هو السؤال الأصعب والأخطر على المتلقي حين ينتهي إلى فراش الاحتضار قبيل الرحيل إلى العالم الآخر، حيث المصير المجهول، وحيث الحساب الدقيق العادل، المنعدم فيه وخلاله الظلم، أو الانحياز لفئة "الصفوة"، أو التجاوز لاعتبارات "خاصة"، أو "استثنائية"… هل عرفتني..؟ هو السؤال الذي يحاول كثير من "الكبار" تجاهله، حين يبدو بعيدا، ومستبعدا، وغير ذي موضوع، حين يكون (المتلقي) بعيداً بَعْدُ عن التلقي.. وعن فراش المرض، و.. الموت ! هل عرفتني..؟ هو السؤال المتوقع المخيف الذي يترقبه المتقاعد (…) الذي اخترقه المرض وتنوع فيه، وباتت الأوجاع والآلام جزءاً من أعضائه وأضلعه، فيتوجس هلعا كتوما.. ! هل عرفتني..؟ هو السؤال الذي لا يمكن أن ينكره الذي كان الطغيان والاعتداد بالذات فقرات من ظهره، فلم يكن يعير اهتماماً لحساب آت بلا ريب، مقبل مقترن بضعف وسهو لازب.. هل عرفتني..؟ هو السؤال البريء الملغوم في آن، هو نهاية العالم المعيش بين الأهل، ومقدمة الإطلال على عالم هو للطغاة البتة بلا أهل ! وبعيدا عن الخوض في "الميتافيزيقا"، وحتى في ما يتصل بالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتقاطعة الراهنة شرقا وغربا، أو الأوبئة والطوارئ المختلفة التي باتت متربصة بالإنسانية إلى جانب الانحرافات المختلفة (من إرهاب وأصناف العدوان الفردي منه والجماعي) المستفزة للفطرة البشرية والطموحات العلمية والمعرفية النبيلة، يظل التمرد على النصوص والتشريعات إلى حد تحويرها نحو الوجهة التي تخدم أنانية كثير من الأقزام الذين بلغ بهم طموحهم المجنون بلوغ درجة القداسة وتوخي استبعاد المساءلة والمحاسبة على ما يأتون من رذائل شخصية وإدارية وسياسية تستوجب أقسى وأقصى عقاب. بعض الناس ممن أوكلوا مهام رعاية صنف من الناس، في إطار تكتل الخدمة العامة، يرون أنهم بلغوا المراد بأن أُعْطُوا فَرَضَوْا (…) ظاهرا، لكنهم في واقع الحال منشغلون على الدوام بأخذ كل شيء على طريقة التاجر "الشاطر" الذي يخلط السلعة.. فيدس الفاسد في الجيد، وتنطلي الحيلة على البسطاء والسذج، وهو غافل لا يبالي بذاكرة المظلوم ولا بتراكم الأيام ولا عواقب السنين.. ! هؤلاء، من يدوسون على حقوق الناس ممن أَعْطَوْا وأَبْلَوْا البلاء الحسن في الإخلاص للواجب أداء وعطاء، غير مبالين بأن العدالة الحقة تستوجب محاسبتهم بكل قسوة لولا انحراف القائمين على مسؤولية المحاسبة أو ضعفهم أو غفلتهم.. ! بل يجدون مع كل ذلك من يزين ويحسن لهم أعمالهم، بخلاف ما اجتمعت عليه الموازين والقيم النقلية منها والوضعية، ومنها مثلا ما جاء عن ابن رشد حين قال – فيما قال -: "الحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل…". وخارج الحدود، هناك من يبدو أنه ينكر التاريخ تماما – إلا فيما وافق هواه – ويستعلي بغرور على بصمات حية منه، ليستعرض مِزاجاً، ما يزعم أنها شهادات و"رأي عين" – ليس إلا (…) – من التاريخ، متصلة بما يُرضي نرجسية مرضية "تاريخية" لأخوة أعداء (…)، بينما ينفي – بلا أدنى خجل أو حياء – مأساة مظالم وظلمات أصابت عمق وصميم أخوة مغدورة خلال أيام ذات عيد أضحى.. بل وصبيحة يوم النحر تحديدا؟ !(هذا على سبيل المثال وحسب)، وهناك من "الأفاضل" من ذهب بعيدا جدا إلى حد الإشهاد "في شهادته على العصر".. بأن صاحب ذات الظلم ونفس العدوان إنما انتهى به عهده "مقتديا بالصحابة رضوان الله عليهم" ! وبينما يلح ويصر صاحب "شتات التاريخ" – الذي يقر (…) أنه ليس مؤرخا – على "شهامة" ولي نعمته ومواقفه "البطولية المتزنة ورجاحة قراراته النيرة…"، على الرغم من المساوئ والمصائب التي أحدثها ضدا في الدين والتاريخ والجغرافيا وأواصر الجوار ومنطق العقلاء، والتي أراه، ولست مفتيا وأستغفر الله، سيتحمل وزرها ووزر من عمل بها بعده إلى ما شاء الله، يصر في ذات الآن مع ذلك على إنكار كل تصرف نبيل، أو مبادرة أخوية صادقة بَيِّنَة، ممن قاسموه ما يُحيي القلب ويُرضي الرب، هؤلاء الذين تعرضوا لكل أشكال العدوان والغدر والتحرش على مدى سنين وعقود متصلة إلى يومنا الحاضر ! ولأن صاحبنا أيضا يعيش مرحلة المحاق، على حد تعبيره في شهادة "إيجابية" له أيضا طالت مؤخرا أحد كبار المفسدين، لا أرى ضيرا في التقرب منه همسا بالقول: هل عرفتني..؟ والقصد، اتق الله (يا محيي الدين) في ما تقول وما تكتب ! ويحضرني هنا، قبل أن أغادر، ما قال الشاعر الحكيم أحمد مطر: "العبد ليس من طوى قبضته القيد.. بل هو من يده مطلقة وقلبه عبد". إن سبب تخلفنا الشخصي والأسري والمجتمعي.. يعود بالأساس إلى استبعادنا للضمير من واجباتنا الوظيفية سياسية أم إدارية أم غير ذلك، واستخفافنا بالفرائض المتصلة بدلالات وجودنا، وما يتصل بالقيم التي نزعم الانتساب إليها جهرا، كما أن غياب الشعور بساعة المحاسبة أو يوم الحساب، واطمئناننا لأعمدة (…) الزمن الرديء، وشهادات الكذبة والخونة والمنافقين والمتزلفين، يشجعنا على الغي والتيه، ويُغَيِّبُ فطنتنا وبصيرتنا…