تقديم : لمعرفة مدى حصول تحوّل على النهضة و ان حصل فعن أيّ تحوّل نتحدّث لا بدّ من القيام بعمليّة قراءة تفهّميّة من الدّاخل لتعريف الحركة لنفسها و للتحوّلات التي تقول هي عن نفسها انّها عرفتها و قراءة تفسيرية من الخارج لذلك التعريف و لتلك التحوّلات في نفس الوقت . ولكن هنالك أمران لا بدّ من الانتباه اليهما منذ البداية. أوّلا: التفريق بين واقع التحوّل -ان كان موجودا- و نموذج التحوّل الذي نريده نحن منها. هذا سيمكّننا من 'تحييد‘ انتظاراتنا و تقييم ما حصل -أو لم يحصل- موضوعيّا. ثانيا: الوعي بالمسار الذي أخذه التحوّل -ان حصل- و المرحلة التي هو فيها و دراسة احتمال المزيد من التحوّل و احتمال الارتكاس. و هذا سيمنعنا من تقييم ذلك التحول حسب نماذج جاهزة كالاسلام السياسي التركي أو الديمقراطية المسيحية و اهمال خصوصية النهضة مقارنة بالعدالة و التنمية داخل خصوصية تونس مقارنة بتركيا و خصوصية الاسلام السياسي الاخواني العربي الاسلامي مقارنة بالتيار الديمقراطي المسيحي في أوروبا . على ضوء هذا و ذاك يمكن الحكم لاحقا على المسار وتقييمه ان كان مجرّد ازدواج خطاب كما يميل النقّاد - ربّما عن 'سوء نيّة انتقادية‘ من ناحية و مبالغة قصوويّة في استعمال النماذج التحليلية المعتمدة باخفاء خصوصيتها و تدرّجها التاريخي لاحراج الخصم من ناحية ثانية - أو ان كان تحوّلا فعليّا كما يميل المناصرون -ربّما عن حسن نية مدحية‘ من ناحية واستنقاص في استعمال النماذج التحليلية بالقفز عكسيّا عن خصوصيتها و تطورها التاريخي بهدف الايهام بتقليدها من ناحية ثانية.
1- تعريف النهضة لنفسها قبل مؤتمرها العاشر:
يمكن الانطلاق من تعريف راشد الغنوشي القديم للحركة الاسلامية و مقارنة أجزائه المختلفة بمخرجات المؤتمر العاشركما عبّرت عنه الوثائق و التصريحات الصّادرة (1) للاجابة عن الانشغال الأوّل. عرّف الغنوشي ذات مقال 'مصطلح الحركة الاسلامية المعاصرة‘ كما يلي: “ عنينا بهذا المصطلح اتجاهات ثلاثة من بين اتجاهات الدعوة الاسلامية الكثيرة ، يجمعها فهمها الشمولي في نظرتها للاسلام و موقفها الحركي في اقامة مجتمع اسلامي على أساس هذا التصوّر الشامل عن طريق اقامة تنظيم يعمل على انشاء دولة اسلامية .وهذا المفهوم ينطبق أكثر ما ينطبق على ثلاثة اتجاهات كبرى؛الاخوان المسلمون ،الجماعة الاسلامية في الباكستان و حركة الامام الخميني في ايران. و ما تبقّى من اتجاهات اسلامية امّا انّه تابع بشكل أو آخر لأحد هذه الاتّجاهات أو هو مبتدئ لم يتبلور بعد أو انّه قاصرعمله على جزئيّة من جزئيات الاسلام و العمل الاسلامي كالدعوة و الوعظ والارشاد وتعليم الفقه والذّكر.“ (2) هنالك اذن –و نسوق هذا للتنبيه- اعتراف ضمني بأنّ الاتجاه الاسلامي –النهضة هو من التنظيمات التابعة بشكل أو بآخر للاخوان المسلمين تحديدا. و هنالك خمسة نقاط أساسية في التعريف لا بدّ من تناولها و مقارنتها بمخرجات المؤتمر العاشرو هي: أ- الفهم الشمولي للاسلام كمرجعية فكرية و سياسية و تنظيمية. ب-الموقف الحركي كتمشّ نضالي. ج- هدف اقامة المجتمع الاسلامي . د - التنظيم الاسلامي كأداة. ه- الدولة الاسلامية كهدف سياسي نحو أسلمة المجتمع الشاملة.
2- الفهم الشمولي للاسلام:
يمكن الاكتفاء بعبارة واحدة قالها الغنذوشي بعد المؤتمر العاشر لنفهم ان حركة النهضة لم تتغيّر قيد أنملة هنا هي عبارة ' الدنيا كلها جامع‘(3) التي ذكرها في حواره الأخير على قناة نسمة التونسيّة. هذه العبارة و ما أحاط بها من تفسير و ما ورد من توضيحات واضحة أخرى في تصريحاته و تصريحات غيره تؤكّد رفض الحركة لأيّ نوع من العلمنة الاجتماعية و الثقافية و لأيّ علمنة /لائكيّة سياسية و تشريعية. الاسلام اذن لا يزال دينا و دنيا ، اجتماعا و سياسة ، عقيدة و شريعة ، اقتصادا و علما ، ثقافة و حضارة ، الخ.
3- الموقف الحركي كتمشّ نضالي:
و المقصود به من ناحية أولى نقيض الموقف اللاّحركي الانسحابي و المستكين. و من ناحية ثانية شمولية الحركة في كل الميادين التي يشملها الاسلام و هو يشمل كل شيء . و من ناحية ثالثة أهمّية الموقف الحركي السياسي باعتبار هدف تأسيس الدولة الاسلامية السياسي لتحقيق المجتمع الاسلامي. وقد كان هذا الموقف يعني، من ناحية رابعة ، 'الموقف الثوري‘ بمعنى 'الثورة الاسلامية‘.و يشهد على ذلك مثلا مقال 'الثورة الايرانية ثورة اسلامية‘ في نفس الكتاب (4). في الواقع ،لا يوجد تغيير يذكر في المعاني الثلاث الأولى 'للموقف الحركي‘ ولكن هنالك تغيير في المعنى الرابع المتعلق بالثورة الاسلامية. و لكن قبل التعرّض لهذا المعنى الرّابع لا بدّ من قول كلمة حول المعنى الثاني المتعلق بشمولية الموقف الحركي. - انّ ما يقال عن الفصل بين الدّعوي و السياسي لا يعني التخلّي عن الدّعوي ( و الخيري و الثقافي ،الخ) بل فقط فصله عن السياسي و مواصلة أبناء الحركة و المتعاطفين معها موقفهم الحركي الشامل و لكن بتنظيم جديد نسبيّا لا غير.ان الحركة لن تنقسم الى دعاة و سياسيين –و لكن قياديين فقط- يبقون تحت نفس السقف التنظيمي كما فعل الاخوان المسلمون في مصر في وقت ما أو كما فعل العدل و الاحسان في المغرب بل ستخطو خطوة شكلية جديدة في الفصل دون أن يعني ذلك انعدام الدّعوي –القاعدي- و غيره ممّا هو لا يدخل ضمن السياسي بالمعنى الحرفي الأوّل -السياسوي- للكلمة. - أما بالنسبة للمعنى الثوري السابق لمفهوم 'الاسلام الحركي‘ فانّ تغييرا فعليّا وقع عليه رغم محاولة الغنّوشي اعتبار الثورة التونسية 'ثورة اسلامية‘ ( 5) بمعنى ما ، مما يعني أمّا انه لم يتخلّص تماما من الموقف الحركي الثوري و يمكن ان يعود اليه أو يعني محاولته التعويض الخطابي عن التخلي الفعلي عن 'الموقف الثوري‘ الاسلامي التقليدي من خلال وصف الثورة التونسية بما ليس فيها فقط من باب التمسّك اللفظي بأمر يعرف انّ التخلّي تماما عنه ستكون له نتائج وخيمة أهمّها تهمة التخلّي عن الثورة و هذا يساعده في ايهام الأتباع من ناحية و تحييد الخصوم الأكثر محافظة و تقليدية في حركته و في صفوف الحركات الاسلامية المنافسة في تونس و خارجها و العلمانيين الثوريين في تونس خاصّة. هنالك حسب رأينا تغيير فعلي حصل باتجاه الانتقال من الموقف الحركي الثوري الاسلامي الى الموقف الحركي الاصلاحي الانتخابي الاسلامي ولكن لا أحد يستطيع الجزم ان كان تغييرا نهائيّا أم لا لسببين: أوّلا،لأن موازين القوى تفعل فعلها كثيرا في هذه الأمور و هي موازين قوى تونسية و دولية و قد ظهرت نتيجتها خاصة بعد انقلاب السيسي على الاخوان في مصر. ثانيا،لأنّ حركة النهضة تساند الموقف الحركي الثوري الاسلامي المسلّح في سوريا مثلا. و هذا يعني ان تخلّيها عنه في تونس ليس مبدئيّا بل هو بسبب خصوصية موازين القوى هنا لا غير. و هنا يصبح اصرار الغنوشي على كون الثورة التونسية 'ثورة اسلامية‘ ناجزة بمعنى ما و منطق كون حركة النهضة أصبحت 'حركة دولتيّة‘ في تصالح مع الدّولة و ان قضيّة الهويّة حسمت في تونس ، و انها من 'الاسلام الديمقراطي‘ ،الخ، مفهوما لتبرير حركيته 'ما بعد الثورية‘ و 'غير الثورية‘ من باب قراءة لموازين القوى التي لا تسمح بمواصلة الثورة و تبرّر المصالحة والتحالف مع من كانوا في الأمس القريب يعتبرون 'فلولا‘ و 'ثورة مضادّة ' تعود بالنظام القديم الى الحكم،الخ.
4-هدف اقامة المجتمع الاسلامي:
لا يمكن لحزب لا يزال يقول عن نفسه انّه اسلامي أن يتنازل عن هذا الهدف النهائي. ما يمكن أن يتغيّر،وهو مهمّ في التقييم،هو تقييم المجتمع الحالي ان كان اسلاميا أم لا - وان كان كذلك فالى أيّ حدّ؟- من ناحية أولى و طريقة الأسلمة من ناحية ثانية. في وقت ما تأثرت حركة النهضة ،عندما كانت تسمّى الاتجاه الاسلامي، حتى بكتابات سيد قطب و كانت بدورها تتحدّث عن 'الجاهلية الجديدة‘ الداخلية و التي هي مرتبطة 'بجاهلية الغرب‘ الوافدة (6). وكان 'الاسلام الحركي‘ يعني النضال ضدّ الجاهليتين على اعتبار ان المجتمع الحالي ليس مسلما –على الأقلّ بما يكفي- و لا بدّ من اعادة أسلمته. ومع ان هذه الأطروحة لم تسيطر كثيرا في خطاب النهضة التونسية الا في مراحل معينة و خاصة عند صنف من قياداتها الا انها كانت موجودة جنبا الى جنب مع أفكار أخرى أخفّ حدّة تعتبر المجتمع التونسي مسلما منقوصا و/أو منحرفا و تؤكّد خاصّة على هجران الدّولة التونسية للاسلام و من هنالك كان هدف تأسيس الدولة الاسلامية مركزيّا في أدبيّات الحركة ككل حركة اسلامية اخوانيّة و لكنّه يتوازى مع العمل الدّعوي لأسلمة المجتمع الذي،على أقلّ تقدير، لم يكن مسلما جيّدا حسب مقاييس الاسلام السياسي. ما الذي يبدو انّه تغيّر أخيرا اذن؟ يمكن تلخيص ذلك في مسألتين: مسألة انّ قضية الهويّة حسمت‘ في علاقة بالدولة -كما يقول الغنوشي و حزبه - من ناحية وانّ العمل على الأسلمة أصبح يتطلّب المشاركة في السلطة وعدم معاداة الدولة من ناحية ثانية و انّه أصبح بالتالي يحتمل 'فصل الدعوي عن السياسي‘ في 'الاسلام الديمقراطي‘. انّ ذلك يعني الانتقال من الأسلمة 'الثورية الاسلامية‘ الى الأسلمة الديمقراطية . الهدف بقي اذن و لكن الطرق ستختلف بسبب تغيّر الظروف. انّ هذا الخطاب الجديد للنهضة - وهو جديد فعلا- يرتكز على قراءة ذرائعيّة للثورة التونسية و منجزاتها من ناحية أولى و فيه تغيير حقيقي في الطّريقة يأخذ بعين الاعتبار الظروف و موازين القوى الجديدة من ناحية ثانية.أن القراءة الجديدة للثورة التونسية قراءة ذرائعيّة لسبب بسيط تماما: يعتبر الغنّوشي ان مسألة الهويّة حسمتها الثورة بتأكيد اسلام الدولة التونسية في الفصل الأوّل من دستور 27 جانفي 2014 بينما لا يمكن اعتبار ذلك أمرا جديدا أبدا لأنّ صيغة الفصل الأوّل من الدّستور لم تتغيّر في هذه النقطة تحديدا في الواقع منذ دستور جوان 1959. انّ الجديد في الخطاب اذن هو اعتراف النهضة بكون الدولة مسلمة و ليست لا علمانية و لا لائكيّة . ما تغيّر هنا ليس الدستور و لا علاقة الدولة بالدين بل تقييم النهضة للدّستور و لعلاقة الدولة بالدين الاسلامي. ولذلك فقراءة الغنوشي و النهضة للمسألة هي قراءة ذرائعية الهدف منها المرور الى مرحلة جديدة قوامها 'المصالحة مع الدولة‘ للتغيير من داخلها و تجنّب الاصطدام معها بعد الوعي بقوة 'الدولة العميقة‘ و بكون أجهزتها 'غير مضمونة‘ و كونها قد تقلب كلّ المعادلات السياسية بقطع النظر عن منطق الأغلبية و الأقلية الانتخابيّة. ان درس الجزائر ثم درس مصر حسما الأمر نهائيّا حول عبثية الاصطدام التقليدي مع الدولة في اتجاه خيار الانخراط في السلطة لاتقاء شرّها و للعمل على التغيير عبرها و من خارجها في نفس الوقت. انّ الفصل بين الدعوي و السياسي يدخل ضمن نفس الاطار و يعطي الحركة مرونة أكثر في القيام بنشاطها في الظروف و موازين القوى الجديدة. عبر السياسي يقع التأثير من أعلى في السلطة و محاولة الامساك بها من خلال الانتخابات و التحالفات السياسية. و عبر الدعوي يقع الاستمرار في اسلمة المجتمع من الأسفل .وكلّ ذلك في اطار الدستور الذي يكرّر النهضاويّون كثيرا انه ليس دستورا علمانيا و لا ئكيّا لاظهار نشاطهم طبيعيّا وفق منطق 'الاسلام الديمقراطي‘ الذي يختلف عن الاسلام السياسي غير الديمقراطي التونسي ( و التونسي فقط باعتبار عدم القطع مع الاخوان و كامل الاسلام السياسي غير الديمقراطي خارج تونس بحجّة 'كل بلاد وارطالها(7)) و بهدف التمايز عن الاسلام السياسي كما يبدو في تونس عند السلفيين و حزب التحرير.
5-التنظيم الاسلامي كأداة.
لم يحلّ حزب النهضة نفسه طبعا. التنظيم الاسلامي باق اذن ولم يغيّر شكله التنظيمي القديم حيث أصرّ الزّعيم على حقه في تعيين المكتب التنفيذي للحركة عوض انتخابه ديمقراطيا من قبل مجلس الشورى ،كما أراد بعض مناضليه، و اكتفى مجلس الشورى الذي ينتخب ثلثاه من قبل المؤتمرين و يعيّن ثلثه الباقي بدور تزكية المكتب التنفيذي لا غير و هو ما يعدّ مواصلة تنظيمية في نهج الحركة الدينية ذات القيادة الفردية تقريبا. ومن ناحية أخرى لم يتخلّ تنظيم النهضة عن الانطلاق من التصوّر الشمولي للاسلام بدليل كون مواقع الحزب مثلا لا تزال تحتوي على وثيقة 'الرّؤية الفكرية و المنهج الأصولي‘ (8) من ناحية أولى و انّها لم تتخلّ عن الدّعوي بل اكتفت بفصله الاجرائي و الوظيفي ليس عن السياسي في معناه العام ( وهو ما سيكون علمنة تنظيمية) بل عن الحزبي في معناه التنظيمي المباشر لا غير من ناحية ثانية. أكثر من ذلك فسوف لن يفصل بين الوظائف الحزبية السياسية و الوظائف الدّعويّة الا عند العناصر القياديّة لا غير امتثالا للدستور و القانون الذين يمنعان الجمع بين منصبين قياديين (لا غير) سياسي و دعوي ( كالامامة في المسجد) مثلا. هذا يعني ان قواعد النهضة بامكانهم مواصلة الدّمج بين السياسي و الدّعوي من خلال التزام من يريد قيادة العمل الدّعوي بعدم التقدّم لمناصب- ولكن قيادية -سياسية لا غير.
6- الدولة الاسلامية كهدف سياسي نحو أسلمة المجتمع الشاملة.
هل وقع اسقاط هدف الدّولة الاسلامية كاستراتيجيا سياسية نحو أسلمة المجتمع؟ لا قطعا اذ لو حصل ذلك لكفّت النهضة عن اعتبار نفسها حركة اسلامية . ولكن محتوى الدّولة الاسلاميّة عرف بعض التغييرات في اتجاه المزج الجديد بين الاسلام و الديمقراطية و هو تغيّر مهمّ جزئيّا. في السّابق كانت الدولة الاسلامية تقدّم من قبل الاتجاه الاسلامي و النهضة كبديل عن الدولة القومية و الدولة الليبيرالية و الدولة اليسارية في نفس الوقت.الآن أصبحت الدولة الاسلامية دولة تقبل بالديمقراطية. في السابق كانت الشورى تعارض الديمقراطية اما الآن فان الشورى أصبحت لا تتناقض مع الديمقراطية الحديثة بل أصبحت شكلا قديما منها في المجتمع الاسلامي و هذا تغيّر جديد و مهم في الخطاب بقطع النظر عن الاهداف من ورائه كما بيّنّا أعلاه في خصوص نقاط أخرى. للوقوف عند هذا التغيير لا بدّ من تذكّر ما يلي. يقول راشد الغنّوشي في النّدوة الصحفية التي عقدتها النهضة سنة 1981 بعد طلبها رسميا ترخيصا للنشاط القانوني ما يلي: ”...فتصوّرنا لنظام الحكم ليس تصوّرا ديمقراطيّا و لكنّه تصوّر شوري نقدّمه الى قواعد الشعب و للشعب أن يحكم لنا أو لغيرنا دون انحراف أو ضغوط. و هذا مبدا اسلامي لا تراجع عنه و القواعد في النهاية هي التي تختار لزيد أو لعمرو.“ (9) لقد كان 'التصوّر الشوري‘ للحكم الاسلامي مناقضا اذن للديمقراطية عكس ما يروجه الغنوشي و النهضة من انهم كانوا ديمقراطيين منذ تأسيسهم القانوني سنة 1981. أكثر من ذلك لقد كان الغنّوشي قبل ذلك بسنتين فقط يرفض حتى أبسط الحقوق الديمقراطية :حقّ الترشّح في الانتخابات. كان الغنوشي قد كتب مثلا سنة 1979 في مقال بعنوان‘ العقلية الفردية و أثرها في حياة العرب وواقعه‘ انّه ”...و من ثمّ لا مجال في المجتع الاسلامي للحملات الانتخابية يخوضها الزعماء 'فلا تزكّوا أنفسكم‘. وانّما الأمّة هي التي تزكّي و ترشّح من تراه كفئا.“ (10) لقد تمّ التراجع اذن عن 'التصوّر الشوري‘ التقليدي الذي كان يرتبط بالتصور 'الثوري الاسلامي‘ ووقع القبول بالتصور 'الديمقراطي الاسلامي‘ التدريجي ،الانتخابي و البرلماني و بذلك انتقلت النهضة من الاسلام السياسي الراديكالي الثوري الاسلامي الى الاسلام السياسي الديمقراطي تحت ضغط موازين القوى الدولية و التونسية التي فرضت مراجعات و تراجعات. ان 'الدولة الاسلامية الديمقراطية‘ النهضوية ،تحت هذا الضغط، تقبل اليوم بالانتخاب و الترشح و الحقوق و الحريات السياسية و بالتداول على الحكم سلميّا...في انتظار أسلمة المجتمع الذي يعطي الأغلبية المطلقة للاسلاميين و التي ستمكّنهم من استعمال الدولة نفسها لتغيير الدستور و القانون و فرضهما بالقوّة القاهرة للدولة...ان سنحت الفرصة طبعا. انّ هذا ما عبّر عنه راشد الغنوشي بشكل غير مباشر حين قال لأوليفيي رافانيللو مثلا ” ليس هناك حرّية مطلقة (...) القانون يحدّد الحرّيّة و القانون يعبّر عن المزاج العام. واذا انطبع المجتمع بالقيم الدينية ، اذا عاد الناس الى تلك القيم الدينية سينتهي القانون للتعبير عن ذلك طبيعيّا.“ (11) و هكذا فان هدف الدولة الاسلامية القائمة على الشريعة الممأسسة و المرسمنة في القانون تبقى هدف النهضة ولكن الطريقة لم تعد ”الثورة الاسلامية‘ بل التدرّج من خلال الفعل السياسي في الدولة من خلال السلطة من ناحية و من خلال الفعل الدعوي في المجتمع انطلاقا من المجتمع المدني. و هذه الطريقة هي ،للتذكير، كانت طريقة أبي الأعلى المودودي في باكستان الديمقراطية في بداياتها. و لذلك فان الجديد عند راشد الغنوشي ليس نظريا تماما و بالمطلق بل هو جديد في سلوك حركة النهضة في تونس بعد غواية سيد قطب و الخميني لسنوات و بعد الثورة التونسية و ما خلقته من موازين قوى جديدة في الداخل و في اطار موازين قوى جيو-استراتيجية في المنطقة و العالم.
7- خصائص الحركة الاسلامية قبل و بعد المؤتمر العاشر.
لاستكمال الصّورة حول التحوّلات الجزئية التي تعرفها النهضة لا بدّ من التذكير بما كان راشد الغنّوشي يسمّيه 'الخصائص المشتركة ' بين الحركات الاسلامية المعاصرة ( الاخوان-الجماعة الاسلامية-حركة الخميني) التي ألهمته. يلخص الغنوشي هذه السمات المشتركة في النقاط التالية:1 شمولية الاسلام و الشريعة. 2-الدولة الاسلامية .3-الاهتمام بالقضية الوطنية.4- الاهتمام بالقضية الاقتصادية و الاجتماعية.5-التحرر من ثقافة الغرب.6-الاعتقاد في كمال الاسلام و قابليته للتحقق.7- المرجعية السّلفية.8- التوكل على الله.9- النزعة الشعبية.10- التنظيم الاسلامي. (12) انّ أهمّ ما يجب اضافته للاحاطة بالتحولات التي عرفتها النهضة يكمن في المجالين الوطني و الاقتصادي-الاجتماعي تحديدا و ذلك في اتجاهين. أوّلا: بعد طول صراخ ضدّ قوى 'الاستكبار العالمي‘ و الاستعمار و الصهيونية تنتقل النهضة للانخراط في اللعبة الدولية و الاصطفاف ضمن الأحلاف 'الاسلامية السنية‘ مع قطر و تركيا و السعودية برعاية خاصة من الولاياتالمتحدةالأمريكية و تنتقل بالتالي من 'الوطنية الاسلامية‘ الراديكالية على طريقة الخميني و سيد قطب و غيرهما في 'المرحلة الثورية‘ الاسلامية الى 'الاسلامية المعتدلة‘ بما في ذلك في المسألة الوطنية.و يقع تزيين ذلك طبعا ببعض الوطنية التونسية الانقاذية من الارهاب و الأزمة المالية المحدقة،الخ. ثانيا: بعد طول صراخ ضدّ المستكبرين و مع المستضعفين اقتصاديا و اجتماعيا .ها ان النهضة تدخل باب الطاعة الليبيرالي تقريبا الى درجة انّ الله ،حسب الغنوشي، أصبح يحبّ الأغنياء لأنه غنيّ ( و هل يحبّ الله الجبابرة لأنّه جبّار و قهّار...؟) و الى درجة تهديد الفقراء المضربين في الحوض المنجمي بمعاملتهم كقطاع طرق و التهديد بنفيهم و بتقطيع أياديهم و أرجلهم من خلاف كما صرّح بذلك الصادق شورو في المجلس التأسيسي. لقد انتقلت النهضة من الموقع 'الوطني المحافظ‘ الرّاديكالي الى الموقع الوسيطي المحافظ . و من الموقع 'الاجتماعي الاسلامي‘ الراديكالي الذي طالب في يوم ما تقريبا بما يسمى ”الاشتراكية الاسلامية“ (اشتراكية الماء و الكلأ و النار) و بالتأميمات و بالأرض لزارعها و غيره (13) الى الموقع 'الليبيرالي المحافظ‘ ( بل ويكاد يكون الليبيرالي المتوحّش أحيانا).
خاتمة :
تغيرت النهضة و لم تتغيّر في نفس الوقت اذن تحت وطأة موازين القوى الدولية و العربية و التونسية.انها لا تزال حركة اسلامية محافظة خاصة في الجوانب الاجتماعية و الثقافية و لكنها بصدد التحوّل ربّما باتجاه الاصلاحية الاسلامية منهجا في التغيير و باتجاه الوسيطية وطنيّا و باتجاه الليبيرالية المحافظة اقتصاديا و اجتماعيا . ولكن هذه التغييرات لم تكتمل بعد. انها في بداية الطريق. ...و هي لذلك لا تزال تختلف كثيرا عن الديمقراطيات المسيحية القومية - ولكن حدّ الكولونيالية - و العلمانية و اللائكية في دول ذات سيادة سياسية وطنية راسخة وذات ديمقراطية مستقرّة و ذات اقتصاد قويّ ومجتمع حرّ و ثقافة قومية قويّة . بل انها لم تتغير حتى لتصبح شبيهة بالاسلام السياسي التركي الحاكم الذي يقبل – رغما عنه تقريبا- بالديمقراطية بل و بالعلمانية و باللائكية في بلد هو رغم كل شيء أفضل وضعا من تونس و يعدّ من القوى الاقليمية في المنطقة . ولكن عدم مطابقة ما حصل من تغيّر للنماذج المذكورة أعلاه لا ينفي حصول أية تغييرات. نحن ربّما في بداية طريق و المستقبل هو الذي سيحسم الأمور. و لكنها تغييرات يبدو انّها أشبه ما تكون بما رواه ابن المقفّع في كليلة و دمنة في مثل الرّجل الهارب من الموت" عن رجل يهرب خوفا من السباع و المجرمين و غيرهم ليموت تحت حائط خرب. فعوض هروب قيادة النهضة الى الشعب و مطالب ثورته في الشغل و الحرية و الكرامة الوطنية و بالتالي الحياة، يقع الاستناد الى حائط الموت الخرب كما كان متوقّعا .و يقع تجميل هذه الميتة عبر وصفها بصفات مثل 'الوسطية‘ و' الوطنية التونسية‘ ' الاسلامية الديمقراطية‘ وغيرها . عوض الهروب من الشمولية الاسلامويّة الى الحرية الوطنية عبر الاقتراب من الوسط الديمقراطي الاجتماعي على الأقلّ ،يقع الاتكاء على حائط قوى داخلية وخارجية لا مانع عندها من التهام البلاد وطنيا و من تجويع شعبها عبر ليبيرالية متوحشة و لن تخجل ان تطلّبت المصالح ذلك و ان حانت الفرصة حتى في أكل خدمها. لعلّ الايجابية الكبرى الوحيدة و الوقتية لهذا التحوّل الحالي هي تجنيب البلاد صراع الفيلة الذي كان محتملا مع نداء تونس و هي اشبه بقصر من فخّار الآن. ولقد كان ذلك الصراع يمكن أن يأتي على الأخضر و اليابس في البلاد فعلا. و لكن الشعوب و ان استحسنت تجنّبت الموت في احتمال الحرب العبثيّة الا انّها لا تنسى لنخبها السياسية لا الاساءة الى كرامتها الوطنية و لا الاجهاض على حريتها الشعبية و لا نهب و اهدار ثرواتها الطبيعية و البشرية . 09-06-2016..