زمن كورونا غير معهود بالتحديد وحدة أزمته وعالميته وآثاره القاتلة والمرعبة في آن، وَضع البشرية في مأزق وجودي حقيقي، أربك حسابات الدول العظمى والسائرة في طريق النمو، أصبحت كل الدول أمامه سيان، صفارة إنذار كونية لحرب بدأت للتو، وبشكل مباغت، دون سابق إعلان، إنه زمن وضع الإنسان أمام مصيره وسياسات الدول في المحك. كثرت النقاشات والتحليلات حول أصل الفيروس وفصله، ما بين خطابات ما ورائية تارة ومؤامراتية وعرقية وعلمية. بهذا الصدد خرج عديد الفلاسفة وعلماء الاجتماع بملاحظاتهم وتصوراتهم الأولى حول واقع البشرية ومصيرها وأوضاعها اليوم مثل: إدغار موران وسيلفاوي جيجيك وجاك أتالي ونوام تشومسكي وآلان باديو وغيرهم، كما دفع بالمختبرات العلمية للسباق نحو إيجاد مصل ممكن لهذا اللامرئي، وأعاد الفرصة للدول من أجل ضبط مجتمعاتها والتحكم فيها أكثر، تماما كما أثار نقاشات كثيرة حول فئات المسنين والعمال والعمل غير اللائق وقضايا الفقر والهشاشة والفردانية والتضامن والتماسك الاجتماعي وغيرها. فما هي ملامح زمن كرونا ومحدداته؟ زمن كورونا في تقديري الخاص: زمن الخوف والهلع وما يحدثه من آثار نفسية وسلوكية ووسواس في أمور النظافة، وحذر في العلاقة مع مجموعة الأغيار، والسقوط في خطابات التهويل أو التضخيم والاستخفاف أو التهوين أو الاحتماء بالأصل النقي المزعوم والتقوقع فيه بسبب الصدمة، والإحساس بالهوية الجماعية المؤسّسة على ممارسات وطقوس وعادات معينة، وتعطيل القدرة على التفكير وإعمال العقل على قدر عال من الفعالية “يبدو أن التحدي الذي يمثله الوباء في كل مكان يتمثل في تبديد النشاط الجوهري للعقل، وإجبار الأشخاص على العودة إلى تلك الآثار الحزينة – التصوف، والتخريف، والصلاة، والنبوءة، واللعنة – التي كانت معهودة في العصور الوسطى عندما اجتاح الطاعون الأرض. “آلان باديو-موقع كوة”؛ زمن يتراوح بالنسبة للفرد بين لحظتين فارقتين: لحظة الحجر ولحظة التعقيم، الأولى أطول وتتضمن الثانية وتشملها. كل حركة للفرد نحو خارج المنزل تخفي حقيقة راسخة: الفيروس اللامرئي يقبع بين الطرقات والدروب والأزقة والمارة، وكل ما يمكن لمسه أو شمه حتى. يترتب عن هذه الحقيقة آثار نفسية وسلوكية: أفعال محسوبة في المكان والزمان، ومتلازمة مع فعلي التعقيم والتكميم. تكثيف فعل التعقيم وتعاظمه يزيد منذ أول خطوة نحو داخل المنزل؛ هو فعل متسلسل ومتعدد المظاهر: تعقيم المقتنيات، وتعقيم ذاتي وتعقيم المكان وتعقيم المعقم؛ زمن مفصلي بالنسبة للعلاقات الاجتماعية والإنسانية، إذ عزز الرابط الاجتماعي عن بعد، وإعادة الاعتبار للافتراضي وكأننا نعيش هجرة جماعية نحوه؛ زمن من ال عن بعد إلى ال ما بعد، لأنه أعاد الاعتبار إلى ال عن بعد في مقابل ال عن قرب في المعيش اليومي والمجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. فأصبح التعليم عن بعد مثلا أكثر حضورا بالرغم من تكريسه لحجم الفوارق وعدم مراعاة تكافؤ الفرص والعدالة المعرفية بين المرتفقين، كما أصبحت النقاشات الثقافية والسياسية والاقتصادية والإعلامية تتم عن بعد. وأعيد الاعتبار للافتراضي وما يتيحه من إمكانات للعيش أون لايف ومشاركة مجموعة الأغيار الحياة الواقعية وتعويضها وضمان امتداد تفاصيلها. وكشف ال عن بعد عن هشاشة السياسة وتناقضاتها وأعاد للمناقشات دفئها وحرارتها. لكن، بالرغم من ذلك كله، هذا ال عن بعد يضمر ال ما بعد بشكل من الأشكال، سواء بالمعنى التأجيلي للأنشطة الأعمال والرغبات والانفعالات، أو بالمعنى الذي يفيد استخلاص الدروس والعبر والآيات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وغيرها، ذلك بغاية الانطلاق إلى وضع جديد وحياة جذرية تؤثثه. لذلك، يشكل هذا ال عن بعد أرضية صلبة وأساسا لل ما بعد؛ زمن كاشف للهشاشة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية: لعل مقياس نجاعة أي سياسة هو مؤشراتها المتمثلة في الواقع، في المجال والإنسان. وفي سياقنا المغربي تبين أن فئات اجتماعية متعددة انفجرت احتجاجا على إجراء الحجر الصحي المبكر “السياسة لا تنهج خارج امكانات تحققها حسب المنطق السليم للأشياء”. الجوع أخرج هؤلاء، الفقر والهشاشة أخرجت الناس للبحث عن القوت اليومي، لا يتعلق الأمر هنا بالمطالبة بالعمل اللائق وفق شروطه القانونية والحقوقية، إنها حالة العود إلى ما يسمى بالاقتصاد غير المهيكل. كما أن فئة أخرى خرت للتكبير والتهليل لرفع البلاء والوباء والجائحة، بذلك ضربت عرض الحائط الحجر الصحي وإمكانية العدوى وانتشارها. هذه الفئة تنهل من ثقافة تدينية محددة وتعتبرها مصدر الفعل والسلوك حتى ولو تعلق الأمر بالمعرفة العلمية النسبية وفي مجالات حيوية: الصحة والتعليم. إلى جانب ذلك، فئات شعبية كثيرة لم تلتزم بالحجر الصحي، لا بسبب الجوع ولا لمرجعيتها التدينية، وإنما بعامل اللامبالاة أو انتقاما للذات وجلد لها أو رد فعل عنيف تجاه سياسات الدولة على جميع المستويات. زمن الاندهاش والتوتر والقلق، الناتج عن الإحساس بالضعف والانشطار والتشظي، تحت وطأة صدمة سرعة انتشار الفيروس والتجنيد الإعلامي العالمي والمحلي له، واستحواذ المحادثات والنقاشات حول الحدث في الواقع ووسائط التكنولوجيا الحديثة وشبكات الاتصال الاجتماعي. وبما أنه زمن الاندهاش، فإنه زمن مزدوج: زمن العمل والفعل وما يكشفه من محدودية ودروس في المرحلة البعدية المقبلة من جهة، وزمن التأمل والسؤال حول الحال والمآل هنا والآن وفي المستقبل، حول قضايا التخطيط والسياسات ودولة الرعاية الاجتماعية والحق والقانون والعلم وغيرها؛ زمن الفرص لعديد الفئات؛ منها تجار الأزمات سياسيا من لدن جهات داخل المجتمع السياسي أو الدولة أو هما معا، تسعى بكل ما تملك من رساميل مادية ورمزية لتمرير قوانين معينة أو اختبار مدى تمريرها، التي تتطلب في الأصل ووفق المنطق السليم للأشياء ومنطق الدولة الحديثة، مناقشات عمومية كافية لأهميتها البالغة، وآثارها الحاسمة على الحريات العامة؛ ومنها تجار الأزمات اقتصاديا من محتكري بعض المواد أو تهريبها: الطبية “الكمامات” والغذائية، والرفع من ثمنها، واستغلال الظرفية لممارسة لعبتهم القديمة الجديدة، سعيا وراء مزيدا من الربح والحفاظ على المصالح وتراكم الثروة خارج معايير الأخلاق ومنطق الاقتصاد الإنساني؛ زمن التشخيص صحيا وتعليميا وفي ميادين الشغل والسكن والعيش الكريم؛ تبين أن ثمة فئات هشة اجتماعيا واقتصاديا، فئات تعيش في ظروف صعبة جدا ولا إنسانية، أفراد كثر في بيت واحد إن وجد، الدرجة ما تحت الصفر من حيث الدخل، إعاقات جسدية وذهنية فردية واجتماعية من عنف وتفكك أسريين، وكأنهم يعيشون خارج منطق الوطن والمواطن والمواطنة وسياسات الدولة! زمن إدراك أهمية العلم والمعرفة العلمية النسبية والدقيقة، التي تبنى في المختبرات، ووفق مناهج صارمة، إنها المعرفة المنظمة والمنهجية والسببية، التي تكشف عن القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية الميكروفيزيائية والماكروفيزيائية، وتحديد أسباب وجودها. فالمعرفة العلمية بناء منهجي، تتفاعل فيه الملاحظة بالتأمل أو معايير العقل الدينامية والمتجددة وقوانينها، ومعطيات الواقع وأحداثه، بشكل جدلي منفتح. بعيدا عن أي معرفة سائدة كائنة ما كانت ومهما كان مصدرها. زمن الانتقال من المرئي إلى اللامرئي والدفع في اتجاه الوعي باللامرئي (على الأقل لدى فئات كثيرة في سياقنا الشمال إفريقي والشرق أوسطي) وغير المنظور أو إمكان تيسير الانتقال من الإدراك التقليدي للواقع بالملاحظة والعين المجردة إلى الإدراك العقلي له عبر إعمال ملكة التمثل، وما ينتج عن ذلك من مراجعة وإعادة النظر في جملة من القناعات الراسخة واليقينيات الثابتة والثقافة التي تشكلت بعل التكرار والعادة. هذا الانتقال من شأنه أن يغير نمط العيش المؤسس “بفتح السين الأولى وتشديدها” وتشكيل آخر قيد التحقق. زمن العدالة في توزيع الخيرات الرمزية في العالم الافتراضي، في إطار ال عن بعد، عبر تقاسم الندوات والمحاضرات والدروس واللقاءات المفتوحة وغيرها، بشكل مكثف وغير مسبوق “أتمنى أن تستمر هذه التجربة الفريدة بعد أزمة كورونا” ، كما أن مجموعة من الكتاب أتاحوا منتوجاتهم الرقمية مجانا، والنهج ذاته اتبعته جملة من المكتبات ودور النشر والصناعة الثقافي الوطنية والدولية حينما أتاحت وثائقها وكتبها ومجلاتها رقميا، أو جزء منها إلى عموم القراء والطلبة والمهتمين بمختلف تخصصاتهم المعرفية والعلمية، والموقف نفسه اتخذته مجموعة من الجرائد الوطنية والإقليمية والدولية. يتبين إذن، من خلال ما سبق، أننا في حاجة ماسة إلى تكريس ثقافة الاعتراف وتثمينها تجاه عديد فئات من المواطنين واجهت الوباء في الصفوف الأولى من الأطباء والممرضين ورجال ونساء التعليم والصحافة والإعلام والأمن وفاعلين مدنيين ورواد اقتصاد القرب “أصحاب دكاكين البقالة” وغيرهم، وكشف الحقائق ونبذ العنف وفضح ممارسيه، متفقهين وسلطويين، والدفع في اتجاه التغيير والتحرير والتنوير، وإدراك أننا أمام زمن ينذر بأن نمط عيش الناس آخذ في التغير، ونظرة الفرد لذاته والغير وسياسات الدولة آخذة في التغير أو هكذا يمليه المنطق السليم، الأمر الذي قد يترتب عنه تراكم مادي ورمزي قيمي في وتيرة التغيير في أفق التحول.