I can't breathe كانت آخر ما نطق جورج فلويد قبل أن يلفظ أنفاسه و ركبة شرطي أبيض تطأ عنقه وتكتم أنفاسه وخده ممرغ في الأرض مشلول الحركة في عمل شنيع سادي مستنكر، يتجاوز تأدية مهمة قانونية في توقيف رجل إثر شبهة لم تثبت بعد، إلى عمل إجرامي جنائي في حق مواطن أمريكي أسود، أقدم عليه شرطي أبيض غير عابئ لا باستجداء الموقوفِ جُرْعَةَ هواءٍ تبقي على الروح سارية في جسده، ولا بنداء واستعطاف المارة الذين هالهم المشهد وآلمهم. لكن، كيف له أن يعبأ ويبالي وقد نشأ في مجتمع لازال التمييز العنصري حاضرا بقوة بين الكثير من شرائحه، ولا زالت هذه الشرائح من المجتمع تؤمن بتفوق وهيمنة الرجل الأبيض على غيره من الأجناس، وعنصريتها تتجاوز اعتداء شرطي أبيض على مواطن أسود إلى اعتلاء منصة القضاء وضمان الإفلات من العقاب للرجل الأبيض. والأحكام التي تُكَرِّسُ ذلك كثيرة لا تَعُوزُ كل متتبع لكثرة الشواهد عليها في المحاكم الأمريكية. كان للحدث أن يمر في صمت وغفلة كمثيلاته من الأحداث العنصرية التي تقع كل يوم في شتى الولاياتالأمريكية لولا وجود شهود عيان وَثَّقُوا الحدث بأعينهم قبل أن يوثقوه صوتا وصورة بكاميرات هواتفهم الذكية. وما هي إلا ساعات معدودة حتى غزت صورة “جورج فلويد” وهو مقتول تحت ركبة الشرطي عناوين الأخبار بعد أن جابت جميع وكالات الأنباء وشبكات التواصل الإجتماعي لتفجر مشاعر الغضب في صدر كل أمريكي حر ومعها المشاعر الدفينة للأفروأمريكيين مستحضرة 4 قرون من الاستعباد وفصلا آخر من فصول التمييز العنصري ضد السود لم تنقضي أطوارها بعد. ونحن في هذه الرقعة من العالم، استفقنا بدورنا على خبر مقتل جورج فلويد، في غمرة الانشغال بآخر مستجدات فيروس كورونا. إستحوذ علينا الخبر وما خلفه من موجات احتجاج عنيفة اتسعت رقعتها بسرعة عبر ولايات البلد الذي لا زال يمسك بزمام العالم ويملي عليه معنى دولة الحق والقانون و ثقافة حقوق الإنسان. الذي استوقفني بقوة في حدث مقتل جورج فلويد، وألح علي خَطَّ وجهة النظر هاته، ردود أفعالنا نحن كمسلمين، جماهيرا ودعاة وعلماء وأيضا سياسيين، بمختلف التوجهات والمذاهب. ردود أفعال، وإن أبدت للوهلة الأولى تألما لصدمة الصورة وهول المشهد، لكنها مافتئت تنحرف وتنزلق، وتتباين بعد ذلك ما بين متشف يصفي حساباته السياسية مع الولاياتالمتحدة من باب الركوب على الحدث (أهذه هي القوة العظمى التي تدعي حفظ الحقوق وتنتهكها على أرضها)، وبين متسائل أَلِأَنَّ الحدث وقع في أمريكا نقيم الأرض ولا نقعدها، فالعالم مليء بالانتهاكات ولا أحدث يحرك ساكنا؟ وبين متجاهل بدعوى أن الخبر المحلي يُغْنِيهِ ويَعْنِيهِ أكثر من سواه (وكأن في الأمر تناقض أو إلغاء أحدهما للآخر)، وبين من وجدها فرصة لشرعنة الشطط في التعامل مع الاحتجاجات إذ لم يعد للولايات المتحدة أي حق للتقدم بملاحظات إلى الدول الأخرى بشأن موضوع حقوق الإنسان، وبين ناقد غاضب مستنكر لازدواجية العالم تجاه القضايا بين ما وقع في أمريكا، وما يقع ليل نهار للفلسطيني، فَلِمَ الانتصار لجورج فلويد؟ ما الخصوصية في الحدث ونحن نعيش ذاك الظلم من أمريكا عبر غزو مباشر أو بشكل غير مباشر من خلال أنظمة ترعاها. فلنتألم ونبدي التألم، نقطة ومن أول السطر. ردود أفعال، من وجهة نظري، لا تبشر بخير (على وجاهة بعضها)، ولا تعطي انطباعا بأننا على السكة الصحيحة للتدافع بين الأمم. أخلفت الموعد مرة أخرى مع بسط قوة الطرح الذي نملك في مرجعيتنا حُيَالَ حدث يرقبه العالم أجمع، ويتابع تطوراته لحظة بلحظة كي يعرف عنا جوهر ما فينا. فنتقاسمه بتواضع، تواضع العقل البشري الذي يبسطه، دون استعلاء، ولا ادعاء لامتلاك الفهم الحصري النهائي، ولا تمجيدا للتفوق الأخلاقي للذات المسلمة على نظيرتها الغربية المتوحشة العنصرية (كما خرجت بذلك البلاغات والبيانات هنا وهناك). ما فعلناه كان ردود أفعال كرست المأزق الحضاري والتاريخي الذي يعيشه و يعانيه المسلم المعاصر والذي لا يتسق والقيم التي يدعيها ويستقيها من مرجعيته. ولنطرح الأسئلة التالية : أليست محاربة الظلم بكل أشكاله و الوقوف في وجه الظالم، قيمة عليا من قيم الإسلام. أليس الدفاع عن هذه القيمة منفصلة عن هوية الشخص وجنسيته ولونه ودينه يعتبر جوهر الدفاع عن الإسلام ؟ هل الإسلام يشترط لنصرة هذه القيمة أن يكون المظلوم مسلما؟ لو كان الأمر كذلك لكان الإسلام طائفة لا دينا. أليس هذا هو الإنطباع الذي يُصَدِّرُهُ المسلم المعاصر للآخر؟ بل يتجاوزه من مجرد انطباع إلى حقيقة الدافع الذي يحركه، و يتحرك في إطاره وإن لم يعلنه ؟ لماذا وأنت تنظر للمسلم المعاصر يتألم لموت جورج فلويد، تشعر أنه غير معني شخصيا بالحدث من منطلق دينه ومرجعيته الاسلامية، إنما من منطلق تضامن شكلي، سطحي، مع نظير له في الخلق. وما تألمه، الصادق بلا شك، إلا من باب التألم لحال الآخر البعيد، الذي لا يلزمني في شيء على أرض الواقع. لماذا لا يشعر أنه مُسَّ في كرامته من منطلق كونه مسلما، مُسَّ في قيمة أساسية من قيم الإسلام ؟ قد يزول الاستغراب وتبرز الازدواجية تلقائيا حين تنظر إلى المسلم المعاصر وهو يخرج جماعات يملأ الشوارع نصرة (في اعتقاده) للنبي صلى الله عليه وسلم إذا سب و قذف و شتم ولا يحرك ساكنا ولا يشعر أن النبي شتم وسب وقذف بسجن مواطن حر ظلم، لفقت له القضايا والملفات إثر قول كلمة حق فضح بها فسادا أو تلاعبا في ميزانيات أو شططا في استعمال سلطة. هذه الازدواجية قد نتفهمها على مضض عند العامة فننبه إليها ولا نبررها، لما يغلب عليها من ردود أفعال مشحونة عاطفيا. شُحِنَتْ ممن لا يمكن تفهمها ولا قبولها من (علماء) و(دعاة) وأتباعهم ومن يدور في فلكهم حين يخرجون بأقلامهم بشجاعة منقطعة النظير دفاعا عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا شتم وسب وحقر، ويخذلونه بالصمت المُطْبِقِ المريب إذا شتمت وسبت وحقرت قيمة بعث من أجلها صلى الله عليه وسلم، وأوذي من أجلها، وحث على الدفاع عنها، بل الموت في سبيلها، كاعتقال صحفي ظلما لا لشيء إلا لأنه يزعج. لماذا لا يشعرون بنفس الوجع يعتصر أحشاءهم أو بالتناقض حتى، وازدواجية معاييرهم بإغلاق أفواههم. لذلك أتساءل في سذاجة، دفاعا عن القيمة لا دفاعا عن الطائفة، دفاعا عن قيمة الوقوف في وجه الظلم مهما كان الدين والعرق : هل نستطيع مثلا أن نتخيل المسلم المعاصر يخرج إلى الشوارع نصرة لجورج فلويد، يحمل اللافتات ويصدح بأعلى صوته “I can't breathe “لا أستطيع التنفس” وهو مستشعر في نفسه وهو في الساحات أنه مُسَّ في دينه من خلال الدفاع عن قيمة عليا مُسَّت بمقتل جورج فلويد، وأنه يشعر بالظلم لظلمه ؟ بل يستشعره فريضة إنسانية/دينية بلا تناقض ولا تعارض؟ هل يمكن أن نتخيل المسلم المعاصر يخرج إلى الشارع رافعا لافتة كتب عليها “إلا رسول الله .. أطلقوا سراح الصحفي فلانا المظلوم؟ هل يمكن أن نتخيل ذلك ؟ الجواب لا يحتاج إلى كثير تفكير أو تقليب نظر. لذلك كتبت، على تواضع ما كتبت منذ أمد ليس بالقصير،حين ارتفعت الحناجر وانبرت الأقلام دفاعا عن مسلمي الإغور في الصين، ويا لإنصاف الأقدار : لا تنسوا التضامن بنفس القوة والبأس مع سود أمريكا للظلم والتمييز العنصري الذي لا زال يلحقهم ويطالهم، لا تنسوا التضامن مع سكان إقليم التبت، لا تنسوا الدفاع عن كل القضايا العادلة في العالم مهما كانت ديانة وجنس أصحابها على قدم المساواة. إنتصروا للإغور لأنهم مظلومون وليس لأنهم مسلمون. إن الاسلام يدافع عن القيم وليس عن الطائفة، عن القيم التي يحملها الاشخاص لا عن الأشخاص. كانت ولا زالت دعوة، بل صرخة، من داخل المرجعية لبناء ذات مسلمة منسجمة مع ذاتها والمنطلقات التي تدعيها وتنهل منها قيمها ومبادئها. فأجدني، في خضم ازدواجية المعايير هاته التي يعيشها المسلم المعاصر، مصطفا إلى جانب ذاك الآخر غير المسلم المختلف عني عقيدة ودينا وثقافة حين يشعر أنه مس في كرامته ولحقه نفس الظلم الذي مات على إثره جورج فلويد، وبنفس المقدار والدرجة ينفعل ويتحرك حين تتحرك الآلة العسكرية الصهيونية لتقتل وتجرم في حق الشعب الفلسطيني. فيتضامن مع الفلسطيني المظلوم، متحررا من كذب وافتراء وسائل الإعلام، متحديا التضييق والتهديد وتشويه السمعة، نصرة لقيمة الوقوف إلى جانب المظلوم في وجه الظالم، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو لونه أو جنسه. وحُقَّ لي أن أصطف إلى جانبه و أرى في فعله مرآة للفطرة التي تحرك بواعث الخير في النفس وإن كانت غير مسلمة، كما قد تُطْمَسُ فتحرك بواعث الشر في النفس وإن قالت عن نفسها مسلمة (والأمثلة كثيرة شاهدة على ذلك حكاما ومحكومين). إن لب الإسلام وجوهره، كما أفهمه وأدافع عنه، منظومة قيم، تُقيم أساسه وتُعلي بنيانه. من دونها لا يعدو أن يكون مجموع طقوس جوفاء بلا روح ولا أثر في النفوس ولا تأثير في الواقع والتاريخ. ومقتل جورج فلويد حَدَثٌ، يُسَائِلُ المسلم المعاصر بقوة في أفعاله وردود أفعال. يُسَائِلُه من الناحية القيمية والأخلاقية من منطلق مرجعيته هو، التي يدعي صوابيتها وشموليتها وعالميتها. أوليس هو نفسه من يدعي انتماءه لأمة الشهادة ؟ “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ” (على الناس وليس على المسلمين). إذا، هو شاهد بِمَ ؟