المفكر ألان دونو (Alain Deneault)، فيلسوف وكاتب كندي معروف، حاصل على دكتوراه في الفلسفة ويعمل أستاذا بجامعة مونريال. أصدر عدة كتب، أهمها ربما كتاب "La Médiocratie: Politiques de l'extrême-centre" الصادر سنة 2015، والذي عرض فكرته الرئيسية في مقال نشرته مجلة "ليبرتي" التي يساهم ضمن هيئة تحريرها. يمكن اختصار "نظرية" ألان دونو، التي تطرق إليها في كتابه المشار إليه، في سيطرة ذوي المؤهلات المتوسطة على "السلطة" بمفهومها الواسع. و الميديو كراسي /"La Médiocratie"، للتذكير، هي مركب مزجي من كلمتي "Mediocris" اللاتينية، وتعني "المتوسط" وكلمة "kratos" اليونانية وتعني السلطة والحكم والقوة. ويعرفها معجم لاروس الفرنسي بأنها "Pouvoir exercé par les mediocre" أي السلطة الممارسة من طرف ذوي المؤهلات المتوسطة. الفيلسوف الكندي يرى أن أهم خاصية يتميز بها صاحب المؤهلات المتوسطة (Le médiocre) تتمثل أساسا في قدرته على التعرف على أمثاله، حيث ينظمون معا عمليات "حك لي نحك ليك" (Grattages de dos) والتسلق وتبادل الخدمات وذلك بهدف توسيع جماعتهم و تكثير سواد زمرتهم. بعد ذلك يعمد الكاتب إلى تفكيك كلمة Médiocratie، ليخلص إلى تعريفها بأنها "تحويل قلة الكفاءة إلى مرتبة النموذج". ولتعزيز أطروحته، ينقل آلان دونو آراء كتاب ومفكرين من أزمنة وثقافات مختلفة، فيتحدث عن نظرية لورانس ج بيتر، وريومند هيل (Laurence J. Peter et Raymond Hull) المعروفة بمبدإ بيتر (Principe de Peter) والتي تخلص إلى أنه في نهاية مسار معين فإن العناصر الأقل كفاءة هم الذين سيحتلون مناصب المسؤولية بينما يتم إقصاء الأكفاء. كما ينقل عن الفيلسوف والروائي الروسي ألكسندر زينوفيف (Alexandre Zinoviev) الذي يصنف ضمن مؤسسي الفلسفة "الواقعية" في الاتحاد السوفياتي، جملا معبرة من روايته الساخرة "Les Hauteurs béantes" تحولت إلى شعارات من قبيل :"عديمو الكفاءات هم الذين ينجحون.. ضعف الكفاءة هو الذي ينتج".. وهو ما يقود -حسب الفيلسوف الروسي- إلى مفارقة (لا يتسع المجال للتفصيل فيها)، مؤداها باختصار أن متوسطي الكفاءة منشغلون فقط ب"تبرير الوقت الذي تم إهداره لإنجاز العمل، فالتقويم في النهاية يتم على يد أشخاص يساهمون أصلا في ترسيخ هذه الممارسات، وينشغلون بتعميمها واستمرارها...".. وهي نفس النتيجة التي يستنبطها الكاتب، بعد جولة في أطروحات المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، ليخلص إلى أن الشخص متوسط الكفاءة "يتحول بالنسبة للسلطة إلى الوسيلة التي يتم بها نقل التعليمات وفرض النظام بشكل أكثر صرامة". إن هذا الواقع الاجتماعي -حسب دونو دائما- يقود إلى "الإفلاس"، ولكن ينبغي التساؤل : كيف تسللت إلى الأوساط السياسية والقانونية ورجال المال والأعمال والصحافة... عبارات من قبيل "الإجراءات المتوازنة".. "البين بين".. "التوافقات".. "المستوى المتوسط"... التي كانت حتى ماض قريب عبارات تحقيرية، فتحولت اليوم إلى قيم مرجعية؟ هذه "القيم" تجعل من المستحيل وجود مواقف تبتعد عن "الوسط المفترض".. وإن "العقل"، ليجد نفسه محيدا بسلسلة من الكلمات من قبيل: "الوسطية".. "الحكامة"، التي تعتبر بمثابة الراية والشعار، رغم أنها عديمة المعنى. ويضيف أنه في ظل الميديو كراسي/ "La Médiocratie" ينتحر الشعراء، ويصاب العلماء "العاطفيون" بالجنون، ويضيع الصناعيون العباقرة بينما يعتكف السياسيون الكبار في الأقبية. إن نظام "أقصى الوسط" قاس وقاتل، لكن "تطرفه" يختفي تحت رداء الوسطية والتوسط، ما يدفع إلى تناسي كون التطرف له علاقة أكبر بعدم التسامح مع الغير، والتعصب في "المكان" بغض النظر عن الموقع ضمن مكونات الطيف السياسي (يمين - يسار). في هذه الأجواء، يرى ألان دونو أن كلمات من قبيل: التملق، الرمادية، الغفلة الواضحة، والمعيارية... هي فقط ما يسمح بتداوله .. لكن بعد إلباس هذه "التفاهات" مفاهيم فارغة .. والأسوأ من ذلك أن "النظام" يستعمل هنا وتحديدا المصطلحات التي يكرهها : التجديد، المشاركة، الاستحقاق، الانخراط...ثم يتم إقصاء كل العقول "الحرة" التي لا تشارك في حفلة "النفاق" تلك.. وحتى هذه العملية، تتم بطريقة تفتقر إلى الكفاءة.. يخلص الكاتب ختاما إلى الخلاصة التالية : لقد فقد مصطلح الميديو كراسي / La Médiocratie معناه القديم عندما كان يعني سلطة الطبقات المتوسطة،.. إنه يعني اليوم سيطرة متوسطي الكفاءة بنفس القوة التي يعني بها سيطرة الأساليب والترتيبات "المتوسطة" التي تتحول إلى "حسن تقدير"، بل تجعلها أحيانا مفتاح البقاء على قيد الحياة، وإلى وسيلة لإذلال من يتطلعون إلى الأحسن.. إن النظرية التي يطرحها المفكر الكندي، جديرة بالتأمل، خاصة وأنه يؤكد أنها ظاهرة كونية، وليست حكرا على بلد دون آخر أو ثقافة بعينها. صحيح، أن مظاهرها تختلف، قوة وضعفا، لكنها في النهاية حاضرة في كل المرافق والمؤسسات والقطاعات. ومن شبه المؤكد، ان تنزيل هذه النظرية على واقعنا المغربي قد يحيل على التطبيقات التالية: ففي قطاع المال والأعمال، يمكن أن نسوق جواب أحد مسؤولي شركة "إل جي" العملاقة على سؤال مؤداه : ما هو السر في عدم وجود شركات عربية عابرة للقارات رغم توفر الأموال والأدمغة؟.. المسؤول الكوري لخص الجواب في جملة "انعدام الثقة".. فهو يرى أن العائق في بناء مؤسسات عملاقة رغم توفر كل الشروط، راجع إلى كون رجال المال والأعمال "العرب" يفضلون الولاء على الكفاءة، أي يفضلون إسناد مناصب المسؤولية إلى الأهل والأقارب (حدد ابن العم كأقصى درجة)، بدل الرهان على الكفاءات القادرة على إيصال مقاولة محلية إلى مستوى العالمية.. وهذا الكلام لا يحتاج إلى شرح، اللهم إلا إذا أضفنا إليه من الخصوصية المغربية، أن كثيرا من الأثرياء "أميون"، وهذا ليس عيبا لكن العيب أنهم استثمروا في كل شيء، ولم يستثمروا في تعليم أولادهم وتأهيلهم لحمل المشعل لاحقا.. ولنتصور كيف يمكن أن يتصرف هؤلاء مع مهندسين وأطر متخرجة من مدارس عليا ومعاهد متخصصة ساقهم القدر للعمل في مقاولاتهم؟ أما بالنسبة لعالم السياسة، فيكفي إلقاء نظرة على هياكل الأحزاب والنقابات... وحتى المؤسسات الدستورية للتأكد من أن الميديو كراسي /"La Médiocratie" هي شعار المرحلة. لقد صرح رئيس مجلس النواب قبل أسابيع تعليقا على ادعاء بعض الأحزاب إهمال مقترحات القوانين التي تقدمها، بأن أغلب هذه المقترحات إما غير دستورية، او غير قانونية أو تنظم أشياء منظمة اصلا بنصوص قانونية... بعبارة أخرى إن الامية القانونية تضرب أطنابها في المؤسسة التي تصدر القوانين، وهذا ناهيك عن الأرقام القياسية التي تم تحطيمها في السنوات القليلة الماضية على مستوى الإلغاءات من طرف المجلس الدستوري. لقد أصبح انعدام المؤهلات شرطا للترقي في سلم السياسة.. أما في مجال الديبلوماسية، فالمعروف أن الديبلوماسيين المغاربة هم الأقل كلاما على مستوى العالم. فهل هناك ديبلوماسي مغربي واحد تشير إليه البنان حين يتعلق الأمر بمناظرة أو مواجهة في أي مكان وعلى أي مستوى؟ هل هناك سفير سجل الأرشيف الديبلوماسي أنه كتب مقالا -بأية لغة- أو قدم محاضرة بدد فيها الضباب الذي يلف هذا ملف الوحدة الترابية؟ هل هناك ديبلوماسي واحد يمكن للصحافة الوطنية أو الدولية الاتصال به مباشرة لاستطلاع رأيه في قضية محلية أو إقليمية أو عالمية؟ الواقع يؤكد أن كل معاركنا الديبلوماسية دفاعية بالدرجة الأولى ولا تخرج عن دائرة رد الفعل المتأخر.. بل لا تتعدى أحيانا مجرد خرجات فنتازية تطبل لها المواقع الإلكترونية والصحف الصفراء، بعناوين براقة وخادعة.. كما حدث مؤخرا في "غزوة فينزويلا".. على هامش قمة دول عدم الانحياز.. مع أن مناقشة موضوع "البوليساريو" هو في حد ذاته نكسة وبداية هزيمة.. أما في مجال "الإدارة"، فيكفي التوقف عند "مسيرة" الدارالبيضاء الأخيرة، للوقوف على مستوى الميديو كراسي /"La Médiocratie".. إن البساطة الفطرية التي رد بها المشاركون الذين اصطادتهم الكاميرات على أسئلة المصورين، كانت كافية لمحو أي أثر للتصريحات الرسمية التي تبرأت من الوقوف خلف المسيرة المشبوهة.. فنحن هنا لسنا فقط أمام "بصمات"، بل أمام آثار واضحة تدل على هوية الفاعل.. وعلى "بعرة تدل على البعير".. وأظن أن مقال الأستاذ فهمي هويدي الذي نشره قبل أكثر من 10 سنوات، في سياق أردني/ مصري، لكنه يمكن أن يختزل الكثير من الكلام، حيث استهله بالقول..."..إن المرء لا يستطيع أن يخفي دهشته من تردي مستوى التلفيق والتدليس في العالم العربي. ذلك أننا في حالات عدة ألفنا مثل هذه الممارسات، وحين لم نكن نملك لها صدى، فإننا صرنا نفضل أن تتم بكفاءة تعبر عن التمكن من التقنية والاحتراف، وليس بأسلوب بدائي يخلو من أي إتقان، ولا أقول، إبداع...".. وختمه بما يلي :".. لقد عبرت في البداية عن الأسف لتدهور مستوى الحرفة لدى الأجهزة الأمنية في بعض الأقطار العربية، وهو أمر لا بد أن يقلقنا لأننا نظل بحاجة إلى أجهزة أمنية ذات مستوى رفيع في كل الأحوال، ولذلك فإنني أدعو إلى تحقيق موسع في الموضوع..يركز ..على الإجابة عن السؤالين التاليين: - لماذا تدهور مستوى الأداء المهني للأجهزة ..، بحيث لم تعد قادرة حتى على التلفيق الجيد الخالي من الثغرات التي تفضحه؟ - لماذا ساء تقدير تلك الأجهزة حتى أصبحت تفترض في الناس البلاهة والغباء، وتصورت أنها يمكن أن تمرر عليهم قصص التلفيق الخائبة التي تنسجها؟ اللهم إنا لا نسألك رد البلاء، ولكننا نسألك اللطف فيه..." (عن تدهور مستوى التلفيق في العالم العربي/ جريدة الشرق الأوسط- 17 ماي 2006). أما في مجال الإعلام، الذي خصه الفيلسوف الكندي دونو بنصيب وافر في أطروحته، فيمكن أن نسجل نماذج كثيرة لما يسميه الميديو كراسي /"La Médiocratie".. لقد رأينا كيف تمت استضافة السيدة نزهة الصقلي لتصفية حسابات شخصية مع أمين عام حزبها، في نفس الوقت الذي كان فيه اجتماع المكتب السياسي الذي خرج ببيان اعتبره الجميع "سابقة" في تاريخ علاقة الأحزاب بالقصر. فمن قرر استضافة هذه "الرفيقة" التي ارتبطت في أذهان المواطنين بطلبها الغريب حول منع مكبرات الصوت في المساجد؟ من دون شك أن قرارا من هذا النوع لا يمكن أن يتخذه سوى أحد اعضاء نادي "La Médiocratie"... وهناك "محلل" شهير يصنفه الجميع كناطق باسم "الدولة الموازية"، أصبحت تدخلاته تثير السخرية، خاصة وأنه لا يتردد في الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه.. إلى درجة انه كان من ضمن المروجين لقصة "مواجهة المغرب للولايات المتحدة".. بل إنه صرح لإحدى الفضائيات الخليجية يوم المسيرة المعلومة بأنها جاءت "بعد انطلاق الحملة الانتخابية بستة أيام" وكرر أكثر من مرة جملة "الحزب الحاكم" التي لا يمكن أن تصدر حتى عن أحد "طلبته" المبتدئين لأنها تتجاوز الخطأ إلى مرتبة الخطيئة.. وهذه الحالة، تبين المستوى الذي انحدرت إليه الجامعة المغربية، وكليات الحقوق تحديدا، التي يفترض أنها تكون وتخرج رجال الدولة.. أما آخر نموذج يمكن أن نسوقه ضمن هذا المجال فيتعلق بزميل صحفي "يساري" كان يصنف سابقا ضمن تابعي التابعين في زمرة إدريس البصري.. هذا الزميل دبج مؤخرا مقالا رد فيه على تحقيق نشرته مجلة "تيل كيل" حول وزارة الداخلية.. لكن الغريب أنه نجح في شيء واحد، يتمثل في أنه قدم للقراء ملخصا مطولا لما جاء في المجلة، كفاهم عناء قراءته باللغة الفرنسية.. بل لقد دفع كثيرين إلى اقتناء المجلة خاصة وأنه قدم شروحا وتحليلات ضافية للتقنيات الصحفية التي استعملها محررو التحقيق.. أما أبرز مظاهر الميديو كراسي /"La Médiocratie" فتتمثل في المواقع الإلكترونية الصفراء التي يتم تسخيرها لنشر الأكاذيب والافتراءات... على مدار الساعة، بل إن هذهى الميديو كراسي /"La Médiocratie" بلغت ببعض المنابر الورقية حد عدم مراعاة "فروق التوقيت" حيث كثيرا ما تزين بصفحاتها الأولى بعناوين بالبنط العريض، لكنها عندما تصل إلى يد القارئ تكون تلك الأخبار قد انكشفت فبركتها.. باختصار شديد، هذه نتيجة طبيعية للاعتماد على "إعلاميين" و"محللين" من زمن تلفزة "الأبيض والأسود" بينما يعلم الجميع أن الطفرة التي عرفتها وسائط الاتصال نجحت في تحرير المواطن من قبضة "الإعلام الموجه".. وهو ما لا يدركه صناع القرار على ما يبدو، حيث إن مبادئ الميديو كراسي /"La Médiocratie" تفرض الاستمرار في تقديم الرداءة مهما كانت "رديئة".. وهذا يجرنا إلى ما هو أخطر. ذلك أنه إذا كان تدبير المسائل الداخلية "البسيطة" -نسبيا- يتم بهذا المستوى، فما الذي يمكن أن نقوله عن الملفات الكبرى التي يتوقف عليها وجود المغرب كدولة؟ كيف يتم تدبير ملف الصحراء مثلا، إذا كانت الميديو كراسي /"La Médiocratie" هي الشعار المرفوع؟ وأية ضمانات تتوفر اليوم للثقة في أن خطر الانفصال هو تحت السيطرة فعلا؟ أظن أن الرهان على "كرامات" الأولياء والصالحين لم يعد كافيا لإنقاذ البلد من المنحدر الذي يتجه إليه.. وبالتالي فهناك مسؤولية تاريخية لمن تبقى من عقلاء وحكماء في هذا البلد ليقرؤوا على طريقة "الحزابة" الفصل الذي عنونه ابن خلدون في مقدمته ب"الظلم مؤذن بخراب العمران"... https://www.facebook.com/my.bahtat