(1) لقد ظهر جليا في زمن وباء “كورونا” مَسِيسُ حاجة الأمة للعلماء الربانيين، الذين يفتحون بفقههم الجامع آفاقا رحبة من ديننا الحنيف، تتجاوز الفقه المنحبس العاجز عن التفاعل مع مستجدات الواقع ومطالبه، المُضيِّق لواسع الدين وفسحته وجماليته. ومما يزيد المرء انشراحا، ما بتنا نشهده من رفض مجتمعي لكل الأفكار الشاذة المشوشة على نقاء وصفاء ديننا الإسلامي، سواء تلك التي بقيت حبيسة طوق التقليد المانع من مَلكة الاجتهاد والمورث للجمود والتحجر، أو تلك التي أضحت ضحية التسيب والجرأة على شرع الله عز وجل، والتي بدل أن تتفرغ للعلم النافع تسعى خائبة إلى محاكمة دين الإسلام من خلال إثارة بعض الجزئيات الشاذة في تاريخنا الإسلامي أو تسليط الضوء على خرجات آحاد فكر معزول، في محاولة يائسة للإلغاء الكامل لدور الدين في دنيا الناس، متجاهلة بقصد أو بغير قصد نور الإسلام الرحمة المهداة للعالمين ﴿ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين﴾.[1]، الذي أمر بالعلم والتعليم، والنظر والعمل، والنفع والانتفاع، والفعل والتفاعل، ونبهت مبادؤه السامية إلى ضرورة التمييز بين قدسية دين الإسلام وبشرية ومحدودية الإنسان، ﴿قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه، ومن عمي فعليها، وما أنا عليكم بحفيظ﴾.[2] (2) ومن جميل مظاهر تعظيم المغاربة لشهر الصيام، وفي ظل الحجر الصحي والإقفال الاحترازي المؤقت للمساجد ببلادنا بسبب جائحة وباء “كورونا”، ورغم الوضع الطارئ الاستثنائي، فقد غمرت روح مسجدية وأجواء قرآنية منازل الشعب المغربي خلال هذا الشهر الفضيل، حيث حرصت النساء على إعادة ترتيب وتزيين البيوت بأجمل حللها، وتطييبها بروائح البخور والطيب، فرمضان ضيف مبارك بخير مقدمه، وبركة زمانه؛ وعمل المغاربة على تحويل بيوتهم إلى مساجد عائلية في صور إبداعية غاية في الروعة، تتغنى بالقرآن وتفرح بشهر الغفران، متوسلين بروح ومقاصد شريعتنا الغراء، وفقهها الجامع الذي يرفع الحرج عن الناس، مستنيرين بقول الله عز وجل :﴿وماجعل عليكم في الدين من حرج﴾.[3]. فالإسلام أرحب وأيسر ما يكون، وأكثر تبشيرا ومرونة وتفاعلا مع مستجدات الواقع عبر الأزمنة والأمكنة، ومراعاة للأحوال والكليات والضروريات والأولويات. واللافت للانتباه، ولله الحمد، أن منسوب هذا التفاعل الإيماني المستقبل لشهر الرحمة والمغفرة قد ارتفع في زمن “كورونا” في تسليم تام بقضاء الله وقدره، تجلى ذلك من خلال الكم الهائل من رسائل أدعية تهنئة رمضان عبر الهواتف ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي المرفقة بالدعاء والتضرع لله عز وجل بأن يحفظ البلاد والعباد والإنسانية جمعاء من وباء “كورونا”، ويعجل بالدواء والشفاء، كل ذلك موسوم بهاشتاغ #بقافيدارك، تطبيقا للحجر الصحي والتزاما بالاحترازات الوطنية للحد من انتشار وباء “كورونا” القاتل. مما يزيد تأكيدا أن لرمضان حرمة كبيرة في قلوب المغاربة، لذلك يتفننون في أشكال استقباله ويحرصون على قدسيته وحرمته مهما كانت الظروف. رغم ما تُقصف به بيوتهم من تفاهات إعلامية، التي بدل أن تراعي القيم والأخلاق، وتجتهد في إنتاج ما يستجيب للأذواق الرفيعة، تواصل بث الإلهاء والرداءة. ورغم ما قد يلاحظ من مظاهر وسلوكات تخدش من قدسية وحرمة هذا الشهر، إلا أنها تبقى حالات معزولة بالنظر إلى الجو الإيماني العام الذي يعيشه المغاربة خلال هذا الشهر. فتعظيم حرمات الله تعالى برهان على الإيمان، وسبب للغفران ﴿ ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾.[4] (3) رمضان عند المغاربة هو فرصة كذلك للإنفاق في أوجه الخير بالصدقات وأعمال البر والخير، وفيه توثق أواصر صلة الأرحام بالزيارات المباشرة والتي وإن تعذرت في زمن “كورونا”، إلا أنها تتحقق عن بُعد بما توفره تقنيات التواصل الاجتماعي من تواصل وتفاعل صوتي ومرئي؛ وبما توفره وسائل إرسال المساعدات المالية للمحتاجين. فتُرسَّخ في شهر المواساة معاني المحبة والتعاون والتآخي، تلك المعاني الفاضلة التي أرشدنا إليها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبته مستهل شهر رمضان، فعن سعيد بن المسيب عن سلمان الفارسي رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال: «يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعا وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، شهر المواساة، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء. قالوا يا رسول الله: ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال عليه الصلاة والسلام: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة أو على شربة ماء أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة».[5] (4) إن من أعظم نعم الله عز وجل على المؤمن أن يوفقه لإدراك نفحات شهر رمضان المبارك واغتنام منحه الربانية وأجوره المضاعفة، فتعظيم شعائر الله تعالى والتعرض لنفحاتها هو مفتاح القبول، فعن عطية بن بسر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: « أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه ، فان قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه».[6] وإن من شكر نعمة بلوغ شهر رمضان تمام اغتنامها، وإن السعيد الرابح من ربح بيعه مع الله عز وجل في هذا الشهر، عسى أن تصيبه نفحة من نفحاته المباركة فيفوز بسعادة الدنيا والآخرة، وينجو من حال من حرم من المغفرة في شهر الغفران ممن عناهم حديث سيدنا رسول الله صلى الله في تأمينه على دعاء سيدنا جبريل عليه السلام ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال : «آمين آمين آمين. قيل : يا رسول الله، إنك حين صعدت المنبر قلت: آمين آمين آمين ، قال: “إن جبريل أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين ، فقلت: آمين…»[7] فأي حسرة على العبد أن يدركه رمضان ويحرم من المغفرة، وأي خسارة أن يتطهر المرء في رمضان ويدنس روحه بعد رمضان، فرمضان لما بعده فكما تهفو النفوس لقدومه وتحن القلوب للقائه، وتدمع العيون لفراقه، ينبغي أن تحرص الجوارح والأفئدة على أن تكون روح رمضان حاضرة في كل شهور السنة وليكن حافزنا شوق وديدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، الذين كانوا “يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم”.[8] فاللهم وفقنا لصيام نهار رمضان خير صيام، وإحياء ليله بالنوافل والقيام، ووفقنا لعمارة أوقاتنا بالقرآن، وتسلمه وتقبله منا كما تسلمته وتقبلته من حبيبك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم ببركة رمضان وما يتلى فيه من قرآن وما ترفع فيه من الأعمال، ارفع عن بلدنا الوباء وأنزل اللهم الدواء والشفاء، واحفظ كل من هم في الجبهة الأمامية لمواجهة هذه الجائحة، واحفظ الإنسانية جمعاء. ————————————————————————————————————————- [1] سورة المائدة، الآية 17. [2] سورة الأنعام، الآية 105. [3] سورة الحج، الآية 76. [4] سورة الحج، الآية 30. [5] رواه ابن خزيمة في صحيحه (3/191) ، باب في فضائل شهر رمضان. [6] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/29، رقم 7410)، وأبو نعيم في الحلية (6/136). [7] رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه. [8] ابن رجب، لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ص 209.