(1) بدأت حرب ضروس علنية ضد مفردات الثورة التونسية في الأيام الأخيرة، تقودها السعودية والامارات، وينفذها عملاؤها العلمانيون، هدفها المعلن إسقاط ثورة تونس نهائيا، وتنصيب مجرم على رأس الدولة كما وقع في مصر.. تتحدد هذه الخطة الإبليسية – كما كشفت عن تفاصيلها الكثير من المصادر المطلعة – فيما يلي: شيطنة جماعة النهضة، إقناع الشعب بفشل البرلمان، تجنيد الرئيس وإن رفض، اتهامه بالعجز والسفه… إدخال البلد في فوضى أمنية، تحرك شارع مصطنع، استجابة الجهاز الأمني لنداء الشارع بحل البرلمان وتعطيل الدستور، وأخيرا تنصيب شخص موال للدولة العميقة على رأس نظام على غرار نظام السيسي.. كانت النهضة تنازلت عن السلطة طوعا بعد اول انتخابات ديموقراطية حقيقية في تونس بعد الثورة، رغم حصولها على ثقة الشعب، والتي عبر عنها في حينه الاستاذ راشد الغنوشي بقوله: “خسرنا موقعا، لكننا ربحنا تونس”.. قلت حينها ان هذا الموقف النبيل لن تنظر له قوى العلمانية الاستئصالية على اعتباره موقفا مسؤولا يستحق الاحترام والتقدير، بل سيزيد من شهيتهم في ممارسة ارهابهم ضد النهضة والقوى المتحالفة معها حتى تجفيف ينابيع الثورة الوحيدة التي ما زالت تتنفس في المشهد العربي ولو بصعوبة.. لم يكن ما قلته حينها “نبوءة” سوداوية، وإنما هي قراءة واقعية لتطور الثورات العربية ونتائجها، والتي أشارت كلها الى أن اعداء الثورات العربية من العرب والعجم ممن لا يريدون نهضة الأمة، ولا عودتها الى موقعها الذي يليق بها والذي حازته بجدارة وتميز على مدى أربعة عشر قرنا، لن يهدا لهم بال، ولن تقر لهم عين، حتى يتم القضاء على هذه الثورات وعلى من يحملون رايتها، والعودة بالأوضاع العربية الى أسوأ مما كانت عليه قبل انفجار بركان الربيع العربي، بعد ان يعيدوا ضخ كميات كبيرة من مادة المخدر المركز في شرايين المارد الشعبي العربي والإسلامي، حتى يظل عاجزا عن الاضطلاع بدوره الذي تنتظره الامة منذ سقوط خلافتها الإسلامية على يد عميل الاستعمار الغربي مصطفى كمال اتاتورك.. (2) ما شاهدناه في الايام الاخيرة من هجوم شرس وغير ديموقراطي للعلمانيين المهزومين على القوى التي اختارها الشعب بإرادته الحرة وعلى راسها حركة النهضة، هو مرحلة متقدمة في خطط السعودية والامارات لإسقاط الدولة في تونس.. السؤال المهم: هل سيتحرك الشعب ومؤسسات الدولة الشرعية لحماية البرلمان المنتخب والرئيس المنتخب، ام ان سيناريو السيسي سيعود من جديد؟ اعتقد ان الجواب الصحيح على هذا السؤال سيحدد مصير تونس، وسينقذها من مصير اسود.. على الشعب والقوى الموالية للثورة، وعلى مؤسسات الدولة المعبرة عن قيم الثورة، ان تبدأ بالتحرك السريع قبل ان تنجح الدولة العميقة من هزيمتهم.. التحرك السريع لوأد المؤامرة دون تردد او خوف هو المطلوب.. (3) من ناحيتها، قطعت حركة النهضة التونسية شوطا كبيرا وجريئا في تطوير منظومتها الفكرية ووسائلها النضالية السلمية وفلسفتها السياسية، من اجل المزيد من الاندماج في المجتمع التونسي ومخاطبة شرائحه المختلفة بلغة الإنجاز بعيدا عن أي لغة أخرى من جهة، والتقليل من المخاوف غير المبررة لدى القوى العلمانية والليبرالية الداخلية من جهة ثانية، والتعامل مع التجاذبات الدولية براغماتيا من خلال واقعية شامخة لا تنحني حينما يكون الامر متعلقا بثوابت الامة الدينية والوطنية، لكنها قادرة على المناورة في غير ذلك من الميادين، من جهة ثالثة.. الا ان كل هذه الديناميكية الفكرية والسياسية التي تمتعت بها حركة النهضة أكثر من غيرها، لم تكن كافية لقوى الشر الداخلية والخارجية من أن تنصب الكمائن والأفخاخ، وتزرع طريق التحول الديموقراطي التونسي بالألغام، حتى لو أدى الامر الى سيلِ انهارٍ من الدماء.. ما نراه اليوم من هجمة مُوجَّهة تقودها السعودية والامارات بدعم غربي، وينفذها “قطعان” من المأجورين العلمانيين الاستئصاليين في داخل تونس، إلا مثالا لذلك، وشاهدا عليه.. واحدة من هذه القضايا الجريئة التي جاءت ل – “طمأنة” الآخر العلماني/الليبرالي، وطمأنة الدولي “الديموقراطي!”، التي ناقشها مؤتمر النهضة الضخم الذي انعقد في العام 2016، والتي – كما اعتقد – لها علاقة بواقع الحال اليوم، مسألة الفصل بين (السياسي والدعوي) في سيرة ومسيرة الحركة، وهي القضية التي اثارت الكثير من الجدل والنقاش على المستويين التنظيمي والفكري محليا وعالميا، نبع أغلبه من التخوف من الانزلاق نحو الفصل (بين الدين والدولة)، الامر الذي سارعت قيادة النهضة الى نفيه جملة وتفصيلا على اعتباره مخالفا لما عُرِفَ من الدين بالضرورة من انه لا فصل في الإسلام بين الدين والدولة ابدا ، وإنما نشأ هذا الفصل في أوروبا لاعتبارات أوروبية محضة لا علاقة للإسلام به، ولا لتاريخه وثقافته وممارسته ، على مدى أربعة عشر قرنا من قيام الخلافة الإسلامية . بل ذهبت النهضة الى أبعد من ذلك حينما عَدَّلَتْ مقولتها (الفصل بين السياسي والدعوي) الى (الفصل بين الدعوي والحزبي) تلافيا منها – على ما يبدو – لمنزلق خطير قد تُجر اليه، ولم يكن هذا في حسبانها ولا في حساباتها مطلقا، أعنى الفصل بين (السياسي والدعوي) بمعناه الذي يفهمه العلمانيون من انه لا يعدو ان يكون كيانا مستنسخا عن (الفصل بين الدين والدولة)، وهو المرفوض إسلاميا ونهضويا. (4) لا اقلل من ان هنالك كثيرا من الجوانب ربما الايجابية في هذا التوجه لدى النهضة، والتي لم تَكْفِ، ولن تكفيَ العلمانيين الذين لن يرضوا بأقل من رأس النهضة ومن خلالها كل إنجازات الثورة التونسية.. الا انني لا أستطيع تجاهل ان هنالك جوانب خطيرة في القرار لا بد من الاشارة اليها، يمكنني تلخيصها في ثلاث نقاط رئيسية: النقطة الاولى، مبالغة الاستاذ الغنوشي في الانكفاء نحو القومية التونسية الى درجة تبرؤه من اية علاقة مع الاخر الاسلامي، وهذا يذكر بتطور الحركة الوطنية المصرية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي دعت الى الانكفاء نحو القومية المصرية. بذلك عزز شيخنا الغنوشي مفهوم الدولة القومية القطرية بشكل تجاوز فيه الحد الموضوعي، وهذا يتعارض حتى مع الفكر الوطني او القومي الجامع ناهيك عن الاسلامي الاممي.. انا من الذين يدعون الى الاهتمام بالدولة الوطنية على اعتبارها الوطن الام ومسقط الرأس، ولكليهما في الفطرة الانسانية والطبيعة البشرية اعتبارهما، لكني ابدا لا أستطيع ان افهم المنحى الجديد الذي خرج عن إطار التكتيك الذي أستطيع ان اتفهمه، الى التأصيل وتغيير الثوابت التي في قلبها وجوهرها ان الامة العربية واحدة ويجب السعي الى توحيدها ولو بالتدريج والاقناع. الامر الثاني، مبالغة زعيم النهضة ايضا في الحديث عن الفصل بين الدعوي والسياسي، الى درجة جعل معه الأصل (حركة النهضة الاسلامية) الفرع بإعلانها حزبا سياسيا لا علاقة له بالدعوة ولو من باب التخصص.. بينما قام بخصخصة العمل الدعوي وجعله فرعا (سداح مداح) كما يقال.. للتوضيح أكثر، لو ان سيدنا الغنوشي أعلن في المؤتمر عن اقامة جناح سياسي (حزب) لحركة النهضة يعمل في السياسة (تخصص)، على ان تستمر النهضة على أصلها الدعوي، لكان ذلك أفضل بكل المعايير.. الامر الثالث، ان مسلسل التنازلات الذي ميز حركة النهضة في تونس مهما قيل في إيجابياتها، فلا ينكر اهل النظر الثاقب انها عززت لدى معارضي الطرح الاسلامي الشعور بأنهم كلما ضغطوا أكثر، وهددوا أكثر، وأثاروا الزوابع أكثر، وحرضوا أكثر، فسيؤدي ذلك الى تنازلات أكثر من الإسلاميين، قد تؤدي الى انسحابهم نهائيا طوعا او كرها من الحياة السياسية حتى لو حظوا بأغلبية مطلقة في انتخابات ديموقراطية لا يرقى اليها شك.. في نظري المتواضع، لقد شكلت النهضة في تونس بهذا سابقة طَرِبَ اليها الكائدون للمشروع الإسلامي، أخشى أنها ستشكل عائقا حقيقيا سيعيق الاسلاميين في أن يكونوا شركاء حقيقيين في الخريطة السياسية من حيث حقهم في الوصول الى الحكم كالآخرين، مهما قدموا من فروض الولاء والطاعة لمعارضيهم، وهذه هي الإشكالية الحقيقية.. مع ذلك لا بد من الاشادة – بغض النظر عن الاختلاف او الاتفاق – الى الدرجة العالية من الحيوية التي يتمتع بها قادة حركة النهضة التونسية، وما يمتلكونه من جرأة رصينة في التفكير خارج الصندوق، وابداعية في انتاج الفكر والذي هو في حقيقته تفاعل بين العقل والنصوص بهدف استنباط ما يمكن ان تقدمه الحركة الإسلامية كبرنامج سياسي على أساسه تطلب ثقة الجماهير عبر صناديق الاقتراع وفي انتخابات ديموقراطية يكون القول الفصل فيها للامة. (5) التجربة المغربية والتركية سبقت النهضة التونسية في مسألة التخصص السياسي/الدعوي الذي ذهبت اليه، لكنها لم تذهب بعيدا في تنظيراتها الى الايغال في هذا الفصل الى حد القطيعة الذي لم يقل به من منظرو الحركة الإسلامية لا قديما ولا حديثا حركتنا الإسلامية في الداخل الفلسطيني 1948 مثلا، ومنذ أسسها فضيلة الشيخ عبدالله نمر درويش – رحمه الله – في العام 1972م وحتى الآن، تبنت منذ امد بعيد نموذج اللامركزية المنفتحة التي منحت هيئاتها المختلفة الاستقلال المهني والوظيفي الكامل، الا انها مرتبطة بمرجعية / قيادة تشرف على اعمالها وتقيم اداءها وتصحح مسارها ان اقتضت الضرورة، وتحمي كيانها وتدعم نشاطها وتجند الكوادر لخدمتها وخدمة أهدافها.. الى اية درجة يمكن ان نستمر في اختيارنا هذا؟ لا شك ان الجواب على هذا السؤال مرتبط بشكل وثيق بحيوية الحركة داخليا، بالظروف التي تعيشها، وبالتحديات التي تواجهها.. كمبدأ، الحركة لا ترى في هذه الأساليب الا أدوات، ولذلك فهي منفتحة لإجراء التعديلات بما يخدم اهدافها السامية واغراضها النبيلة، لكنها أبدا لن تتنازل عن ان تبقى مرجعيتها الإسلامية هي القاعدة التي ترتكز عليها ومنها تستمد رؤاها وتستلهم رؤيتها وتسترشد في مسيرتها. (6) لا شك أن على الشعب التونسي كما الشعوب العربية الاخرى، مسؤولية كبرى في حماية ارادته وإنجازه، ومنع الاعتداء على ثورته من أي طرف داخلي أو دولي، وألا يقف مكتوف الايدي امام المؤامرة العلنية التي بدأت خفافيش الليل في تنفيذها ضد الثورة التونسية.. إلا انني مع ذلك أرى – إنصافا لهذه الشعوب – ان من الدين والأخلاق الاعتراف بان الشعوب العربية ومنها الشعب التونسي، قد قام بالذي عليه الى حد كبير عندما قام بثورته، وقدم في سبيلها التضحيات الجسام، ثم اختار من اختار بمن فيهم الاسلاميين واوصلهم إلى السلطة في أكثر من موقع، في إطار انتخابات حرة ونزيهة.. المشكلة في رأيي تكمن في ان استراتيجيات الثورات العربية لا تعتمد اسلوب “التغيير” وإنما “الاصلاح”، وبينهما فرق كبير كما هو معروف.. ف – “الاصلاح” يعترف بالموجود وهو في الغالب منتج فاسد لا يمكن إصلاحه، يملك جذورا ونفوذا قويا بناه اصحابه على مدار عقود، جاء ليخدم انموذجا سياسيا يكرس الاستبداد والدكتاتورية والفساد، وامتلاك عصابة محددة للسلطة والثروة خدما لأجنداتها بعيدا عن مصالح الشعب وخياراته.. اما “التغيير” فمعناه هدم ما كان سابقا، وخصوصا في ست مجالات: قيادة الجيش، قيادة المخابرات، قيادة الشرطة، الاعلام، القضاء والحكم المحلي ابتداء من المحافظين وانتهاء بمن دونهم.. إيران في ثورتها تنبهت الى ذلك، فصمدت رغم المؤامرات الكثيرة والحصار المستمر منذ نجاحها في العام 1979م.. حماس بعد انتخابات 2006 تنبهت هي ايضا لذلك، فصمدت امام مؤامرة فتح لإسقاطها عام 2007.. لا يمكن ان تُرَكِّبَ رأسا نظيفا على جسد عفن، فالجسد سيقتل الرأس عاجلا او آجلا.. إما إذا عمل الرأس الجديد في إطار منظومة جديدة ولاؤها للثورة فقط، فسيكون النجاح، وهذا – مع الاسف – ما ينقص الثورات العربية هو “الاسنان”… “الاسنان” الحادة والقاطعة.. * الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني