الانسان كائن بسيط خلقه الله في جنان النعيم، ومن الخطيئة نحى بنفسه وأخذ الله بيده وعلمه الطاعة والثوبة وجعلها دينا عليه، كما أتاه قدر طاعته من العلم، وثاب عليه وكرمه تكريما، من الخطى به في مدارج التطور من العقل البشري الذي أنعم به عليه، وميزه به عن سائر مخلوقاته، كتميز الارض عن الكواكب من الفضاء، كالقطب على اليابسة . ومن حياة الانسان على وجه البسيطة عاش بسيطا، من وسط الجماعة البشرية، ثم المجتمع، ومن حياة المجتمع الزراعي، التي تقوم على الجهد البشري والدعم الحيواني، إلى حياة المجتمع الصناعي، الذي وظف من محل الحيوان الطاقة والآلة الحديدية بالطرق الميكانيكية والالكترونية في إنتاجية الخدمات اللازمة لمتطلبات الحياة الراقية، من أطوار العلم والمعرفة . وخلال الحياة البشرية بالمجتمع الزراعي، كان الانسان يعتمد في العمل على مجهوده الشخصي من القوة البدنية، ووسطه الأسري من حالة العجز عن العمل خلال مرحلة الشيخوخة، كون الحياة الاجتماعية كانت تعتمد على جماعة القرب، قبل أن ينهض المجتمع بدوره الاجتماعي نحو الفرد، لبناء الحياة القويمة بالعنصر البشري من المجتمع . أما الحياة الاجتماعية من العصر الصناعي، فقد أهلت الحياة البشرية، إلى عصر العلم واستخدام الآلة وطرق تسييرها بالخدمات من قرب أو عن بعد، ومن تم صار الانسان يشتغل بالطرق العلمية للمصلحة الاجتماعية من سن الرشد إلى سن المعاش، الذي توفره له المؤسسة الشغيلة، من النظام الاجتماعي الذي تحكم تسييره وتدبير شأنه الطرق العلمية المتجددة من مدار العمل المتجدد، وتقنيات مناولته من قرب وعن بعد . حياة الانسان من العصر الزراعي : العصر الزراعي هو عصر بداية التاريخ، وإن يختلف بين المجموعات البشرية من علاقتها بالفضاء، لأنه العصر الذي أصبح الانسان ينتج فيه الغذاء باليد لنفسه من الطبيعة، بكد الجهد من عمل يده بدل الاعتماد الكلي على الموجودات الطبيعية، التي أصبحت لا تفي بالحاجيات لتزايد أعداده من الرقعة الارضية، مما دفعه إلى تعلم الزراعة وممارستها من أوقاتها الموسمية من المدار الفضائي، والتعامل بها مع المستخدم كمعاش من العمل، والتجارة من المبادلات للدفع بالإنتاجية، ومقايضتها بالحاجيات المطلوبة، ونسج العلاقات منها بين بني الانسان من الأقطار والقارات عبر البراري والبحار . إضافة إلى ذلك طور الانسان حياته من الترحال والتنقل بين مكان موسمي وآخر، إلى الاستقرار وإقامة البنيان من المدن التي تجري من داخلها الحياة اليومية على النهج الاجتماعي، الذي يقوم على الاستقرار والعمل الاصلاحي للإنسان من المكان ، على خلاف ما تدور عليه الحياة من خارج المدينة، القائمة على صيرورة الحياة من الارتباط بالطبيعة والحياة الجماعية من وسط العائلية، المرتبطة بالجماعة السلالية من الأسرة . ومن تم كان عمل الانسان من جهده الذاتي بالقرية أو المدينة، يقوم على قدرته الجسمية عن العمل، والمرتبط بالموسمية من مدار السنة، وحين العجز عن العمل من عامل السن، يجد السند في الأبناء والاحتضان من وسط العائلة التي تعيش في إطار جماعي محافظ على خصائص الحياة الوراثية المرتبطة بالطبيعة الكونية . وإن التطور الذي لعبته المدينة في حياة المجتمعات الزراعية، من انفتاحها على العلاقات التجارية مع الأطراف من خارج الحدود الاجتماعية، أهلتها من الفكر إلى التغيير الاجتماعي والانتقال بالمنظومة البشرية من النظام الاجتماعي، إلى عصر يرفع من شأن حياة الانسان في إطار جديد من حياة العصر الصناعي . حياة الانسان من العصر الصناعي : العصر الصناعي هو عصر الآلة التي تدار بالطاقة، والتي جاءت وليدة جهود الانسان من الفكر، وتطوير العلم لفائدة الانسان والطبيعة، من علوم نظرية، إلى علوم تطبيقية، ثم علوم تخصصية، تشغل الآلة عن بعد وتخفف العبء العملي والمعرفي عن الانسان، وتقفز بعمله سريعا في البحث العلمي والعملي، مما انعكس إيجابا على الحياة البشرية من الانتاج واكتساب الشخصية الاعتبارية، من العمل والحقوق القانونية والانسانية، التي جعلت منه كائنا اجتماعيا إنسانيا، ينشد الحياة المستقبلية من الجهود العلمية بالمجتمع، الذي يوفر السبل العملية للإنسان من سن الطفولة، والحياة العملية إلى سن المعاش من الحياة الاجتماعية . المعاش من الحياة الزراعية : المعاش في الحياة الزراعية يعتمد على الجهد العضلي من الذات البشرية، التي تدير نفسها بنفسها، من مدار الفصل، أو السنة، وكان العلم وقتها يعلم الانسان ويحثه عن العمل من قاعدة : أن من أسباب نجاح المرء في العمل الاعتماد على النفس، وإن كانت القاعدة صالحة لكل إنسان من الزمان والمكان . فإنه لم يكن حاضرا وقتها لدى الشخص الوازع الاجتماعي، من غياب الخدمات والعمل مع المؤسسة الاجتماعية، بل وحتى إن كانت موجودة لم يكن وقتها ضمان اجتماعي للمعاش، من العجز الصحي أو عامل السن الذي ينتهي بالإنسان الى مدار منحدر في العمل . ومن حياة العصر الزراعي والكدح القروي بالوسط الحضري، نسوق مثلا تقريبيا من اشتغال الفرد على ظهر ذابة، في نقل السلع التجارية من المواد الغذائية، بين متجر الجملة، ودكان الدرب من المواد المحلية . كان ذلك الانسان من وقته لا يحمل في الوسط المهني اسم نقال، بل يحمل اسم المعاش، يعني أنه يشتغل تحت الطلب بمقابل توافقي عن الخدمة من القرب . غير أن بيت القصيد، أن ذلك الانسان الذي اشتغل من مكان معين، طيلة حياته مع الخواص من المؤسسة التجارية وخارجها، حين بلغ به العجز من السن، كان حاله يتردى من العمل، ووجهه ينكب حول الارض من وراء الدابة، وتحول اهتمامه عوض نفسه إلى تحسين حال الدابة، التي أصبح يمتطي ظهرها إلى جانب البضاعة التي يحملها إلى صاحبها، بعد أن أثقلت السنون الخطى من العمل، وأضحى يستعطف ذات الجانب للمعونة على وضع الثقل من كيس سكر أو دقيق أمامه على ظهر الدابة، مع وضع السلع الخفيفة من شواري الحمولة، والاتجاه بها إلى وجهتها، مقابل اليسر المادي على المعاش، كما يجري عليه العرف من علاقة القرب الانسانية . كان ذلك الانسان من وقت الهجرة القروية يعرف من المهن الحرة بالمعاش- تقرِأ بحركة التشديد على حرف العين -، عهد ظهور النقود، وهو مختلف من الحالة الاجتماعية، عن ظهور راتب المعاش من محصول خدمات الشراكة العمالية بالمؤسسات الانتاجية، المرتبطة بالإنتاجية الاجتماعية من عمل الرجل والمرأة بالمؤسسة الاجتماعية، بعد الوصول إلى سن المعاش . المعاش من الخدمات الاجتماعية : ظهرت الخدمات الاجتماعية عصر انتشار العلم، وتعميم التربية المستقبلية عليه، من التعلم والتكوين المستمر بالعمل ومن مجال التعليم بالساحة الاجتماعية والدولية، ومن تم نتج عن التطور في الفكر البشري، التطور من العصر في الحياة وأداة العمل . وحلت من الشغل المؤسسة العمومية، والمؤسسة الخاصة، ومؤسسات الشراكة من القطاعين، وكذا الحرة، والمقاولة، المدعومة من الدولة، قصد الاندماج في المنظومة الاجتماعية التي تراعي الحقوق الفردية بالمجتمع . ومن تم صارت ديمومة العمل على الضمان الصحي والضمان الاجتماعي لحقوق المستخدم من مجال عمومي أو شبهه، أو من مؤسسة خاصة أو مجال خاص . وصار العامل يشتغل في إطار الشروط التي ينظمها القانون من حقوق العمل وواجبات العامل، والتي لعبت فيها الطبقة العاملة دورا تاريخيا وعالميا، من المجموعة المجتمعية والدولية في النهوض بها ومسايرة تطورها لكل زمان ومكان لفائدة الانسان . وتقديرا للمجهود البشري من عمل الانسان، الشاق على ذاته أو ذابته على مدار حياته في إطار المعاش اليومي، تطور مجهوده من روح العمل والعصر إلى الاشتغال بالآلة، التي خطط لصنعها ورسم القوانين للعمل بها، وحماية الانسان من أخطارها وقوانين العمل المصاحبة لها، والتي تؤمن للإنسان من نهاية سن العمل، المعاش من سنوات عمله . وهكذا كان عمل الانسان قبل منظومة العمل الاجتماعية، يقوم في مجال الشغل على مقابل يسمى معاش يومي من كدح عرق الجبين، أو أتعاب يومية، ثم تطور عهد الآلة والمنظومة الاجتماعية الى راحة مستقبلية بعد الكدح العملي، وضمان معاش آمن من راتب تقاعدي، يؤمن الحياة من محل راتب العمل . ومما استرعي الاهتمام الملكي من عهد جلالة الملك محمد السادس نحو الطبقة الاجتماعية في هذا الباب، من سنة جائحة كرونا، الاعلان من خطاب العرش لسنة 2020 ،عن النهوض بالمجال الاجتماعي، وتحسين ظروف عيش المواطنين، من دعوة جلالته لتعميم التغطية الاجتماعية لجميع المغاربة، بتقديم جلالته مشروع وطني كبير وغير مسيوق، يرتكز على أربعة مكونات أساسية أولا : تعميم التغطية الصحية الاجبارية، في أجل أقصاه نهاية 2022، لصالح 22 مليون مستفيد إضافي، من التأمين الأساسي على المرض سواء ما يتعلق بمصاريف التطبيب والدواء، أو الاستشفاء والعلاج . ثانيا : تعميم التعويضات العائلية، لتشمل ما يقارب سبعة ملايين طفل في سن الدراسة، تستفيد منها ثلاثة ملايين أسرة . ثالثا : توسيع الانخراط في نظام التقاعد، لحوالي خمسة ملايين من المغاربة، الذين يمارسون عملا، ولا يستفيدون من معاش . رابعا : تعميم الاستفادة من التأمين على التعويض على فقدان الشغل، بالنسبة للمغاربة الذين يتوفرون على عمل قار . ومن خلال الاعلان دعا جلالة الملك كافة الشركاء للتشاور، واعتماد قيادة مبتكرة وناجعة لهذا المشروع المجتمعي، في أفق إحداث هيأة موحدة للتنسيق والاشراف، على أنظمة الحماية الاجتماعية . ومن هذا المشروع الملكي ذي الرؤية المستقبلية للحياة الاجتماعية، أضحى الفرد الذي كان يشتغل من فترة ما قبل الاصلاح الاجتماعي، في ظرفية من عدة نواقص اجتماعية، أصبح يجد الاطار الاجتماعي من مجال نشاط عمله اليومي والمقاولاتي، المؤمن لوضعيته بالتغطية الصحية والاجتماعية وحق المعاش من الحياة العملية، دون عالة على الاسرة أو دور العجزة للفئات المحرومة من التغطية الاجتماعية .