في الوقت الذي كانت فيه جميع الجهود منصبة حول مواجهة الجائحة الوبائية في جو من التلاحم و التضامن قل نظيرها في العقود الأخيرة ، و في الوقت الذي كان ينتظر الشعب من الحكومة ان تستغل منسوب الثقة المرتفع خلال هذه الجائحة في أجهزة الدولة و مؤسساتها لاتخاذ قرارات مهمة من شأنها الخروج بالبلاد من التداعيات الاقتصادية السلبية التي خلفها هذا الوباء ، يفاجأ الرأي العام بمقتطفات لمواد يتم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي على كونها موادا تخص مشروع قانون 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي و شبكات البت المفتوح و الشبكات المماثلة ، و قد أثار هذا المشروع غضبا عارما و سخطا واسعا في الأوساط المجتمعية و قواه الحية و المنظمات الحقوقية لاحتواء على مقتضيات خطيرة تمس بحرية الرأي و التعبير و النشر ، و تعتبر انتكاسة و تراجع عن المكتسبات الحقوقية التي راكمها المغرب عبر سنوات طويلة من النضال . و إذا كان وباء كورونا بالرغم من آثاره الصحية و المجتمعية و الاقتصادية الوخيمة على البلاد،فقد كان مع ذلك سببا في عودة التضامن و التآزر النابعة من قيم المواطنة لذا مختلف فئات الشعب المغربي ، كما كان سببا في عودة الثقة المفقودة بين المجتمع و الدولة في لحظة اجتماع الوطني قل نظيرها ، فإن مشروع القانون 22.20 الذي أطلق عليه المغاربة “مشروع قانون تكميم الافواه” لا يخلو بدوره من دروس تهم المشهد السياسي العام ، يتعين الوقوف عندها لتجنب أخطاء متراكمة و اختلالات كثيرة كانت سببا فيما عاشته البلاد طيلة الحقب السابقة من تعثر في طريق الانتقال الديمقراطي و فشل النموذج التنموي و غيره من الإخفاقات : أغلبية حكومة غير منسجمة و أحزاب متصدعة بعد ردة الفعل الشعبية القوية و موجة الغضب و الرفض و الاستنكار العارمة التي أثارها مشروع القانون 22.20 بسبب المقتضيات الخطيرة التي تضمنتها المواد المسربة، خصوصا فيما يتعلق بالعقوبات السالبة للحرية المرتبطة بمقاطعة المنتجات والبضائع أو التشكيك في جودة وسلامة بعض المنتجات والبضائع أو التحريض على سحب الأموال من المؤسسات الائتمانية ، الأمر الذي اعتبر تقييدا لحرية التعبير على المنصات الرقمية، و مساسا بحرية الرأي والتعبير والنّشر، خرجت بعض مكونات الأغلبية الحكومية بتصاريح تتبرأ فيها من مشروع القانون المثير للجدل ، خصوصا حزبا الحركة الشعبية و التجمع الوطني للأحرار ، كما عبرت شبيبة العدالة و التنمية التي يرأسها الوزير في الحكومة محمد امكراز رفضها لأي تشريع يمكن أن يمس بحرية الفكر و التعبير المكفولة دستورا ، مع انه و للمفارقة يعتبر هذا الوزير عضوا في الحكومة التي صادقت يوم 19 مارس 2020 على مشروع القانون 22.20 ، وهو أيضا عضو في إحدى اللجنتين التقنية و الوزارية اللتان عهد إليهما بدراسة المشروع حسب بعض التسريبات الإعلامية ، مما يكرس خاصية التنافر و عدم الانسجام بل و الصراع أحيانا التي رافقت هذا التحالف الحكومي منذ الوهلة الأولى لنشأته . فلماذا رفعت الآن بعض مكونات التحالف الحكومي يدها عن مشروع القانون المذكور بعد ان صادقت عليه في مجلس حكومي بتاريخ 19 مارس 2020 ،و كيف يمكن تفسير تنصل هذه الأحزاب من مشروع القانون و أبدت استعدادها لسحبه بعد ما أثاره من استنكار واسع ، في حين أن مصادر مقربة من وزير العدل صرحت ان هذا الأخير مصر على تمرير هذا المشروع وإحالته على البرلمان خلال الدورة التشريعية الحالية قصد مناقشته و التصويت عليه حسب ما أفادت به مصادر إعلامية ،هذا الارتباك و التخبط الحكومي و الذي فجر للأسف الإجماع الوطني غير المسبوق في مواجهة الجائحة الوبائية قد يكون سببا أيضا في ” تفجير الأغلبية الحكومية “إذا صحت الأخبار التي تداولتها بعض المنابر الإعلامية من أن الاتحاد الاشتراكي قرر جمع مجلسه الوطني بطريقة لم يفصح عنها بعد لاتخاذ قرار الخروج من الحكومة . و كما فضح مشروع القانون 22.20 التنافر الحاصل بين أحزاب الأغلبية الحكومية ،فضح كذلك التصدع الحاصل داخل بعض أحزاب الأغلبية نفسها ، ففي الوقت الذي يصر فيه وزير العدل و القيادي الاتحادي على تمرير مشروع القانون المثير للجدل ، نجد بعض مكونات الحزب ترفض هذا المشروع جملة و تفصيلا ، وهو الموقف الذي أعلنته الكتابة الإقليمية للاتحاد الاشتراكي بفرنسا، التي اعتبرت هذا المشروع يخالف مبادئ الحزب و يتنافى مع المرجعيات الحقوقية الدولية ،و يضرب في عمق هوية الحزب و يمس بسمعته لما يشكله من خطورة على منظومة حقوق الإنسان و على المكتسبات التي راكمتها البلاد ، بل ذهبت أكثر من ذلك حينما اعتبرت هذا المشروع يستهدف وضع المؤسسات التمثيلية رهينة لأصحاب المال ، و من جهتهم عبر اتحاديو جهة سوس عن رفضهم لهذا المشروع على اعتبار ان مضامينه تتناقض مع فكرة الحداثة التي يتبناها الاتحاد الاشتراكي ،ومن شانه التخلي عن تضحيات كثير من المناضلين الذين مروا بالحزب ، أما الكتابة الجهوية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بجهة الدارالبيضاءسطات فقد أصدرت بيانا ناريا تتهم فيهم من سمتهم بالقائمين وراء هذا النقاش المفتعل والمحركين لخيوطه بأن لهم أهدافا أخرى بعيدة عن روح الإجماع والتلاحم والتضامن الذي أبان عنه المغرب ملكا وشعبا لمواجهة هذا الوباء ، و استنكرت ما تضمنته المسودة المسربة من مشروع القانون 22.20 من مس خطير بالحقوق والحريات وعلى رأسها حرية التعبير و اعتبرتها انتكاسة وردة حقوقية وهي من قبيل الرجوع الى الظهير المشئوم المعروف بظهير كل ما من شانه ،و ذكرت بأن أساس التشريع هو المصلحة العامة وخدمة المواطن المغربي وأنها ترفض بشكل مطلق وضع تشريع يزج بمواطنين في السجن خدمة لمصالح اقتصادية ضيقة بسبب انتقادهم لمنتوج او سلعة او خدمة . قبل الوباء الذي أحدثه فيروس كورونا كان المغرب يواجه الكثير من التحديات تهم الأزمة الاقتصادية ومشكلة البطالة و فشل النموذج التنموي الحالي و غيره من المشاكل ،و لا شك أن هذه الأزمات ستزداد مستقبلا حدة و تفاقما ، فكيف لمثل هذه الحكومة التي فشلت في تدبير مجرد مشروع قانون بدءا من صياغته التي تتنافي كليا مع الحقوق الثابتة التي كفلها الدستور المغربي في مجال الحقوق والحريات ، مرورا بإعداده و دراسته التي تتنافى مع مبادئ الشفافية و التشاركية و الحق في المعلومة المقررة دستورا ، حيث فرض التعتيم على مشروع القانون 22.20 و لم يتم نشره في الموقع الرسمي للأمانة العامة للحكومة ليبقى بعيدا عن أعين المواطنين، و إنما تم تسريبه من طرف احد المكونات الحكومية التي قد تكون غير راضية عن مقتضياته ومضامينه. ليس الوقت مناسبا للحديث عن إعادة النظر في هذا الائتلاف الحكومي الذي اعتبر من بدايته تحالفا فاشلا و لم يحض برضى و ترحيب الكثير من فئات الشعب المغربي ،و ذلك بالنظر الى الظروف الصعبة و الاستثنائية التي تمر بها البلاد ، و لكن مع ذلك يتعين على الحكومة الاعتراف بأن طرح مشروع القانون 22.20 في مثل هذه الظروف هو خطوة متهورة و غير محسوبة العواقب ، و عليها العمل على سحبه كونه اضر بالإجماع و التعبئة الوطنيين ، ثم إعادة ترتيب ألأولويات بما يجعل المصالح العليا للوطن فوق أي اعتبار آخر و بالشكل الذي يحافظ على التماسك الاجتماعي و الوحدة الوطنية ويزيد من تقوية الجبهة الداخلية ، وعدم إثارة أية قضية ليست محل إجماع وطني أو من شأنها إحداث شرخ او انقسام داخل مكونات المجتمع المغربي . خطر الجمع بين السلطة و المال الكثير من الناس يعتبرون انه حيثما اجتمعت الثروة و السلطة إلا وكان الفساد ثالثهما ، فحينما يصبح رجل الأعمال و التجارة رجل سياسة إما عضوا في البرلمان أو في الحكومة فهو في الغالب يعمل على تحويل مؤسسات الدولة إلى مناطق نفوذ ، و يشارك في صنع القرارات و صياغة القوانين و التشريعات التي من شأنها تسهيل استثماراته و تنمية تجارته ، وقد يوظف سلطته السياسية للحيلولة دون تمرير أي تشريع أو قرار قد يلحق الضرر بهذه الاستثمارات ، و آخر اهتماماته تكون خدمة مصلحة المواطنين ، و لقد بات في حكم المؤكد أن من يقف وراء بعض مقتضيات مشروع القانون22.20 هم أصحاب المصالح الاقتصادية خصوصا فيما يتعلق بجانب المقاطعة ، مما من شأنه أن يعيد النقاش الذي تكرر في عدة مناسبات حول الخطر الذي يشكله الزواج بين السلطة و المال على حقوق ومصالح المواطن المغربي . لقد سبق لرئيس الحكومة السابق عبد الاله بنكيران أن أعلن في تصريح مثير بأن زواج المال و السلطة خطر على الدولة ، و الغريب في الأمر ان حسن الشامي الرئيس السابق للاتحاد العام لمقاولات المغرب أكد في بدوره في حوار ناذر أجرته معه إحدى الجرائد الوطنية ما ذهب إليه بنكيران ، حيث قال إن المزج بين السلطة والمال خطر في أي مكان في العالم، ويجب إرساء سياسة للشفافية لإحباط هذا الخطر، كما تحدث عن خلفيات حملة "المقاطعة" التي شملت ثلاث شركات معروفة حيث اعتبرها محاولة من المقاطعين للضغط عن طريق اختيار أشخاص "أقوياء" قريبين من السلطة، لأن مقاطعة شركات لا تتميز بأي خصائص لا يمكن أن تحدث أي تأثير ، و هذا إن دل عل شيء فإنما يدل بأن جمع بعض رجال الأعمال بين الثروة و السلطة قد يشكل خطرا على مصالحهم أيض حينما تؤدي التدافعات السياسية و الصراعات الحزبية الى استغلال سلاح المقاطعة للإضرار بمصالح رجل التجارة /السياسي حينما يكون خصما أو منافسا . لقد ذهب كثير من الباحثين و من رجال السياسة إلى أن زواج المال والسلطة يشكل خطرا على مسار الانتقال الديمقراطي في المغرب ، و إذا كانت بعض المقتضيات الدستورية و القانونية نصت على حالات تنازع المصالح ،و وضعت الضمانات الأساسية لعدم الجمع بين ممارسة الأعمال التجارية والاضطلاع بالمسؤوليات العمومية كما هو الحال في جميع الأنظمة الديمقراطية، الا انه مع ذلك تؤكد الكثير المؤشرات ليس آخرها المقاطعة أن ثمة نفور كبير بين فئات عريضة من الشعب المغربي و بين رجال الأعمال و التجارة الذين تحولوا إلى رجال سياسية ، و حتما سيزداد هذا النفور حدة و شدة مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة ، مما يدعو من الآن الى التفكير بجدية في إيجاد حل لهذه المعضلة ، بحيث ينأى رجال الأعمال عن السياسة و يخصصوا وقتهم وجهدهم لخدمة و تنمية تجارتهم و استثماراتهم بالطرق و الوسائل المشروعة بعيدا عن امتيازات السلطة . فجوة عميقة بين الأحزاب السياسية و المواطنين تبين الطريقة التي تم بها تسريب بعض مواد مشروع القانون 22.20 عن عدة اختلالات في المشهد السياسي المغربي ، فالتعتيم الذي رافق هذا المشروع يؤكد بما لا يدع مجالا للشك انعدام الثقة المتبادلة بين الأحزاب السياسية و باقي مكونات الشعب المغربي ، فأحزاب الأغلبية الحكومية تعرف مسبقا بأن بعض مقتضيات مشروع القانون المذكور لا تخدم مصالح المواطنين و أنها لا محالة ستثير ضجة كبيرة لو تم نشرها أمام العموم، و لذلك طبقت في شأنها السرية التامة إلى حين التمكن من تهييئ الظروف المناسبة لإحالته على أنظار البرلمان من اجل المصادقة ، و ثمة سؤال كبير يطرح نفسه في هذا الصدد ، كيف لأحزاب تدعي أنها تمثل الشعب و تدافع عن مصالحه أن تقدم على مثل هذه الخطوة وهي تعلم مسبقا ان بعض مقتضياته غير دستورية، ومن شانها الإجهاز على المكتسبات في مجال الحقوق و الحريات ،و انها ستحدث زوبعة و ضجة كبيرة في وقت شديد الدقة و الحساسية قد تعصف بالإجماع و التلاحم و التضامن الوطني في مواجهة معركة كوفيد 19 ؟. نعود لأخطر المقتضيات التي تضمنها مشروع القانون 22.20 و هي” تجريم المقاطعة” و فرض عقوبات سالبة للحرية بخصوصها لنقول بان هذه “المقاطعة” تعكس أيضا اتساع الهوة بين الأحزاب السياسية المغربية و باقي الشعب المغربي ، فما هي أسباب اللجوء إلى هذا الشكل الاحتجاجي غير المسبوق ؟ و لما لم يلجأ المقاطعون إلى أسلوب آخر ؟ و إذا كانت لهم مطالب لماذا لم يتقدموا بها عبر المؤسسات الدستورية التي تلعب دور الوساطة كالأحزاب و النقابات ؟ الجواب نجده في التقرير السنوي 2018 للمجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي الذي اعتبر ان أسلوب المقاطعة هو تعبير عن مشكل الثقة الذي أصبح يتجاوز انعدام الثقة في المنظمات و المؤسسات العمومية ليشمل كذلك هيئات الوساطة التي أصبح ينظر إليها على انها هيئات متجاوزة و ضعيفة أو أنها امتداد للمؤسسات العمومية ، في حين ان استقرار المجتمع و تطوره يقتضي وجود هيئات وسيطة ذات مصداقية و تتحلى بالشفافية و قادرة على استباق حاجيات السكان .