تصوروا شعبا يطالب بالعيش دون فن. هذا يعني أمرين: إما أنه مكتئب لدرجة لم يعد يفكر معها إلا في البقاء كهدف أسمى، ولا يهمه أمر وجدانه، ولا قيمة الثقافة كحامل لقيم جمالية. وهذا في حد ذاته خطير ويسائل الأسباب الهيكلية الكامنة وراء ذلك. أو أن هذا الشعب أصلا لا يعي دور الفن في الحياة. وهنا ندرك أن عالميه المادي والرمزي يختزلان في الأكل والتوالد، ليس غير. وتلك مصيبة لا راد لها إلا قدر الله إن هو قدر وقضى. هذا الانطباع خلاصة ما أثير هذه الأيام حول دعم وزارة الثقافة للمشاريع الفنية، وهو أمر درجت عليه منذ سنوات. ويكمن لب المشكل في أن الجدل بخصوص مسطرة الدعم شيء، وأن ينعي الشعب على الفنان أن يتقدم بمشروع فني وفق ما ينص عليه القانون شيء ثان. إن الخلط بين الاثنين قاتل. والفنان لا جرم ولا ذنب ولا جريرة له في كل هذا. ومعلوم أن الدولة توفر منذ سنوات الدعم للمشاريع الثقافية في مجالات الغناء والموسيقى والكتاب بمختلف صنوفه والمسرح والسينما، وأنا كنت أكثر من مرة عضوا في لجنة دعم الكتاب والمجلات والإقامات الإبداعية. ودعم المشاريع الفنية والأدبية والفكرية لا علاقة له بالدعم الاجتماعي. هذه مسألة أخرى. وأنا أطالب بها كذلك إلى جانب تسوية وضعية كل المبدعين، خاصة منهم الذي لا يتوفرون على مصدر رزق جانبي، لتوفير ضمانات العيش الكريم لهم. لحديث سؤال كيفية صرف الدعم مقام آخر لا أخوض فيه هنا. لكن أن تصبح ظرفية الدعم مدعاة لشيطنة الفن، بغض النظر عن مستواه وأساليبه، أو إقصاء جزء منه فقط لأنه لا يعجب فئة ما، فهذا ليس صحيا تماما. كفى من استغلال الفرصة لتبخيس الفن كيفما كان نوعه. إن الفن بنا محيط، فنحن نستمع إليه على الأقل، وربما في غفلة عنا، كفاصل موسيقي داخل نشرة الأخبار أو منبه حين نتوصل بمكالمة هاتفية. ثم هل تعرفون كيف يصبح الفنان كذلك؟ حين يكون جزء كبير من الشعب نائما، يكون هو ساهرا يتدرب ويشذب نفسه، وهو في الغالب يتقدم في الميدان دون بوصلة تؤمن له الوصول لمرفأ النجاة. ويلاقي الصعاب التي لا تخطر على بال الإنسان العادي. ثم هو يضغط على نفسه وأحاسيسه بل وكرامته أحيانا خدمة لفنه. الفنان المرتبط بفنون الغناء والموسيقى الذي أعنيه تحديدا هنا، سواء موسيقيا كان أو مغنيا أو موزعا، ليس مجرد نتاج ساعة من الاستثمار. ولا يمكنه أن يكون شخصا شبحا لأن فنه شاهد عليه. وتاريخه لا يبدأ من زمن ترشيحه للاستفادة القانونية من دعم الدولة. على كل من يريد الاستفادة من دعم الدولة، أن يطالب بذلك، خارج تجريم الفن والفنانين. وكم هو مضحك أن تقوم القيامة حول دعم بقيمة 160 ألف درهم لأربعة مشاريع فنية قد يشارك فيها، تراكميا أربعون شخصا أو يزيد. ثم إن هذا الدعم ليس خاصا بمستتبعات جائحة كورونا. بمعنى أنه لا علاقة له البتة بظرفية الوباء. والقانون واضح في هذا الباب. والتنازل من بعض الفنانين عن الدعم ليس حلا. لأنه حقهم المشروع. ولا يمكن تفسير التنازل عن الحقوق إيجابيا لأنه قد يخلق نوعا من البلبلة، وقد يخدم أجندات خاصة، لا الصالح العام أو الفئوي في حالة الفنانين. المهم أن الشعبوية، التي نزحت من السياسة إلى الفن، تضرب اليوم أطنابها في قضية دعم المشاريع الفنية المدعمة من وزارة الثقافة. وصفوة القول، إن هذا الدعم لا علاقة له بالريادة، سواء كانت حقيقية أو متوهمة، أو بالسن، بل هو مرهون بالجدة والابتكار، دون خروج عن نطاق الثقافة المغربية في ديناميتها التي غالبا ما يترجمها الشباب، وحتى الأسماء المبدعة غير المعروفة، بشكل أكثر ذكاء . في كل الأحوال، قد تكون هناك مشاكل ما مرتبطة بدعم الفن رسميا بالمغرب لكن، من فضلك أيها الشعب الطيب، لا تجعل الفنان ذلك الحجام الذي يتم شنقه بمجرد انهيار صومعة لا علاقة له بها.