يأتي شهر رمضان هذه السنة والعالم يعيش وضعا خاصا، وحالة استثنائية بسبب تفشي وباء كورونا رفعه الله عنا برحمته وفضله وكرمه مما فرض على الناس حجرا صحيا، وألزمهم البقاء في منازلهم خوفا من انشار هذا الوباء، وحفاظا على أرواحهم. وهو أسلوب يساعد على رفع الوباء والوقاية منه. وهي فرصة سانحة تدعو الناس إلى تجديد التوبة والارتباط بالله عز وجل في هذا الظرف العصيب، فالذي أنزل الداء أنزل الدواء. {حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. شهر رمضان فرصة للإقبال على كتاب الله عز وجل قراءة وحفظا وتدبرا. فرمضان شهر الصيام والقيام وقراءة القرآن. يجتهد كل واحد منا داخل أسرته ، ويرتب أوقاتا للقراءة الفردية والجماعية، وصلاة القيام والتراويح مع أفراد الأسرة في أجواء روحانية تعبق بالمودة والرحمة. فيا لها من أوقات طيبة، ونسمات مباركة. " إن لربكم عز وجل في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن تُصيبه منها نفحة ، لا يشقى بعدها" . والملاحظ أن شهر رمضان لم يكن له ذكر قبل مجيء الإسلام، إنما كان العرب يعرفون الأشهر الحرم؛ ( ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، رجب)، فلما أشرق نور الإسلام اكتسب هذا الشهر ميزة خاصة، وخُص بهذا التفضيل. قال تعالى: { شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}. تميز بنزول القرآن العظيم في ليلة من لياليه. وهي الليلة الباركة التي شرُفت بهذه العناية الربانية، ليلة القدر، ليلة الشرف العظيم. أُنزل جُملة واحدة في هذه الليلة من شهر رمضان من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، قال الله عز وجل:{ إنا أنزلناه في ليلة القدر}، وقال أيضا في سورة الدخان:{حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مُباركة إنا كنا مُنذرين فيها يُفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مُرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم }. ثم أنزله منجما أي مفرقا على الرسول صلى الله عليه وسلم مدة حياته حسب الحوادث والمناسبات. قال تعالى:{وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مُكث}. عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "أُنزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يُحدث في الأرض شيئا أنزله منه حتى جمعه". وشهر رمضان هو شهر القرآن بامتياز. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُضاعف من اهتمامه به، وقراءته له. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله القرآن". هذه العناية الربانية بالقرآن الكريم، جعلت منه كتابا أمينا على باقي الكتب السماوية السابقة الأخرى، فالله عز وجل تولى حفظه وصيانته من كل تحريف أو تغيير. { إنا نحن نزلنا الذكر. وإنا له لحافظون} ، بينما أوكل أمر الحفظ والصيانة بالنسبة للصحف والكتب السابقة لأتباعها من الأمم السالفة. { بما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}. وهو حفظ مؤقت أفضى بمن حافظ عليه، وحافظ على وصايا الأنبياء والرسل باعتناق دين الإسلام. وقد بين الله عز وجل فضل القرآن وعظيم منزلته بقوله سبحانه:{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مُصدقا لما بين يديه من الكتاب ومُهيمنا عليه}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المُهيمن: الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله. وقد أعد الله عز وجل الثواب العظيم للذين يتلون كتاب الله ويتدارسونه. قال سبحانه:{ إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور، ليُوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور}. عن أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على مُعسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ". وفي حديث آخر" خيركم من تعلم القرآن وعلمه". أما فيما يتعلق بأجر القارئ للقرآن الكريم وثوابه، فيقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف. فالقارئ تكثر حسناته، ويُضاعف أجره بفضل قراءته لكتاب الله، وخاصة إذا كان يجد مشقة في ذلك. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: " مثل الماهر بالقرآن مثلُ السفرة الكرام البررة، ومثلُ الذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران". عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ". وفي حديث آخر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه". ويقال لصاحب القرآن: "اقرأ ورتل كما كنتَ تُرتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها". إذا كان هذا هو الجزاء الذي يحصل عليه صاحب القرآن، فإن الإنسان ليغبطه على ذلك، ويتشوق للظفر بهذه المكرمة، وهذا الاصطفاء. عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو يُنفق منه آناء الليل وآناء النهار". وكما أعد الله عز وجل لقارئ القرآن الثواب والأجر أعد ذلك أيضا للمستمع. قال تعالى: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له}. وفي آية أخرى: { فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " اقرأ علي" قلتُ: اقرأ عليك، وعليك أُنزل؟ قال إني أحبُ أن أسمعه من غيري". قال: فقرأتُ عليه سورة النساء حتى أتيتُ إلى هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}، قال: "حسبك الآن"، فالتفتُ إليه، فإذا عيناه تذرفان. كما حث الإسلام على تعاهد القرآن وعدم الغفلة عنه. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" تعاهدوا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عُقلها". ومن إكرام القرآن الكريم إكرام أهله، والاهتمام بهم وتوقيرهم واحترامهم، والنهي عن إذايتهم أو سوء الأدب معهم. قال تعالى: { ومن يُعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. وقال أيضا: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بُهتانا وإثما مُبينا }.عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المُقسط". وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُنزل الناس منازلهم". فاللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وشفاء صدورنا وشافعا لنا يوم القيامة. ذ. محمد عيسوي/ أستاذ باحث