أثارت الاستقالات التي قدمها مؤخرا أعضاء من حزب العدالة والتنمية بعدة مدن من بينها العاصمة الرباط ردود أفعال وتعليقات على بعض المواقع الاجتماعية ذهبت إلى اعتبارها مسألة "لا خبر" أو هي "fait divers"، بناء على عدة اعتبارات منها أن الأعضاء الذين يغادرون هذا "البيت المقدس" يصابون بلعنة "انتهاء الصلاحية"، بل ويفقدون مصدر شعبيتهم ونضاليتهم ومصداقيتهم ونزاهتهم ليصيروا بلا قيمة منبوذين وضالين تائهين في هذه الحياة لأنهم ابتعدوا من الحزب الطاهر مصدر القيم، هذا الحزب الذي اصطفاه الله لأهل المغرب حتى يخرجهم من الظلمات إلى النور ويقيم فيهم التنمية والعدالة الغائبتين، بالإضافة إلى أن هؤلاء المستقلين لا يعلنون عن الأسباب الحقيقية لتقديم استقالتهم، بل هي استقالات لدواعي خفية تدخل ضمن خانة "تحصين باطل ليس إلا"، لذلك أجد في هذا المقال فرصة مواتية لإبداء الرأي ومناقشة فكرة ماذا تعني الاستقالة من حزب العدالة والتنمية الذي تحمله "المرجعية الإسلامية"، خاصة إذا كانت من أعضاء لا يمكن إنكار نضاليتهم ومساهماتهم في ما وصل إليه الحزب. بشكل مبدئي، يمكننا أن ننطلق في هذا النقاش الحيوي والشيق من استحضار المعالم الكبرى للعمل السياسي التي تؤطر فكرة الانخراط لحزب ما وليس الانتماء له، الذي يبقى فقط للوطن والقيم في تقديري المتواضع. فالعمل السياسي يدخل ضمن دائرة الخطأ والصواب بحكم ارتكازه على مفهوم التدافع بين تصورات واختيارات بشرية تتسم بالنسبية، كونها تقوم أساسا على تنوع الأفكار والمرجعيات القابلة للتعديل والتغيير أو حتى التجاوز والإلغاء، ويبقى الهدف من العمل السياسي هو ترسيخ سيادة الأمة (الشعب) من خلال وظيفة التمثيل وتدبير شؤون الحياة العامة والتأثير في القرار العمومي عن طريق وظيفة المشاركة في ممارسة السلطة والتعاون على تكريس الحقوق وتحقيق العيش الكريم والمشترك من منطلق تدبير المصالح وفي إطار تعددية الأفكار والمعتقدات والتنظيمات السياسية. ومن هذا المنظور يمكن لكل مواطن الانخراط في أي حزب سياسي إذا كانت فكرة هذا الحزب تتوافق مع توجهاته وقناعاته وذلك من أجل تحقيق الأهداف التي يحددها الدستور أو القوانين الأساسية لهذا الحزب، كما يمكنه الانسحاب منه في أي وقت تعارضت أفكاره أو مصالحه مع هذا الحزب أو في حالة بدل الحزب من مساره أو خالف قناعاته في لحظة معينة، غير أن الاستقالات المتتالية من حزب العدالة والتنمية تبقى لها مؤشرات دالة تعكس وجود أزمة حقيقية بين طبيعة المرجعيات التي يرتكز عليها الحزب وسلوكه السياسي، كيف ذلك؟ الاستقالة هي مؤشر على رفض الازدواجية هذه الازدواجية تتمثل في توظيف مرجعية الحق والباطل في تأطير مجال الخطأ والصواب التي تطبع جميع مناحي الحياة الحزبية والتنظيمية والسياسية والسلوكية لحزب العدالة والتنمية، لذلك فالاستقالة تبقى قرارا شجاعا من أعضاء رفضوا تزكية هذه الازدواجية وحاولوا تسليط الضوء على بعض تجلياتها، وأطن الذي يتتبع مسار الحزب سيدرك أنه ليس مع قرب كل محطة انتخابية تظهر الاستقالات من حزب العدالة والتنمية، بل هي ظاهرة ملازمة للحزب منذ نشأته فهناك أعضاء أدركوا هذه الازدواجية بشكل مبكر وغادروا البيت المقدس ومع ذلك بقيت مسيرتهم تملأ الآفاق وشعبيتهم لا ينكرها إلا جاحد، وعلمهم يسترشد به، ونزاهتهم على كل لسان، ونضاليتهم ثابتة من أجل قضايا الأمة العادلة، وأذكر في هذا الصدد أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور فريد الأنصاري الذي أصدر مؤلفا عنونه ب "الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب" في سرده لأحداث ووقائع مرحلة دقيقة من بدايات الحزب تخللتها العديد من السلوكيات التي لا تمت للمرجعية الإسلامية بصلة، كما أنني أعرف العديد من المؤسسين لحزب العدالة والتنمية الذين انسحبوا في هدوء وبدون إعلان استقالتهم لأنهم أدركوا ما لا يمكن للكثيرين إدراكه. الاستقالة هي مؤشر على توقد العقل النقدي لقد سعى المستقلون في خطوتهم هذه إلى الحفاظ على نزاهتهم ومصداقيتهم وكرامتهم في ظرفية تتداعى فيه عرى مصداقية ونزاهة حزبهم، ويمكن الاستدلال على ذلك من حالة مدينة الرباط التي تبقى نموذجا يعكس ما جاء في فحوى رسائل الاستقالات من تعداد لمظاهر إخفاقات الحزب في تدبير شؤونه التنظيمية واعتماده معايير متفاوتة وغير موضوعية في الأخذ بنتائج الديمقراطية الداخلية، فهل يمكننا ادعاء "تحصين باطل ليس إلا" والأعضاء المستقلون يعددون مساوئ المرحلة، من تعدد المهام والمسؤوليات والعائدات المالية لأعضاء حزب رفع راية الإصلاح وشعار محاربة الفساد والاستبداد، ويستعرضون مظاهر المحسوبية والزبونية والكولسة في سلوك القيادات لتقديم أعضاء من خارج دوائرهم ليضعوهم في صدارة اللوائح الانتخابية في خرق سافر لمخرجات الديمقراطية الداخلية واختيارات القواعد، وكيف يكيل الحزب بمكيالين في محاسبة الأعضاء الذين صدرت منهم تصرفات أو أفعال منافية للقوانين أو المصلحة العامة أو للأخلاق الحميدة. الاستقالة هي مؤشر على تكريس الانتماء للوطن والحزب مجرد وسيلة عمل منذ تأسيسه وحزب العدالة والتنمية يكرس صورته على أنه حزب ذو مرجعية دينية، تجعل منخرطيه ينتمون لمنظومة تعتمد في تصوراتها للفعل السياسي والمشاركة في تدبير الشأن العام على مجال الحق والباطل، لذلك فهو يعمل جاهدا في توظيف وتأطير أعضائه على فكرة تحقيق التدين والدفاع عن القيم والأخلاق، الأمر الذي يجعل من خضوع الأعضاء وامتثالهم لتوجهات الحزب وقراراته يرقى إلى "الواجب الديني"، تتمخض عنه العديد من الضوابط الشرعية من قبيل الولاء أولا للحزب وترتيب ما دونه، وأن الخروج عن قرارات قيادة الحزب وهيآته هو بمثابة خطيئة في صحائف من أقدموا على ذلك، وأن التصويت لمرشحي الحزب واجب ديني…، هذا التوجه بالقدر الذي يجعل من الانتماء للحزب غاية في حد ذاته، تجعل القدرة على الاختلاف داخله "شبه معطلة"، لتتضخم بداخل أعضائه العاطفة تجاه الحزب تجعلهم طيعين في خدمة أهداف معلنة تخفي طموحات ورغبات خفية، لتقف هذه العاطفة سدا منيعا أمام مغادرتهم للحزب وتكسير هذا الطوق الديماغوجي الخانق، لذلك تبقى الاستقالة والتحرر من هذه الكماشة حدثا بارزا خاصة أنها تأتي في سياق يتسم بضعف إيديولوجية الحزب وانحصارها أمام الانتماء للوطن، وانحرافه عن الأهداف التي أعلنها ورويدا رويدا سنسمع عن انسحابات متتالية ستجعل منه حزبا كباقي الأحزاب، عليه مراجعة تصوراته والتحول من حزب استفاد من المرجعية الدينية إلى حزب ذو مرجعية وطنية تعاقدية. الاستقالة مؤشر على بروز التناقض الرئيسي للحزب لقد لعبت المرجعية الدينية بما تعنيه من مجال للقيم والأخلاق ونكران الذات عامل تنويم مستدام لطموحات الأعضاء وكبت تطلعاتهم في تحمل المسؤولية بمسوغ "نحن لا نعطيها لمن طلبها"، وبذلك تم توظيف هذه المرجعية كواجهة تؤطر وثائق الحزب وتوجه خطاباته الطهرانية وكتاباته الديماغوجية العاطفية، لكن واقع حال الحزب وسيرورته أبان عن انتهازية برغماتية بشرية مستترة كانت تسعى جاهدة ومن خلال زوايا مغلقة لتحقيق المصالح والرغبات. لقد بقي هذا التناقض الرئيسي مخفيا ويتأقلم مع متغيرات كل مرحلة سياسية مستعملا كافة الوسائل المتاحة لضمان استمرارية إخفائه بهدف تقوية ولاء الأعضاء والحفاظ على خضوعهم وتوظيفهم في المحطات الانتخابية، ثم للتغطية على كل الإخفاقات في تحقيق القناعات والمرجعيات المعلنة في البرامج الانتخابية المتتالية بمنطق تبريري بارع، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالفضائح المدوية، والمواقف السياسية الضعيفة، وغياب إجراءات ملموسة تدل على رغبة حقيقية في تنزيل المرجعية الإسلامية في البرامج الحكومية، والإصلاحات المتعسفة على حساب الطبقات الفقيرة، واتساع الهوة بين الخطاب والممارسة…)، أو في مراكمة المصالح والمسؤوليات والعائدات (الجمع بين وزير ورئيس جماعة، الجمع بين برلماني ورئيس جماعة، الجمع بين برلماني ونائب العمدة ورئيس مقاطعة، الجمع بين برلماني ورئيس مقاطعة، الجمع بين برلماني ونائب رئيس الجهة، والاستفادة من تقاعد ريعي غير مستحق…)، هذا الفتق الكبير بين الخطاب والسلوك السياسي وبين التصور والممارسة جعل هذا التناقض الرئيسي ينفضح بشكل جلي لا يمكن تغطيته أو تجاهله، ما يضفي على قرار تقديم الاستقالة مضمونا سياسيا حقيقيا لا يمكن إنكاره. إن هذه الاستقالات التي أقدم عليها هؤلاء الأعضاء ومن قبلهم أو الذين سيأتون بعدهم هي بمثابة انسحاب نقاط ضوء من تنظيم يزداد قتامة وعتمة، ولعل المحطات الاستحقاقية القادمة ستكشف لنا أن الحديث عن الباقين داخل هذا الحزب هو الذي تنطبق عليه بلغة الصحافة "fait divers".