ما إن تعافى الاقتصاد العالمي من كساد حتى دخل في أزمة جديدة و بحجم كبير و غير متوقع بتاتا. لقد تحولت الأزمة الصحية بسرعة إلى أزمة اقتصادية حقيقية لم يسلم منها أي بلد في العالم. أما انتشار الجائحة فقد كان سريعا، منذ شهر مارس، وأدى الى حجر صحي شمل نصف سكان العالم، الحجر الذي انهار من جراءه العرض والطلب وكل جسور الاقتصاد. في المغرب، فحسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط، لبداية شهر ابريل فان 57 بالمائة من المقاولات صرحت بتوقف نشاطها نهاءيا او مؤقتا. كما ان قطاع النقل وخصوصا النقل الجوي تضررا بدوره. الشيء الذي انعكس سلبا على قطاع السياحة. الحجر الصحي فرض كذلك إغلاق الفنادق و المطاعم و المقاهي و المدارس ومراكز التكوين. فقد كان التأثير، ولا يزال، تأثيرا مباشرا وعاما. نفس التطور ينطبق على القطاع الصناعي، خصوصا قطاع السيارات. أما قطاع الفلاحة و الذي يساهم دوما بحصة 38 بالمائة في الشغل و 17 بالمائة من الناتج الداخلي الخام فقد تقلصت قيمه المضافة على اثر الجفاف و انعكاسات جائحة كوفيد-19. ناهيك عن تأثير الوباء على قطاع الخدمات المرتبطة بالابناك والتأميناتومراكز النداء الذين تضرروا أيضا لكن بمستويات مختلفة وفي أوقات مختلفة.
حاليا، ونحن في خضم العاصفة، لا يمكن إعطاء تقييم للآثار لكن يمكن استحضار تقييم أولي لوزارة الاقتصاد والمالية التي توقعت فقدان 100 مليار سنتيم كل يوم. ومن المؤكد أنه كلما زادت فترة الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي كلما تعمقت الانعكاسات. فقطاع السياحة مثلا، يعرف حاليا أسوا السنوات، ولن يسترجع نشاطه العادي إلا بداية السنة المقبلة.
تجدر الإشارة إلى إن هذه الأزمة تتميز بصدمة من جانبين : صدمة من جانب العرض و أخرى من جانب الطلب. إن انخفاض العرض أو توقفه في بعض القطاعات، اثر بسرعة على الشغل وبالتالي على مداخيل الأسر المعنية وعلى الاستهلاك. ويمكن أن يتولد عن هذا الانخفاض في الطلب تراجع في في التضخم على المدى القصير والمتوسط.
واما التأثير الأخر للجائحة فهو يرتبط بتقهقر ميزان الاداءات ومايليه من نفاذ مخزون العملة الصعبة على اثر انكماش السياحة و تقلص تحويلات المهاجرين المغاربة خصوصا القاطنون في أوروبا وانخفاض الطلب العالمي. وبالمقابل نسجل تراجع الطلب على الواردات و السلع الوسيطة و انهيار سعر البترول في سوق روتردام.
وبالرجوع الى قرار تعويم الدرهم وتوسيع هامش التدبدب الى 5 بالمائة فمن المتوقع أن يؤدي الى نقص قيمة الدرهم، عكس ما كان يدعيه الكثيرون. أما الاحتياطات من العملة الصعبة فهي تغطي 5 أشهر من الواردات مقابل 6 أشهر سنة مضت. هذا المخزون تقوى بتعبئة المغرب واستعماله لخط السيولة والوقاية الممنوح من طرف صندوق النقد الدولي لمبلغ 30 مليار درهم وكذا تأهيله للحصول على قرض خارجي في السوق المالي الدولي لما قدره 11 مليار درهم.
عموما، لما نجد أنفسنا في سياق تدهور الطلب وكذا العرض، يتوجب علينا التفكير في السياسات العمومية الظرفية المناسبة التي تمكننا من تدبير الاقتصاد. لقد اقترحنا سابقا اتباع سياسة موازناتية معاكسة للدورة الاقتصادية بمعنى الانفاق العمومي من أجل تجاوز أزمة الطلب وكذا سياسة نقدية مساعدة و مكيفة للسياسة الموازناتية.
ومن جهة اخرى، فان ما يسمى في أدبيات الاقتصاد ب''تأثير الفراشة'' والذي يعني موجة تأثيرات متتالية لا يمكن ان يقاوم إلا بتدخل الدولة من أجل تصحيح اختلالات السوق (الهادف على الدوام الى الربح السريع). فكما يقول جون جاك روسو فان الروح تقاوم الآلام الحادة جيدا و بسهولة أكثر من مقاومة القلق المستمر. والدولة هنا هي الفاعل الاقتصادي القادر على مجابهة القلق المستمر.
وتعني السياسة الموازناتية المعاكسة للدورة الاقتصادية الرفع من النفقة ثم العجز الموزاناتي وكذا الدين. في نضرنا ان تعميق النفقة و العجز ليس مشكلا شريطة أن يضل مستداما وذلك للأسباب التالية.
أولا. باعتبار استقلالية بنك المغرب فان العجز و الدين العمومي يعدان الوسيلة الأنجع لتفادي كارثة اقتصادية. ومن المنتظر أن القانون التعديلي للمالية الجديد لسنة 2020 الذي هو في طور التهيئ و تصحيح ميزانية البرامج بالمناسبة وتوجيه الميزانية الى مخرجات في قطاعات عرضية سيبلور هذه السياسة المعمقة للعجزالمستدام الى حدود 5 بالمائة من الناتج الداخلي الخام. فاللجوء الى العجز هو الوسيلة الناعمة في ضل الأزمة لتحريك عجلة الاقتصاد.
ثانيا. يجب استعمال الدين لتمويل نفقة عمومية نافعة ومنتجة ذات المنفعة العامة في البنيات التحتية و المدراس والمستشفيات والبحث العلمي وكلها مخرجات الميزانية والتي يستفيد منها الاجيال الحالية والمستقبلية. هكذا لا يمكن التحدث عن ازاحة عبئ الدين على الاجيال القادمة كما يروج له.
ثالثا. تعتبر الدولة الفاعل الاقتصادي الوحيد القادر على امتصاص فائض الادخار الخاص، ان وجد هذا الادخار لدى المقاولات والاسر وذلك عبر اصدار سندات الخزينة. وهو الفاعل القادر كذلك على توزيع الدخل على الفقراء و تصحيح اختلالات السوق وتقديم التحفيزات.
في منظورنا، فان العجز يمكن ان يكون متحكما فيه وعلى تأثيراته اذا ما اشتغلت السياسة الموازناتية يد بيد مع السياسة النقدية وهو نوع من سياسة ظرفيةمختلطة لتجاوز الأزمة. نعتقد بانه في حالة اقتصاد بلدنا، يمكن للدولة ان تمول جزءا من برنامجها للإقلاع عن طريق اللجوء إلى خلق النقود. هذه الكتلة النقدية يمكن إن تستعمل لمساعدة الطبقة المهمشة من الاسر المعوزة والتي للتذكير تتميز بميول كبير الى الاستهلاك خصوصا الاستهلاك المحلي. أما التضخم فحسب اخر رقم لبنك المغرب لشهر ابريل 2020، فلا يتجاوز 1.1 بالمائة وهو مايعد ضعيفا.
من جهة السياسة النقدية، فلا مناص من استمرار بنك المغرب في تمويل الاقتصاد لان العجز الموزاناتي يعني خلق ضغط تمويل الخزينة على السوق البيبنكي اثر اصدار سندات الخزينة. لهذا نتوقع ارتفاع سعر الفائدة وشح السيولة الكافية للمقاولات والأسر. ولتفادي ارتفاع سعر الفائدة فان بنك المغرب مطالبة بضخ النقود عبر شراءها لسندات الخزينة وسندات المقاولات وسندات الصناديق الاجتماعية و التقاعد في السوق الثانوية في إطار ما يعرف بالسوق المفتوحة. ويمكن كذلك للقيام بهذه العملية وتسهيلها بشكل يتوسط فيه صندوق الايداع والتدبير العملية فيشتري السندات من الخزينة و يفوتها لبنك المغرب باعتبار استقلاليته.
وأخيرا، نود في هذا الصدد، فتح نقاش حول إمكانية استعمال تقنية متجددة وهي''النقود الهيليكوبتر'' والتي اقترحها الاقتصادي الامريكي ميلتون فريدمان سنة 1969 كاداة نقدية تمكن من خروج الاقتصاديات ذات التضخم المخفض او السلبي الى الانتعاش الاقتصادي. ويمكن تنفيذ هذه السياسة (نقود الهيلوكوبتر) عبر خلق سندات للخزينة تحت ما يمكن تسميته (سندات كرورونا)، كما هو مقترح للقيام به في مجموعة من الدول، والتي يتم شراءها مباشرة من طرف البنك المركزي او توزيع النقود على الاسر والمقاولات بشكل مباشر.
ورغم ان الإجراء يبدو معاكسا لمبدأ استقلالية البنوك المركزية عن الحكومة، إلا أنمجموعة من الاقتصاديين ومنهم الأكثر تشددا للدفاع عن هذا المبدأ قد اقروا بأنهيمكن عدم الالتزام به إثناء الفترات الاستثنائية. وهذا هو التوجه الذي نحاه بن برنانك المحافظ المركزي السابق للبنك المركزي الامريكي، اذ دعا الى إمكانية اللجوء إليها في هذا الظرف ألاستثناءي المتسم بانتشار جائحة كورونا وانخفاض معدلات التضخم وهو تمويل البنوك المركزية لعجز ميزانية الدولة.
ان أداة ''نقود الهيليكوبتير'' يعني خلق النقود من طرف البنك المركزي والتي لا يتبعها أي ديون على عكس خلق النقود من طرف البنوك التجارية والتي تتم بمقابل القروض الممنوحة. ستمكن هذه التقنية من تقوية الاستهلاك بسرعة والإنتاج إذا ما تم توجيها جيدا.
ثمة عراقيل، يمكن ملاحظتها في حالة ما اعتمدت ببلادنا، لكن سنبين أن هذه العراقيل ليست إلا شكلية. اولا. الطبيعة غير الكلاسيكية والتي لا تحترم القانون البنكي الأخير. على هذا المستوى يمكن لحالة الطوارئ والأزمة أن تغنينا عن الإشكال القانوني لان القانون البنكي هو قانون أوروبي و قد أصبح متجاوزا. ثانيا. كيف يمكن ترجمة هده التقنية في حسابات الابناك التجارية. ببساطة يمكن اجرئة العملية بتغذية الحسابات البنكية للأسر والمقاولات بشكل مباشر أو عن طريق حوالات.
فنظرا للتجربة التي راكمها المغرب في مجال تدبير انعكاسات جائحة كرونا عبر صرف الاعتمادات المتوفرة في صندوق كوفيد-19 واعتبارا لمختلف الأفكار الرائجةبيت المفكرين الاقتصاديين على المستوى العالمي، ففي نظرنا، يجب على الحكومة اعتماد التدابير التالية:
- تأميم المقاولات المهددة بالإفلاس والتي تشتغل في مجالات حيوية على أمل إعادةخوصصتها بعد انقضاء هذه الأزمة إن اقتضى الامر،
- إطلاق برنامج موسع ممول من طرف الدولة لبناء وتأهيل البنيات التحتية و بناء المستشفيات والمدارس وتاهيلها و بناء المرافق العمومية الحيوية في المراكز الحضرية و القروية،
-توزيع اعتمادات مالية شهرية للمعطلين عن العمل والأسر المعوزة المتضررة من الجائحة.
رئيس شعبة الاقتصاد بكلية الحقوق بسلا و مفتش إقليمي سابق بوزارة الاقتصاد و المالية.