افتقار جنيرالات الجزائر لرؤية مستقبلية، ولاستراتيجية تنموية تحدد القطاعات الاقتصادية التي تلائم الاقتصاد الجزائري، وتستطيع فتح نافذة أمل للخروج من مأزق الخطأ الاستراتيجي القائم على العداء المفرط للمغرب بدل الاهتمام ببناء رؤية تنموية مستقبلية للبلاد. عجْزُ النظام الجزائري عن بناء مشروع تنموي للبلاد، وافتقاره لمخطط يحدد القطاعات التي ستعتمد عليها البلاد في بناء الاقتصاد، جعله يلتفت مرة أخرى للمملكة المغربية. فسار هذا النظام العسكري يحاول مزاحمة المغرب في كل ما بناه منذ عشرات السنين، سواء في القطاعات الاقتصادية التي حددها المغرب كخيار استراتيجي كالفلاحة والسياحة واللوجستيك والطاقة النظيفة وصناعة السيارات والطائرات، وكذلك في الرقعة الجغرافية التي أقام فيها المغرب علاقات تجارية، نذكر على الخصوص بلدان الغرب الإفريقي. فنجد جنيرالات الجزائر حين شاهدوا ما أنجزه المغرب في القطاع السياحي، حاولوا الدخول بعد تأخر كبير إلى السوق السياحية، لكن ليس برؤية متكاملة الأركان ودراسة صلبة البنيان، وإنما بأسلوب مزاحمة المغرب فيما أنجزه في هذه السوق. ونقصد بذلك الادعاء بأن الكسكس جزائري، علما أن المغرب اشتغل منذ عقود، حين كان جنيرالات الجزائر في سباتهم وفي عدائهم الوهمي ضد المغرب، في بناء هويته السياحية في السوق الدولية. نفس الشيء ينطبق على قطاعات نجح المغرب في توطينها في البلاد كصناعة السيارات التي أهدر فيها النظام الجزائري ملايين الدولارات وفشل في تحقيق ما حققته المملكة المغربية في هذا القطاع. وسبب فشله ذلك هو أن مشروع توطين صناعة السيارات في الجزائر لم يكن، هو الآخر، قائما على رؤية استراتيجية، وإنما كان قائما على أساس مزاحمة المغرب في مشروعه ولما لا إفشاله إن استطاع لذلك سبيلا. لكنه لم يستطع بلوغ هذا الهدف وكانت النتيجة المعروفة فشل المشروع وإهدار المال العام وتحميل المسؤولية لرموز الحكومات السابقة ومحاكمتهم لإخماد احتجاجات الحراك. أكثر من ذلك، غياب رؤية تنموية لدى جنيرالات الجزائر، جعلهم يقفون عاجزين عن معالجة أوضاع البلاد الاقتصادية، ويتمادون في خطأهم الاستراتيجي بمعاكسة المغرب حتى في بناء المساجد، فقاموا ببناء مسجد كبير، وكل آمالهم هو أن يكون أكبر من مسجد الحسن الثاني. وكأن المشروع التنموي عند جنيرالات الجزائر هو تتبع خطوات المملكة المغربية في كل كبيرة وصغيرة ومحاولة انتزاعها منه وإسنادها للجزائر. استطاع النظام الجزائري بناء مسجد كبير، لكنه عجز عن بناء ميناء عالمي على غرار ميناء طنجة المتوسط، وهو ما دفعه إلى التفكير في خلق ممر بحري يربط الجزائر مع موريتانيا. هذا مشروع يعرف المتخصصون أنه مشروع ميت قبل ولادته. نقول ذلك لأنه مشروع اعتمد نفس الأساليب التي قام عليها مشروع صناعة السيارات وعرف فشلا ذريعا. فالخط البحري ليس مشروعا مدروسا وقائما على رؤية استراتيجية، وإنما هو مشروع يهدف إلى مزاحمة الرواج التجاري الكبير الذي يشهده معبر الكركرات. فشل النظام الجزائري في غلق هذا المعبر باستعمال المرتزقة، وفشل في المعبر الذي يربط تندوف بموريتانيا والذي شرع في استخدامه خلال إغلاق معبر الكركرات، وفشل في بناء معبر من طينة معبر الكركرات مع الدول الافريقية الخمسة التي يتقاسم معها الحدود والتي تعتبر العمق الإفريقي للجزائر. لستُ أفهم كيف يمكن أن ينجح النظام الجزائري في مشروع هو أصلا نتيجة مشاريع سابقة كلها بائت بالفشل. كما أنني لا أفهم كيف بنظام يعتمد نفس الأسلوب وينتظر نتائج مغايرة. هذه فقط بعض الأمثلة لنظام عسكري وقع في خطأ استراتيجي قائم على عقدة العداء المفرط للمملكة المغربية. هذا الخطأ الاستراتيجي جعله بلا بوصلة تنموية ولا مشاريع اقتصادية. وأمام عجزهم عن طرح حلول لما تعيشه الجزائر من وضعية اقتصادية مقلقة، سار جنيرالات الجزائر في معاكسة المغرب في كل شيء، في وحدته الترابية وفي مشاريعه الاقتصادية الناجحة. علما أن مصلحة الجزائر تكمن في التعاون المشترك بين البلدين الشقيقين بدل الصراع المجاني الذي لن يؤدي سوى إلى الباب المسدود. مصلحة الجزائر تكمن في التقارب مع الشقيق الغربي وليس في التباعد، تكمن كذلك في التعاون وليس في التنافر، وتكمن أخيرا في المشاريع المشتركة وليس في البحث عن إفشال ما أنجزه المغرب من مشاريع ناجحة. يكفي أن نشير إلى ترتيب البلدين في مؤشر التنافسية الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي "دافوس" في 2019 حيث صنف المغرب في المرتبة 75 من أصل 141 بلدا، فيما احتلت الجزائر مركزا متأخرا حيث صنفها منتدى دافوس في الرتبة 89. المؤشر الوحيد الذي يتقدم فيه النظام العسكري الجزائري هو المؤشر العالمي لقوة الجيوش الذي يعتمد أساسا على الميزانية المخصصة للتسلح لكل بلد، حيث تحتل الجزائر المركز الأول مغاربيا و27 عالميا من أصل 137 دولة، فيما المغرب يحتل الرتبة الثانية مغاربيا و61 عالميا. لكن رغم هذه الميزانية الضخمة التي يرصدها جنيرالات الجزائر لشراء الأسلحة، أبانت الضربة الأخيرة للجيش المغربي عن طريق طائرة مسيرة عن بعد جد متطورة، نجاعة كبيرة للجيش المغربي. بهذا السلاح المتطور تم رصد تحركات المرتزقة بدقة عالية، والقضاء على هذه التحركات بما فيهم قادة في جبهة البوليساريو، وهو ما اعترفت به هذه الأخيرة ولم تجد سبيلا لإنكاره. هذا الفارق الكبير بين الميزانية المرصودة للتسلح ونجاعة الجيش الجزائري يجعلنا نفهم أكثر لماذا يطالب الحراك الشعبي في الجزائر بدولة مدنية عوض الدولة العسكرية. فمتى يستفيق محارب الصحراء من سباته، ويمد يده لجاره، بدل تسلح لا يفيد، وعداء لا يجدي، والاستعانة بقوى خارجية ستجعل الجزائر رهينة في أيدي قوى عظمى.