من قلب الأحزاب الإدارية يحكي ويتحدث هذا الكتاب – الشهادة: "مسار منتخب، لقطات من ذاكرة آيت سغروشن" (منشورات دار القلم) لمؤلفه بناصر أحوجيل. في هذا الكتاب السيرة يحكي بناصر أحوجيل عن مساره الطويل كمنتخب جماعي اشتغل في السياسة بدون انقطاع منذ 1976 كرئيس جماعة قرية صغيرة بالأطلس المتوسط هي: "آيت السبع" قبل أن ينطلق إلى السياسة الكبرى الوطنية. وهو ما جعله يتعرف على شخصيات مثل: المحجوبي أحرضان، عبد الكريم الخطيب، عبد الله القادري، إدريس البصري… كتاب غني بالمعلومات وبالتفاصيل عن سلسلة طويلة من الانتخابات المحلية التي عرفها المغرب طيلة 45 سنة. هذه اليوميات المفصلة والمدققة بعشرات الأسماء والصور عن الانتخابات وصراعاتها يعتبرها المؤلف شهادة للتاريخ وللباحثين. ويكشف فيها عن عدد من الحقائق ويسمي الأشياء بمسمياتها ويصف الأشخاص، الأصدقاء والخصوم، بسلبياتهم وإيجابيتهم بشكل صريح، لكن الكاتب يوضح أن هناك حقائق لم يحن الوقت بعد لكشفها. يحكي الكتاب "عن صداقات، ووفاء، وخيانات، وحقد، وعرفان، ونكران للمعروف" وهو ما يشكل وثيقة مهمة "لقراء العلوم الاجتماعية، وخاصة علماء السياسة" كما يقول الأستاذ عبد الله ساعف الذي كتب مقدمته. تدور أحداث الكتاب في مناطق عدة بحسب ساحة المعارك السياسية والانتخابية وخاصة في: قرية آيت السبع، وصفرو، وإيموزار الكندر، والرباط… وقد يكون من المهم هنا تحليل هذا التنقل الوجداني والسوسيولوجي للكاتب بين الرباط التي يسكن ويعمل بها، وبين قريته الأصلية التي ظل مرتبطا بها كمنتخب محلي. ومن أهم خلاصات الكتاب على هذا المستوى هي الهيمنة الكبرى لفكر القبيلة والعشيرة الذي يغلب بوضوح على فكر الحزب والبرامج الحزبية خلال مختلف مراحل المسلسل الانتخابي. انتمى أحجويل لعدد من الأحزاب الإدارية وخاصة الحركة الشعبية والحزب الوطني الديمقراطي، (يكشف مثلا عن تفاصيل الصراع بين الحزب الدمقراطي وحزب الأصالة والمعاصرة في المحاكم)، إلى جانب ترشحه باسم جبهة القوى الديمقراطية والاتحاد الاشتراكي… فالكتاب مناسبة لتسليط الضوء على ظاهرة هذه الأحزاب، ومساهمة في فهم واقعها من الداخل وميكانيزماتها، وتجنب النظرة المانوية التي تعتبر جميع من انتسبوا إليها مجرد خدام مأمورين بمهام سلطوية. يقدم أحوجيل العديد من الأمثلة عن أساليب تدخل السلطة في الانتخابات مثل قيام قائد بمدينة إيموزار يوم الانتخابات في 1983 ب"اعتقال" فريد من نوعه لعون سلطة برتبة "شيخ". بحيث أن القائد لم يعتقله في السجن بتهمة قانونية ولكنه أمره، عكس كل الشيوخ، بالبقاء في المكتب وعدم الخروج للقيام بعمله الميداني طيلة يوم الاقتراع بمبرر أنه يساند أحد المرشحين من أصدقاء أحوجيل. لكن هذا الأخير استطاع، بفضل علاقاته برجال سلطة آخرين، أن يضغط ويخرج الشيخ من مكتبه حتى يقوم بعمله. وهذا مثال يبين درجة تعقد وذكاء أساليب التدخل السلطوي في الانتخابات بالمغرب. في البداية، انتمى أحوجيل إلى حزب الحركة الشعبية، وترقى إلى عدد من المسؤوليات القيادية. لكنه قرر في النهاية أن يغادر الحزب بخيبة في 2002، وعندما سأله أحد قادة الحركة وهو الوزير السابق مصطفى المشهوري عن سبب مغادرته أجابه قائلا: "في "آيت السبع، عندما نحفر بئرا نجد الماء على عمق 40 أو 50 مترا. إلا أنني في الحركة الشعبية قضيت سنوات عديدة وأنا أحفر مآت الأمتار بدون أن أجد قطرة ماء واحدة. لهذا يجب علي أن أغير المكان". ويلمح الكاتب هنا إلى انعدام الثقة الذي انتهت إليه علاقته بزعيم الحزب الراحل المحجوبي أحرضان الذي كان هو عرابه ومعلمه السياسي. كما ينتقد في جملة صغيرة غياب تداول النخب بسبب استمرار محاند العنصر في قيادة الحركة الشعبية منذ 35 سنة. كانت الانتخابات البرلمانية في 1997 حاسمة أيضا في توقف مسار وطموح بناصر أحوجيل. كان طموحه هو أن يدخل البرلمان ليتوج مسيرته الطويلة محليا، لكنه تعرض لتضييق وتهميش. والسبب في ذلك هو تأليفه لكتاب بعنوان "بولوحوش والحقيقة الأخرى" عن مجرم خطير زرع الرعب والقتل والاغتصاب بمنطقة إموزار. ونتيجة ذلك يوضح أحوجيل بدون إعطاء تفاصيل أنه تعرض لعدة عراقيل لمنعه من الفوز بالانتخابات. ومن بين من يحملهم مسؤولية ذلك: محمود عرشان الزعيم السابق لحزب الحركة الاجتماعية الديمقراطية، أحد رموز القمع خلال سنوات الرصاص، الذي وعده بمنحه تزكية للترشح لكنه تراجع عن ذلك. ويتهم الكاتب "جهات أخرى" لم يسمها بالسعي إلى فشله في انتخابات 2002 و2007، كما يتهم أيضا ظاهرة استعمال المال في الانتخابات أو "مول الشكارة" كما يقول. ناصر أحوجيل رجل ميدان مارس السياسة عن قناعة وبهوس لسنوات قبل أن يقرر اليوم الابتعاد عنها والتفرغ مستقبلا للكتابة والاهتمام بالشأن العام بطرق أخرى. كما أنه سياسي مثقف، ورجل تعليم يكتب الشعر ويؤرخ للوقائع الاجتماعية المحلية حيث يسجل على هذا الصعيد الحصيلة السلبية للتسيير الجماعي التي أدت إلى تدهور خطير للبيئة بمدينة إيموزار التي كانت مشهورة بحدائقها وعيونها. ورغم أن خيط الحكي يكون متقطعا أحيانا ولا يسير بشكل واضح ومتسلسل خاصة عند تنقل المؤلف بين الماضي والحاضر، فإن هذا الكتاب من شأنه المساهمة في التأريخ السياسي، وفي تطوير النقاش العمومي حول موعد أساسي هو الإعداد للانتخابات الجماعية والتشريعية في 2021، وحول ربح الرهان الصعب للمشاركة فيها. من النقط التي لم يثرها: كيف انتصر العنصر على احرضان في 1986؟ ما هي علاقة الحزب بالادارة. هناك بعض الاشارات مثلا ان رئيس الدائرة في جماعة ايت السبع استدعي احوجيل وبعض المنتخبين الى مكتبه عقب انتخابات 1983 وقام معهم بتشكيل المكتب والرئيس ةيقول لهم صراحة انه يدعم حزب الحركة الشعبية، ويقول لهم يضرورة قطع الطريق على الاستقلال للرئاسة (ص 72). يتحدث عن دعم اطر الداخلية له احيانا لكنه يتحدث في مناسبات اخرى عن مضايقتها له وتهميشه حتى لا يفوز يشير فقط الى ان الحزب يرشح للانتخاات رجالا سبقين في الادارة والامن وبالتالي فان اطر الحزب مقربون من الادارة يكشف ان احرضان كان يفضل ان يشغل في وزارته الامازيغ ويرفض توظيف العرب. ينتقد احرضان وتهميشه له وينتقد طول مدة رئاسة العنصر للحزب منذ 1986. احضان طرد احوجيل في 1986 لانه رفض العمل في كمدير لمقر الحزب وبالتالي فليس هو من قرر مغادرة الحزب ترشح باسم الاحرار ايضا حكاية مسار مشوق لمنتخب محلي لا يقدم لنا كتاب ناصر أحوجيل "مسار منتخب محلي" فقط حكايات عن عملية أو عمليات انتخابية سابقة عرفها المغرب، ولكنه يحكي عن مسار مشوق لشاب من منطقة في الأطلس المتوسط هي "آيت السبع"، دخل إلى السياسة وهو في سنوات شبابه الأولى ليصبح منتخبا محليا، وأول منتخب بالمنطقة (ورئيسا للجماعة) على مدى عشرات السنين. في 1976، قرر أن يتقدم إلى الانتخابات. وكان الأمر يتعلق بمشروع غير مضمون النجاح، بل كان مغامرة. إذ لم تكن له إلى غاية ذلك التاريخ سوى تجربة في بعض الأنشطة الثقافية داخل الجمعيات. وهكذا انتمى إلى حزب الحركة الشعبية وتولى داخلها عددا من المسؤوليات. وعندما قرر في وقت لاحق أن يغادر الحزب، سئل عن أسباب هذا القرار، فكان جوابه كالتالي: "في "آيت السبع، عندما نحفر بئرا نجد الماء على عمق 40 أو 50 مترا. إلا أنني في الحركة الشعبية قضيت سنوات عديدة وأنا أحفر مآت الأمتار بدون أن أجد قطرة ماء واحدة. لهذا يجب علي أن أغير المكان". يضع كتاب ناصر أحوجيل رهن إشارة الفاعلين السياسيين المحليين والوطنيين، والمراقبين والباحثين في العلوم الاجتماعية شهادة ذات قيمة كبرى على مستوى التوثيق وغير مسبوقة على حد علمي. يتعلق الأمر بحكاية ذات أسلوب بسيط ومؤثر موضوعها هو سرد تفاصيل حياة سياسية محلية غنية وثرية. حكاية تكشف عن ارتباط يكاد يكون جسديا للكاتب ب "آيت السبع" على مدى زمني طويل، إلى درجة أنه يصف الجماعة بأمه الثانية. تتوالى الوقائع والأحداث التي يتناولها الكاتب منذ 1976 إلى غاية اليوم على شكل حلقات مسلسل مثير يشد الانتباه. وخلال هذا الحكي، يجري الكاتب حوارا مفتوحا مع القارئ بحيث يذكره بالخيط الرابط لقصته ويرسم في خلفيتها لوحة عامة للسياق السياسي ولشخصيات طبعت الحياة السياسية الوطنية (مثل المحجوبي أحرضان، عبد الكريم الخطيب، محاند العنصر، عبد الله القادري، مولاي أحمد العلوي، رضا اكديرة، إدريس البصري…) ولشخصيات محلية من بلدته (عمال العمالات، ممثلو الإدارة الترابية، مسؤولون ومنتخبون في الأقاليم والجهات، وأعيان، وغيرهم…)، إلى جانب تطرقه للأحداث الكبرى للحياة السياسية، ولقصص ونوادر عاشها… جماعة "آيت السبع" هي الميدان الذي تقع داخله مجريات مسار هذا المنتخب وفيه يخوض معركة متواصلة من أجل تأكيد مشروعيته كمرشح في البداية، ثم كمنتخب، ثم كرئيس جماعة. يتعلق الأمر بكفاح خلاله يظهر ويختفي حلفاءه وكذا حلفاءه الجدد وأصدقاءه وداعموه ومساندوه. حيث يواجه الخصوم، والمنافسين، والأصدقاء المزيفين، والأعداء، وناكري الجميل، و"الخونة"… وغيرهم. كما يتوقف الكاتب عند لحظات ومحطات التعبئة والإقناع، ويعيد تركيب هذا المسار الطويل وما تخلله من حكايات عن صداقات، ووفاء، وخيانات، وحقد، وعرفان، ونكران للمعروف، ودعم راسخ لا يتزعزع، وانشقاقات غير منتظرة أحيانا. خلال الانتخابات تزداد حدة الإستراتيجيات الفردية والجماعية. أما خارج الفترات الانتخابية، فيجري الإعداد للانتخابات المقبلة. وبالمناسبة، وبخصوص الانتخابات، يحذرنا الكاتب قائلا: إن الحصول على أصوات الناخبين لا يخضع لأي منطق. وفكرة "الرجل المناسب في المكان" ليست إلا شعارا قديما وفارغا يتم رفعه من أجل بيع الأوهام. أما البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية فلم تعد سوى خطابات بدون مضمون لا تصلح سوى للاستهلاك. فاليوم، لا يهم كثيرا، حسب الكاتب، أن يكون المرشح مناسبا أو لا. ما يهم بالنسبة للناس هو أن يكون لديه المال (مول الشكارة). منذ ولايته الأولى كمنتخب، سيتضح أن تدبير الشؤون المحلية أمر صعب ومعقد. فالحاجيات هائلة في حين أن الإمكانيات محدودة. وهكذا نتابع كيف يقوم الكاتب مع فرقه بالبحث المتواصل عن الموارد والإمكانيات. في 1976، كان مسلسل اللامركزية ما يزال في بداياته. وكانت سلطة الوصاية كبيرة وثقيلة وصلاحيات المنتخبين تكاد تكون ذات طابع رمزي. وكانت "الجماعة" القروية ما تزال تعيش في وضعية المؤسسة الشكلية. بعد انتخابه، سيكتشف الرئيس الجديد ظروف وإمكانيات عمله المحدودة وهي: غرفة بئيسة داخل مقر السلطة المحلية كانت بمثابة مكتب له، وبضعة موظفين. وقد عرفت حدود الأراضي التابعة للجماعة تطورا واتساعا مستمرا وهو ما كان يجبره في كل مرة على أن يتألقم مع التقطيع الإداري الجديد. اضطر الرئيس الجديد إلى أن ينطلق في العمل بأشياء قليلة مثل: كرسي محترم، بضعة موظفين، وإمكانيات، وثقافة محلية للمرفق العمومي تتشكل تدريجيا … كانت السياسة المحلية في "آيت السبع" تتمحور بالأساس حول تزويد السكان بالماء الشروب (النافورات، العيون) والكهرباء، والطرق والمسالك، وأداء ديون الجماعة المتعلقة بالعقار إلى الأفراد، وتدبير الخدمات اليومية… لكن هل كانت القرارات الإستراتيجية تدوم وتستمر من موعد انتخابي إلى آخر؟ يقدم لنا الكاتب هنا تفاصيل تتعلق بقرار تم اتخاذه خلال إحدى ولاياته، وكان يقضي بتغيير مكان السوق الأسبوعي وتحويله من الجماعة إلى مكان آخر له موقع أفضل وأوسع ومجهز بشكل أحسن. ولهذا الغرض، تم الحصول على قرض مهم من صندوق التجهيز الجماعي. كان الموقع القديم في ملكية الجماعة ومسجل باسمها في الرسم العقاري. وقد تم التفكير في تسليم الموقع لمستثمر خاص ليبني فيه تجزئة سكنية بشكل يوفر موارد مالية مهمة للجماعة. ويمكن أن نتخيل التكلفة الكبيرة التي كلفها هذا القرار سواء على مستوى الوقت والمشاورات، والجهود المبذولة لإقناع المنتخبين الآخرين وللتأثير على السلطات، وكذا للتنقل بين الجماعة والإدارات. لكن المجلس الجماعي الذي حل محل المجلس الذي اتخذ هذا القرار، سيقرر بكل بساطة أن يطوي القضية وألا يواصل الاهتمام بها. يرى الكاتب أن الكفاءات السياسية لا تقتصر فقط على القدرات الخطابية وعلى الخداع. ولكنها أولا وقبل كل شيء معارف وقيم. فهي لم تعد حديقة يكفي أن ندخل إليها لنقطف الأزهار متى نريد وكيفما نريد. فالسياسة، حسب الكاتب، هي كفاح مستمر وقدرة على المرونة والتأقلم لمواجهة كل التحديات مهما كان الثمن. تكمن أهمية الكتاب في كونه يعيد بناء مسار هام ومتميز له خصوصيته، مسار فاعل سياسي محلي أصبح محترفا للشأن المحلي بحس براغماتي وبصدق. لقد نجح الكاتب في أن يعرض، في الوقت نفسه، التاريخ السياسية لمنطقته وأن يشعر القارئ بزخم وكثافة الحياة السياسية داخل جماعة في عمق جبال الأطلس، وكذا بحساسية الرهانات داخلها. كتاب أوصي القراء بشكل عام وقراء العلوم الاجتماعية، وخاصة علماء السياسة، بقراءته قراءة متأنية. عبد الله ساعف مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية. أكتوبر 2020