تشهد الآونة الأخيرة بالمغرب، تداولا واسعا حول النموذج التنموي الذي نطمح إليه والمجالات الحية التي ينبغي أن يطالها؛ في ظل ظرفية عالمية ووطنية، أقل ما يقال عنها، أنها مضطربة وغير مستقرة، و تتميز بالعديد من التغيرات، لاسيما في ظل تفشي جائحة كورونا: اضطراب في الأسواق وفي سلاسل التموين الدولية؛ تباطء في الاقتصادات؛ تراجع في الخدمات وفي الاستهلاك؛ انهيار شبه تام في قطاع التصنيع؛ سقوط بورصات في دول كبرى؛ تنامي السياسات الحمائية، و توجه عدد من الدول نحو الانغلاق والاعتماد على الذات؛ تفاقم حدة التوترات التجارية بين القوى الكبرى، خاصة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين؛ كذلك التحديات التي سيطرحها في المستقبل القريب جدا، الانتقال إلى عصر "الذكاء الاصطناعي"؛ وكذا تزايد الصراعات الجيوسياسية، وما ترتب عنها من انعكاسات على تراجع آفاق النمو العالمي، والتقلبات الكبيرة لأسعار الغاز والنفط، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانعكاس كل ذلك حتما على بلادنا؛ مما يفرض علينا، ضرورة التفكير في أسس وأولويات جديدة لمشروع تنموي متكامل؛ قوامه التحديث والديمقراطية والإقلاع الاقتصادي؛ وهي كلها مبادئ مركزية للدولة التنموية. لقد حظي موضوع التنمية باهتمام المفكرين والساسة ورجال الاقتصاد، حيث أخذ حيزا كبيرا من التناول في العقود الأخيرة، سواء على مستوى التنظير الاقتصادي والبحوث العلمية، أو على مستوى المؤسسات الدولية ومراكز البحث، أو على مستوى السياسات الاقتصادية للدول، وذلك نظرا لما له من تأثير عميق على الأفكار والبنيات والاختيارات والقناعات. والتنمية في مدلولها العام، هي التغيير واعتماد خيارات بديلة، رجاء الوصول إلى وضع أفضل، يشمل الإنسان والمجتمع والدولة؛ بمعنى يشمل في آن واحد، النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.. فبعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدا عقب انهيار نمط التنمية السوفياتي، كان لا بد للفكر الاقتصادي، وخاصة مدارس "اقتصاد التنمية"، من إعادة النظر في العديد من النماذج التنموية السائدة في العالم؛ كما أن خروج الولاياتالمتحدةالأمريكية منتصرة في الحرب الباردة، ساهم إلى حد كبير في تكريس مبادئ الرأسمالية وقوى السوق؛ وهي الفلسفة التي ظهرت خلال القرن الثامن عشر، وقامت عليها المدرسة (التقليدية) أو (الكلاسيكية) التي وضع أسسها المذهبية آدم سميث وديفيد ريكاردو، وروبرت مالتوس وجون ستيوارت مل وآخرون، والذين يشتركون جميعهم في فكرة التحليل الجزئي المرتبط بالقطاعات الإنتاجية، وخاصة الزراعة، وتأثير الزيادة السكانية؛ وقد تبنى هؤلاء الاقتصاديون التقليديون (أو الكلاسيكيون) حتمية التوازن التلقائي، من خلال القوة السحرية للسوق، ومبدأ الحرية الاقتصادية، ونظام المنافسة المبني على المبادلات الفردية وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد، إلا بغرض فرض بعض الضرائب لتمويل نفقاتها في الدفاع والقضاء والأمن. هذا، بالإضافة إلى نظرية النمو الكلاسيكية المحدثة (النيوكلاسيكية) التي تربط النمو الاقتصادي أساسا بالادخار والتقدم التكنولوجي وعملية تكوين رأس المال. هذه العقيدة لم تصمد طويلا، خاصة خلال القرن العشرين، بعد ظهور بوادر أزمة اقتصادية عميقة؛ أزمة كساد، استمرت لعدة سنوات؛ حينها بدأ البحث عن آليات جديدة كفيلة بتحقيق الاستقرار للاقتصاد العالمي؛ وهو ما تم من خلال أبحاث جون مانيار كينز؛ أبحاث كرست لنهج مختلف في إدارة الاقتصاد، وذلك بالاعتماد على الدولة وعلى دورها الاقتصادي؛ فجون مانيار كينز يعد أول من حول منهج التحليل الاقتصادي من نظريات جزئية وفردية وتقليدية (و ما يعرف بالاقتصاد الجزئي) إلى نظريات كلية عامة (الاقتصاد الكلي) فقبله، كان الاقتصاديون الكلاسيكيون ينطلقون من التوازن، ويهتمون بالحياة الاقتصادية، من خلال تصرفات الأفراد، ويرون أنها هي التي تتحكم في التوازن الاقتصادي، وفي الاختيارات المتعلقة بالإنتاج والاستهلاك؛ بينما تنطلق النظرية الكينزية من اختلال التوازن، وترى أن المنهج الصحيح في أن ينظر نظرة شمولية وكلية لمجموع النشاط الاقتصادي، على مستوى الدولة والمجتمع. وبعد طرح منهجه، أخذ الاقتصاديون في أوروبا وأمريكا، يركزون (تحت تغطية المحاسبة الوطنية القائمة على منهجه) ويعبرون بالاقتصاد الوطني، والإنتاج الوطني، والاستهلاك الوطني، والدخل القومي، والمالية العامة للدولة، والنظريات العامة للنقود والأثمان، ويحولون الاهتمام بالتاجر والصانع والفلاح إلى الاهتمام بالقطاعات الاقتصادية الكبرى التي تمثل العمود الفقري في اقتصاد الدولة، والمتمثلة في التجارة الداخلية والخارجية، والصناعة التقليدية والعصرية، والفلاحة الغذائية والتجارية... الأمر الذي ساعد على التطور الاقتصادي. وفي نظرية ما يعرف "بتناقضات المضاعف"، فقد طرحه كينز على مستوى النظرية العامة، وأعطاه موقعا إستراتيجيا في عملية تحديد مستوى النشاط الاقتصادي؛ وعلى عكس ما فعله الآخرون، ركز على الطلب بدل العرض. لقد قدم كينز نظرياته في كتاب أصدره سنة 1936، تحت عنوان "النظرية العامة للنقود والفائدة والاستخدام"، وكان صدوره بعد أزمة 1929، والتي نخرت كيان النظام الرأسمالي، وخلقت من المشاكل ما استعصى حله. كينز ارتبط إسمه كما هو معلوم، بهذه الأزمة، ويمكن اعتبار فكر كينز بمثابة "ثورة فكرية" فيما يتعلق بتحليل النظام الرأسمالي في مرحلة الأزمة؛ وأهم ما جاء به كينز، في كتابه المشهور، هو كيف يمكن تجاوز الأزمة الرأسمالية؛ فكينز انتقد النظرية الكلاسيكية والنيوكلاسيكية، واقترح مقابل ذلك، منهجا مخالفا للخطاب الاقتصادي الذي ساد من قبله، لا من حيث المضامين، ولا من حيث التوجهات الاقتصادية والسياسية. وقد سيطرت هذه المدرسة على الفكر الاقتصادي منذ ثلاثينات القرن الماضي، حتى أصبحت هي الأساس الذي يقوم عليه النظام الاقتصادي العالمي، من خلال اعتمادها سنة 1944 في مؤتمر بروتن وودز، والذي كرس لدور الدولة، وقطع مع ما كان يسمى بالتوازن التلقائي أوالقوة السحرية لليد الخفية، في تحقيق التنمية والاستقرار الاقتصادي العام. وبالموازاة مع ذلك، برز التيار الماركسي الذي وجه معظم مناقشاته، ضد الفكر الكلاسيكي؛ فهاجم طريقة التحليل الاقتصادي التي كان يتبعها الكتاب الكلاسيك، كما هاجم النتائج التي توصلوا إليها، حيث قامت النظرية الماركسية على أن التطور يرتكز على أساس مادي؛ هو طرق الإنتاج، أو الوسائل التقنية المستخدمة في عمليات الإنتاج؛ ومن هنا، يستنتج ماركس بأن جميع التيارات الفكرية والأخلاقية والدينية ليست في الحقيقة سوى انعكاسات لهذه التقنية ونتيجة لها؛ فالتطور الاقتصادي المادي إذن، هو الذي يكيف التطورات الفكرية والفلسفية والاجتماعية؛ وهذا ما يعرف بمادية التاريخ؛ على أن هذه النظرة إلى العوامل التي تحكم التطور التاريخي، هي لاشك نظرة مبسطة؛ فهناك عوامل أخرى كثيرة، دينية وفلسفية واجتماعية وأخلاقية، تؤثر على ذلك التطور. ولكن، على الرغم من هذا العداء تجاه الفكر الكلاسيكي، فإن المتتبع لتطور النظرية الاقتصادية، يجد أكثر من دليل على أن ماركس قد استعان به كثيرا. لقد هيمنت آراء ماركس على تطور الاشتراكية العالمية، اعتبارا من أواخر القرن التاسع عشر إلى حدود منتصف السبعينات من القرن الماضي؛ وهي الفترة التي عرف فيها العالم أزمة نفطية لا مثيل لها، تجلت أساسا في ارتفاع أسعار النفط، وظهور ما يسمى "بحالة الركود التضخمي"؛ والتي أعلنت بوضوح عن فشل السياسات والبرامج الحكومية الرامية إلى احتواء التضخم والقضاء على البطالة، خاصة داخل الدول الصناعية. وكرد فعل لذلك، وتجاوبا مع الأزمة، ومحاولة للحد من تداعياتها السلبية، ظهرت أفكار ميلتون فريدمان؛ وهو أحد أهم رواد المدرسة النقدية، وأبرز الباحثين في "مدرسة شيكاغو" الاقتصادية، حيث طالب بالعودة من جديد، إلى اعتماد قوانين السوق، ونهج آلية الخوصصة، والعمل على تطوير القطاع الخاص، ودعا في الوقت نفسه، إلى منح الاستقلالية الحقيقية للبنوك المركزية، و ابتعاد الدولة عن الاقتصاد، حيث هاجم الحكومات واعتبرها بمتابة "الرجل الاقتصادي الفاشل"؛ وفي حين مسؤولية رأسمال تكمن في الاستثمار وخلق فرص الشغل وتحقيق النمو، يجب أن يقتصر دور الدولة أساسا على مراقبة التضخم. وإذا نظرنا إلى التيار الفكري الاقتصادي الذي ساعد على عودة هذه الليبرالية الجديدة، نجد أنه متشعب؛ يجد بذوره في مدارس متعددة؛ فالمدرسة النقدية الجديدة ساعدت بشكل ما، على تدعيم الفكر الليبرالي الجديد، بإلقاء بذور الشك في مدى قدرة الحكومات على تحقيق الاستقرار الاقتصادي، عن طريق السياسات المالية وعجز الموازنة. و يرى أنصارها على العكس، أن الاستثمار الخاص أقدر وأكفأ من الاستثمار العام؛ ومن هنا، أهمية التأثير في النشاط الاقتصادي عن طريق السياسة النقدية، بدلا من السياسة المالية، وبخاصة عجز الموازنة. يأخذ فريدمان على كينز، كونه وإن اهتم بدراسة الطلب على النقود (تفضيل السيولة) فقد اعتبر أن عرض النقود متغير مستقل، يتوقف على السلطات النقدية، وأنه (كينز) بالتالي، لم يوجه اهتماما كافيا لمسألة عرض النقود، تاركا السلطات النقدية، دون توجهات محددة؛ كذلك وربما أكثر خطورة، فإن تحليل كينز للطلب على النقود، انتهى إلى أن هذا الطلب غير مستقر، ويمكن أن يتغير بشكل كبير. أما فريدمان معتمدا على دراسته الإحصائية، فقد لاحظ أن الطلب على النقود أكثر استقرارا مما يدعي كينز، وأنه يتوقف بصفة عامة على الدخل؛ وقد ساعد فريدمان في الوصول إلى هذه النتيجة، دراسته للاستهلاك (1955) وما استخلصه منها، بأن الاستهلاك يتوقف علي الدخل الدائم للفرد؛ وانتهى فريدمان من كل ذلك، إلى أن الإنفاق على الاستهلاك يتمتع باستقرار كبير. وهكذا، استخلص فريدمان من دراسته للاستهلاك من ناحية، والتطور النقدي في الولاياتالمتحدةالأمريكية خلال قرن، من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين من ناحية أخرى، (استخلص) أن الطلب على النقود أكثر استقرارا، مما أشار إليه كينز؛ وبالتالي، فإن زيادة عرض النقود أو نقصانه يؤذي مباشرة إلى زيادة الإنفاق أو نقصانه؛ ومن ثم، فإن لعرض النقود تأثيرا مباشرا على مستوى الأسعار. ويمكن التعبير عن الخلاف بين كينز و فريدمان في هذا الصدد، باستخدام فكرة سرعة تداول النقود؛ فهي عند كينز غير مستقرة، بعكس فريدمان الذي يرى أن سرعة التداول تتمتع بقدر كبير من الاستقرار. وكان من رأي فريدمان، أن الاستقرار الاقتصادي يتطلب زيادة عرض النقود بنسبة ثابتة أو مستقرة، تتفق مع معدل النمو الاقتصادي؛ ومن هنا، فإن دور السلطات النقدية يتحدد بمهمة واحدة؛ وهي رقابة كمية النقود، والعمل على نموها بمعدل مستقر ومتفق مع معدل نمو الاقتصاد القومي. حصلت هذه الأفكار على دعم سياسي كبير، بعد صعود كل من رونالد ريغن في الولاياتالمتحدةالأمريكية و مارغريت تاتشر في بريطانيا، حيث ما فتئت أن تحولت إلى سياسات عمومية وبرامج اقتصادية، في جل دول العالم، وخاصة داخل البلدان النامية، وذلك بفضل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي؛ وهو ما اعتبر حينها انتصارا؛ أطلق عليه "إجماع واشنطن"؛ قامت من أجله وزارة الخزانة الأمريكية بدور كبير، حيث تولت مهمة إقناع مسؤولي الصندوق والبنك بجدوى الخوصصة، وتقليص دور الدولة، وتركيز دور السلطة النقدية في احتواء التضخم، ومطالبة الحكومات بتحقيق الاستقرار المالي كأساس لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. استمر هذا الفكر إلى بداية القرن الحالي، خاصة بحلول الأزمة المالية ل 2007، والتي أبانت مرة أخرى ومما يدع مجالا للشك، عن فشل ما سمي ب" اليد الخفية" و"قوانين السوق" في تحقيق التوازن، وذلك بعد انهيار شركاث وبنوك عملاقة؛ فلم يعد هناك من بديل عن تدخل الدولة من جديد وبقوة هذه المرة وأكثر من أي وقت مضى، لإنقاذ الاقتصاد العالمي من شبح الانهيار التام. وهكذا، اعتمد الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي بمجرد توليه السلطة سنة 2008، وجد الأزمة أمامه؛ (اعتمد) برنامجا ماليا ضخما وغير مسبوق، للإنقاذ؛ يرمي إلى تدخل الدولة واقتنائها للأسهم، وإعادة تنظيمها للبنوك والشركات ومؤسسات التمويل العقاري؛ وبذلك تم تفادي حدوث أكبر كارثة اقتصادية في العالم عبر التاريخ؛ وهو ما اعتبر سقوطا مذويا لفلسفة فريدمان ول"مدرسة شيكاغو" ولما سمي ب "إجماع واشنطن" إن أغنى الدول في العالم، عانت ولا تزال من تداعيات أزمة اقتصادية ومالية صعبة جدا، وتسعى إلى الحفاظ على مكانتها في السوق العالمية، ولو على حساب حرية التجارة، وقوانين التبادل الدولي، ومختلف المبادئ التي قام عليها حتى الآن، النظام الاقتصادي العالمي؛ وفي مقدمتها، مبادئ المنظمة العالمية للتجارة، ومبادئ صندوق النقد الدولي؛ بمعنى أن هناك اليوم، عودة قوية للحمائية، وتحصين الاقتصاديات الوطنية من الخطر الصيني. واليوم، بدأ البحث، عن إجابات واضحة لإشكالات جديدة، تزامنت والانتقال إلى عصر الثورة الصناعية الرابعة، أو عصر ما يسمى "ثورة الذكاء الاصطناعي"، على أنقاد الثورة الصناعية الثالثة أو "الثورة الرقمية"؛ كذلك بروز ملامح تقسيم دولي جديد للعمل؛ يعني مما يعنيه، ضرورة الاختيار بين الانخراط في العولمة والاندماج في السوق العالمية أو نهج الحمائية والعزلة الاقتصادية وأسبقية السوق المحلية؛ إضافة إلى ضرورة تبني نموذج تنموي، انطلاقا من التجارب العالمية الناجحة، وعلى رأسها جميعا اليوم، التجربة التنموية اليابانية التي تربعت ولسنوات عديدة، كأحد أكبر التجارب الاقتصادية في العالم، وكانت الأقرب إلى الاتباع والاقتداء. إن "دور الدولة" كان ولا زال، قضية محورية، حولها يدور مجمل الفكر الاقتصادي منذ القديم؛ قضية لم يتم حسمها حتى الآن؛ وحسمها بعلمية وموضوعية، سيساعد كثيرا؛ في عملية اختيار النموذج التنموي الناجع، عالميا وإقليميا ووطنيا. "دور الدولة" هذا نعني به، "الدور التنموي للدولة"، ولا نقصد به إطلاقا، "الدولة التدخلية" التي تنظم وتدير وتنوب عن المجتمع وتقرر مكانه، والتي غلى كل حال، سادت لفترة طويلة، وإن استطاعت أن تحقق بعض الإنجازات، في عدد من الدول، فقد بقيت دولة هشة وبيروقراطية. ينطلق مفهوم "الدولة التنموية" من المكاسب المحققة على مستوى النماذج التنموية الناجحة في العالم، قديما وحديثا؛ على الأقل، منذ الثورة الصناعية إلى الآن؛ مع الأخذ بعين الاعتبار مجمل التحديات التي تواجهها الدول النامية بصفة خاصة، في عالم جديد، يتسم من بين ما يتسم به، بالانتقال من ثورة صناعية رقمية إلى ثورة صناعية يطبعها الذكاء الاصطناعي، مع ما قد تفرزه هذه الأخيرة من رهانات ومن تحديات. "الدولة التنموية" مفهوم حديث، يرجع إلى شالميرز جونسون، أستاذ الإدارة بجامعة بيركلي بكاليفورنيا؛ ويتعلق بمؤسسات الدولة؛ ويحدد وظائفها الأساسية، وكذا مجالات تدخلها في إدارة وتنظيم الاقتصاد وتنميته؛ إنه بمعنى آخر، نموذج تنموي محدد؛ ظهر أول مرة، ليصف التجربة اليابانية لإعادة بناء الاقتصاد، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، من خلال دراسة علمية، بطلب من الحكومة اليابانية؛ صدرت في كتاب يحمل عنوان "ميتي والمعجزة اليابانية"؛ والتي تناولت الدور المحوري الذي قامت به وزارة التجارة الخارجية والصناعة (ميتي) في قيادة عملية التنمية في اليابان. "الدولة التنموية" في نظر شالميرز جونسون، دولة رأسمالية بالأساس، تقوم فقط بدور المساعد في رسم السياسة الاقتصادية العامة، بينما السوق والقوى المحركة له، يبقى لها الدور المركزي؛ هذا التوجه تحديدا هو الذي مكن اليابان من تطوير بنياتها الصناعية والإنتاجية، وجعلها أكثر تنافسية، كما مكنها كذلك من احتواء التضخم والتحكم فيه عند مستويات جد منخفضة، في مرحلة عرفت ارتفاعا كبيرا في أسعار النفط، وذلك باعتماد نموذج تنموي، من أبرز مقوماته، التالي: – سياسة اقتصادية تقوم أساسا على تحقيق أعلى معدلات النمو الاقتصادي. – سياسة صناعية تحت الإشراف المباشر للحكومة، من خلال وزارة التجارة الخارجية والصناعة (ميتي). – نظام تعليمي متطور جدا، يستجيب لسوق لعمل ولأهداف النمو والتنمية. – نظام سياسي مستقر. – ادخار مرتفع وكاف لتمويل الاستثمار. – التوجه نحو السوق العالمية، من خلال سياسة لتشجيع التصدير، كمحرك أساسي للنمو. لقد اعتمدت اليابان على شمولية الإنتاج، وشعبوية الاكتشافات، والتقدم العلمي، والانخراط الشعبي الكامل في الدورة الاقتصادية؛ مما يؤدي إلى الزيادة في الإنتاج؛ هذه العوامل أضفت على اليابان، صفة المثال الاقتصادي الناجح في النمو والتنمية، والاستقرار والتقدم والمنافسة، والارتقاء إلى مستوى القوة الاقتصادية الماهرة في جميع مجالات؛ "البحث والاختراع والإنتاج الكثيف والرخيص والتسويق الدولي"؛ وبالتالي أضحت اليابان ذات 125 مليون نسمة، تحصل على أكثر من 3500 مليار دولار في ناتجها القومي، وتشارك بأكثر من %15 من الناتج العالمي، وبحوالي %10 من التجارة الدولية؛ ومستوى الدخل الفردي من الناتج فيها يصل إلى 23000 دولار سنويا؛ وهو من بين الأعلى في العالم، تدور في فلكها بعض دول جنوب شرق أسيا، من ناحية الانسجام أو المنافسة؛ وهي دول يطلق عليها "الدول المصنعة حديثا"؛ سنغافورة وهونغ كونغ والطايوان وتايلاندا وكوريا الجنوبية والفلبين وماليزيا وأندونيسيا؛ إنها الدول التي دخلت حلقة الإنتاج العالمي من بابه الواسع؛ فقد أصبحت في مصاف الدول السائرة في فلك التصنيع السريع والتقليدي، والمكمل لحلقة الإنتاج الرأسمالية في المراكز الأساسية"أوروبا، أمريكا، اليابان وأستراليا"؛ مما جعلها تستحوذ على أعلى مستوى من الاحتياطيات الأجنبية. * أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق، عين الشق – الدارالبيضاء.