على عكس ما يعتقد بعض الأكاديميين والمثقفين والإعلاميين أن العالم سيتغير بشكل جدري بعد اجتياز مرحلة ” كورونا “، حيث سنشهد عودة لقيم التضامن والتعاون والتآزر بين الأفراد، وبين الدول. فإننا نعتقد أن أشياء كثيرة لن تتغير، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية. نلاحظ أن هاجس ” ما بعد كورونا ” بدأ يفرض نفسه في العديد من القنوات الإعلامية عالميا. ومن الأسئلة التي يطرحها بعض الصحفيين في القنوات العربية: ما الذي سيؤول إليه واقع الدول الإفريقية والعربية في مرحلة ” ما بعد كورونا “؟ وكيف يمكن لهذه الدول، ونحن منها، أن ترفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية الجسيمة التي تنتظرها على المديين المتوسط والبعيد؟ في الحقيقة، يحتاج التنبؤ بمستقبل العلاقات الدولية إلى دراسات علمية من طرف المختصين. ولكن هذا لا يمنع وسائل الإعلام والاتصال من القيام باستطلاعات الرأي، ولا يمنع الأقلام من إبداء مختلف آرائها في الموضوع، في المجتمعات الديمقراطية. التاريخ يعيد نفسه: بالأمس القريب، بعد انهيار جدار برلين (في1989) وانتصار صناع العولمة، انقسم الباحثون والإعلاميون والمثقفون العرب والأفارقة إلى مبشر بالعولمة – المولود الجديد – ومنذر بقدومها. فالفريق الأول، دافع عن العولمة بشراسة مبررا ذلك بأنها ستنقد العالم من التخلف، وستغدقه غنى. وستنتصر لقيم العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية. وسيتم عقد العلاقات الاقتصادية والتجارية بين دول الشمال والجنوب على أسس المساواة والتعاون والتضامن، بعدما تم انهيار المعسكر الشرقي. أما الفريق الثاني، فقد رأى في العولمة ظاهرة للتوحش، وآلية لإتباث قيم الرأسمالية اللاإنسانية حيث ستنتشر قيم الانتهازية والوصولية والبحث عن الربحية من دون معايير أخلاقية. وسيتأكد من جديد أن من يملك المال ووسائل الإنتاج هو من يفرض منطقه وقيمه، بالقوة. وسيغدق العالم فقرا. وهناك فريق ثالث، لم نخف انتماءنا إليه، وقد عبرنا عن ذلك في نهاية التسعينيات من القرن الماضي من خلال مقالة لخصت مضامين الورقة التي قدمناها في الأسبوع الثقافي الذي تنظمه سنويا ثانوية الرحالي الفاروق بالعطاوية (إقليمقلعة السراغنة)، بعنوان: العولمة الاقتصادية واقع يفرض التعامل معه بحذر. وما الذي أتبثه الواقع الملموس؟ بعد تطبيل وتزمير العديد من الأقلام والسياسيين لشعارات العولمة الإنسانية والحقوقية، انقسم العالم بعد الغزو الأمريكي لحضارة العراق إلى قسمين: من مع أمريكا ومن ضدها. محور الخير ومحور الشر. وتم وصف فرنسا بالعجوز نظرا لاختلافها الشديد آنذاك، مع الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد عاش، وما زال، العالم بعد انحطاط الحضارة العراقية، مرحلة جديدة عناوينها البارزة: توسع رقعة النزاعات القومية والطائفية داخل الوطن الواحد خاصة في الوطن العربي. التطرف بمختلف أنواعه. ارتفاع أسهم الشعبوية في أوروبا. واتضح بالملموس أن حقوق الإنسان والديمقرطية والحرية (…)، شعارات ويافطات رفعها صناع العولة للتمكن من السيطرة على الاقتصاد العالمي. وقد تمكنت الشركات العملاقة، الفاعل الرئيسي في اقتصاد العولمة، من تحقيق غاياتها من خلال تنميط الحياة في العالم، ونشر قيم الاستهلاك المادي، وتبخيس أدور الفلاسفة وعلماء الاجتماع والأدب (…) واكتساح قيم السوق، لتحقيق الأرباح الكبرى. ونجح صناع العولمة في إقبار القضية الفلسطينية، ولم تعد قضية عربية. ونجحوا في خلق حروب بالوكالة في العالم. ولنا أن نتساءل، أليس من دعوا بالأمس إلى تحرير المبادلات التجارية عالميا هم من بدأوا اليوم يطبقون علانية الحمائية الاقتصادية؟ ويغلقون الأبواب يوما بعد يوم في وجه المهاجرين. فأين نحن من حرية المبادلات التجارية، وحرية الاقتصاد، وحرية تنقل الإنسان في العالم(…) لهذه الأسباب ولغيرها من الحقائق لا نومن بتغيير العالم في مرحلة ما بعد كورونا. فصناع العولمة لن يغيروا المبادئ والثوابت الأساسية لاقتصاد العولمة، في القريب المنظور. إن العولمة ليست وليدة الصدفة، وليست وليدة الثمانيات أو التسعينيات من القرن الماضي كما يعتقد البعض، فهي متجذرة في تاريخ الرأسمالية. يتبث لنا هذه الحقيقة الخبير المغربي المتخصص في الدراسات الدولية للبلدان النامية، عباس برادة السني، الذي خبر الشؤون الدولية ممارسة وتنظيرا. ففي حديثه عن الجذور الاستعمارية للعولمة، في كتابه ” العولمة الاقتصادية…” الصادر سنة 2000، يذهب إلى أن هناك أوجه التشابه بين العولمة وبين الظاهرة التي كانت توصف في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بأوربة العالم أو فرنجته (l'européanisation du monde). وكانت تعني أولا وبالذات أن أوروبا أصبحت مركز العالم ومصدر القرار فيه طيلة قرن ونصف من الزمن. وأن القول الفصل كان لها في كل ما يجري على وجه البسيطة مما له علاقة بالتنافس على الأسواق، والاستغلال للثروات، والاستئثار بالمواد الأولية والزيادة في التراكمات المالية. وتأكد عبر التاريخ أن الرأسمالية تتجاوز أزماتها من خلال تجديد آلياتها التكنولوجية. وهو ما أكده الاقتصادي فؤاد مرسي في كتابه ” الرأسمالية تجدد نفسها “. نعم، ذلك صحيح. وستجدد نفسها في مرحلة ” ما بعد كورونا ” من خلال الرقمنة وغيرها من الآليات التي تصرف الشركات العملاقة أموالا طائلة من أجل ابتكارها للتخفيض من تكلفة الإنتاج. والعولمة في بعض معانيها، تخفيض تكلفة الإنتاج إلى أدنى حد ممكن. ولكن، ما يتبثه التاريخ أن كل تجديد في تاريخ الرأسمالية، كان، ومازال، وسيبقى على حساب الفقراء، سواء تعلق الأمر بالدول أو بالأفراد/ الإنسان. الإنسان هو كبش الفداء في نظام الرأسمالية المتوحشة. فهل نستفيد نحن العرب والأفارقة من دروس التاريخ؟ نعتقد أن ملك المغرب قد بعث برسالة بليغة إلى رؤساء وزعماء الدول الافريقية والعربية، من خلال الدعوة لضرورة البحث عن سبل للتضامن الافريقي والعربي لتجاوز أزمة كورونا. وهي رسالة سياسية قوية، تستشرف المستقبل. فلا سبيل إلى التخفيف من حدة هذه الأزمة وتبعاتها الجسيمة في المستقبل القريب والبعيد، غير التضامن والتعاون. ولا شك ان إعادة بناء افريقيا والوطن العربي في إطار ” اتحاد افريقي/ عربي” قوي، لم يعد خيارا. وإنما أصبح حتمية تاريخية لرفع التحديات الجسيمة لمرحلة ما بعد كورونا، ولإيجاد مكان آمن ولو نسبيا لفلذات أكبادنا في افريقيا والوطن العربي مستقبلا. إن العولمة كما قال الفقيه عبد الهادي بوطالب رحمه الله ” نظام يستفيد منه الرأسمال الأقوى والمقاولات المؤهلة لخوض حرب التنافس على الأسواق التي لا يملك فيها العالم المتخلف القدرة على التنافس”. ثم أن العلاقات الدولية لا تتغير في سنة أو سنتين. فلن تظهر معالم النظام العالمي المنتظر إلا بعد 10 سنوات على أقل تقدير. وما أتبثه التاريخ، هو أن المنتصر في الحرب هو من يصنع النظام العالمي الجديد. وتوحي الحرب العالمية الآنية ضد فيروس كورونا، العدو الخفي، أن هناك فاعلين جدد في الساحة الدولية الذين لن يفوتوا الفرصة السانحة لهم لصناعة نظام عالمي جديد. ومنهم الصين الذي حقق الانتصار بالنقط، في هذه الحرب ضد كورونا. الصين بلد ” الكون كفو، والووشو، وجيت كين دو الذي ابتكره الأسطورة بروسلي”. وهي فنون دفاعية نبيلة تعتمد عن الذكاء والعقل في التباري. فالصين هي من مد يد العون لإيطاليا ودول أوروبية أخرى في محنتها ضد فيروس كورونا. والصين أبدت استعدادها للتعاون مع افريقيا. وتعود روسيا بعدها تدريجيا إلى الشرق الأوسط، بالقوة. مجمل القول، بمثل ما قام به المغرب من استباقية لمواجهة أزمة كورونا. بمثل ما ينبغي القيام به، على مستوى افريقيا والوطن العربي، لمواجهة تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية الجسيمة في المديين المتوسط والبعيد. خاصة أن العديد من الدول لجأت بالرغم منها إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي. وما أدراك ما هي تبعات الاقتراض من المنظمات الدولية. ولا حل لذلك، غير بناء “اتحاد افريقي/ عربي” قوي. يستمد قوته من الديمقراطية الداخلية والعدالة الاجتماعية، في كل بلد. ويستفيذ من تجربة الاتحاد الأوروبي ومن أهمها: توقيع رؤسائه في مرحلة التأسيس على احترام مبادئ الديمقراطية والتعاون الاقتصادي والسلم. ونعتقد أنه فيما يخص قارتنا الافريقية والوطن العربي، أن أهم درس في مرحلة كورونا هو: ضرورة إعادة الاعتبار لدور الدولة الاجتماعية والحامية لحقوق المستضعفين. والاهتمام الكبير بصحة المواطن وبالجسم الطبي بمختلف درجاته، وبأمن المواطن. ويبقى التربية والتعليم، المدرسة العمومية، هي الآلية الحقيقة لإعادة بناء القيم النبيلة. فالقيم الاجتماعية والإنسانية لن تتغير على مستوى الأفراد والجماعات بعد كورونا، بين يوم وآخر. إن تغيير قيم السوق بقيم التضامن والتعاون والتآزر يحتاج إلى إرادة سياسية أولا. ثم، سياسات عمومية، تجعل من المدرسة والإعلام، الآلية الحقيقية لتغيير عقليات المجتمع وثقافته. يحتاج إلى ثورة ثقافية، وطنية، داخل كل مجتمع. ولنا في اليابان خير مثال نستشهد به. وثاني درس، أن المحدد الرئيسي لوجود كل أمة هو: الكفاءات العلمية. لذلك، ينبغي الاهتمام بالبحث العلمي. وبالمفكرين والمنظرين في كل المجالات الإنسانية. ويبقى الحضور الوازن للقطاع العام ضرورة في حياة المجتمعات العربية والافريقية. ولا بد من دعم ومواكبة وتقوية المقاولة الصغيرة والمتوسطة. وقد أتبثت هذه المرحلة أهمية السوق الداخلي بالنسبة للاقتصاد الوطني. وأتبث التاريخ، فشل الدول التي تبنت نموذج الاقتصاد المغلق. إن التنمية والديمقرطية متلازمتان. وهما المدخلان للقوة الاقتصادية والسياسية والتفاوض مع الأقوياء. وأخيرا، من دون اتحاد أو على الأقل في مرحلة أولى، بناء تكتلات عربية وافريقية، قوية، اقتصاديا وسياسيا، سنخلف موعدنا مع التاريخ مرة أخرى. ولا غرابة، إذا سمعنا في بلدما بثورة الجياع. فهل ستعيد الدول الافريقية والعربية ترتيب أولويات أجندتها؟ المستقبل وحده كفيل بالجواب. * إعلامي وباحث