في عمق الأزمة الإنسانية التي نكابدها، تشتد الحاجة إلى أنيس يسافر بنا بعيدا، لمعرفة كيف يمضي العالم اليوم، وكيف تمتزج السياسة بالاقتصاد والإعلام، لتولد مضامين، تعمل على تشكيل وتسيير كافة جوانب عيشنا المجتمعي. لهذا اختارت جريدة “العمق” القراءة في كتاب “نظام التفاهة”، عبر حلقات يومية طيلة الشهر الفضيل، تلخص المضمون، وتحافظ على عمق المعنى. قراءة ممتعة … الحلقة الأولى: كتاب”نظام التفاهة” لآلان دونو أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة كيبيك في كندا، ينطلق من فكرة أننا “نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى، تدريجيا، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة، وعبر العالم، يلحظ المرء صعودا غريبا لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين، فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيب الأداء الرفيع، وهُمشت منظومات القيم”. ويتعمق كتاب الأكاديمي دونو، المعروف بالتصدي للرأسمالية المتوحشة ومحاربتها على عدة جبهات، خاصة فيما يتعلق بصناعات التعدين والجنان الضريبية، في أن صعود التافهين وانهيار منظومة القيم، “أدى لبروز الأذواق المنحطة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية، وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية، ودائما تحت شعارات الديمقراطية والشعبوية والحرية الفردية والخيار الشخصي”. من la médiocratie إلى “نظام التفاهة” مترجمة الكتاب إلى العربية أوائل السنة الجارية 2020، مشاعل عبد العزيز دكتورة في القانون الخاص، بجامعة الكويت، انطلقت في ترجمتها ل”نظام التفاهة” الصادر تحت عنوان la médiocratie، سنة 2017، بالقول “هذا كتاب قرأته فأحببته، ثم ترجمت منه فصلا، حتى يكون مادة للنقاش مع طلبتي في بعض مقررات القانون، بعد بضعة أيام، فوجئت باتصال دار سؤال اللبنانية للنشر، وإلحاحهم علي بأن أقبل بترجمة الكتاب كاملا، حتى تقوم بنشره للقارئ العربي”. وزادت مشاعل عبد العزيز، في الصفحات الأولى من مقدمتها للكتاب، أن العنوان العربي “نظام التفاهة” أتى لأن كلمة Mediocrity وهي الإسم الأصلي للكتاب، تُستخدم لوصف طبيعة الشخص أو حالته من حيث التفاهة أو الابتذال أو السخافة أو تواضع المستوى، فيما أن كلمة Mediocracy هي كلمة جديدة، ظهرت حوالي 1825، وتعني النظام الاجتماعي الذي تكون الطبقة المسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التافهين، أو الذي تتم فيه مكافأة التفاهة والرداءة عوضا عن الجدية والجودة. وجوابا على سؤال لماذا أترجم هذا الكتاب تحديدا، زادت مشاعل، بأنه “يعرض أفكارا تكاد تطابق ما كنت أكتب فيه لسنوات، من ناحية موجات التسطيح، وتشابه الشخصيات، عطب المؤسسات، الفساد، تسليع الحياة العامة، الفن الرخيص، أثر التلفزيون، التلوث، التخريب لإعادة الإعمار، العلاقة بين المال والسياسة، الحوكمة، ثقافة الإدارة السطحية ومفرداته الخالية من المعنى، والجريمة المنظمة، والعلاقة بين المال والأكاديميا”. وأعربت مشاعل، بأنها لو كانت ستكتب كتابا حول الموضوع، لن يكون مختلفا عن هذا الكتاب إلا من حيث الأمثلة، ولكن ليس من حيث القناعات والنتائج، مشيرة إنه “من الطريف أن أعرف أن المؤلف مولود في ذات السنة التي ولدت أنا فيها، ربما كان هذا هو السبب في كوني ألتقي معه فكريا، واغلب الظن أننا من جيل لا تنطلي عليه التفاهات”. وأضافت المتحدثة نفسها، “أراني فعلت حسنا إذ ترجمت في الموضوع ولم أؤلف فيه، إذ ربما كان الأمر يتطلب، عينا أجنبية كي يرى الناس في هذه المنطقة من العالم ما ينبغي أن يُرى”، مشيرة في هذا السياق لقول الكاتب السوري عبد اللطيف الفرحان “الكتابة عندي فرض كفاية، إذ كتب غيري وأجاد عن الموضوع فلا أجد كتابتي إلا تكرار، وبالتالي فعزوفي عن الكتابة عنها ليس موقفا، بل إيمانا بأنه ليس لدي ما أضيفه لقضية واضحة ومحسومة وصريحة، فالكتابة ليست إثبات موقف، بل إضفاء قيمة معرفية”. وعن الترجمة إلى العربية، وصفت مشاعل الكتاب بأنه “مُتعِب، من حيث الموضوع ومن حيث الأسلوب معا، فالكاتب يتدفق من خلال عقل ذكي، يرى الارتباطات المعقدة بين الأشياء، ويكتب بطريقة متداخلة، كأنه يحادث صديقا في مقهى، مع كوب قهوة بيد وسيجارة بيد أخرى، وهكذا يشرح مؤلفنا ويضرب الأمثال ويغضب ويستنكر، وإن كانت بعض أمثلة الكتاب كندية وأوروبية، إلا أن أطروحته عالمية”. يتيع …