قبل ان يحل فيروس كورونا ضيفا ثقيلا على المغرب خلط جميع الأوراق و أعاد النظر في كثير من الترتيبات و البرامج و المخططات ، كانت الاستعدادات للاستحقاقات الانتخابية المقبلة المزمع إجراءها سنة 2021 قد بدأت مبكرا و تمضي على قدم و ساق ، حيث شرعت الأحزاب السياسية تعمل جاهدة على بناء بيتها الداخلي و إعادة ترتيب أوراقها من أجل الإعداد لتحالفات جديدة تمهيدا لرسم خريطة سياسية جديدة للبلاد و إعادة النظر في المشهد السياسي الذي ترتب عن دستور 2011 ، بل إن بعض الأحزاب شرعت في القيام بحملات انتخابية سابقة لأوانها وذلك بتنظيم تجمعات حزبية في مختلف أقاليم المملكة ، كما بدأ الحديث عن إعادة النظر أيضا في منظومة القوانين الانتخابية و تغيير نمط الاقتراع إلى الفردي بدلا من الاقتراع باللائحة المعمول به حاليا ، وكل المؤشرات كانت تشير إلى أن خريطة التحالفات مستقبلا لن تكون كسابقتها . إن التحدي الأكبر الذي كان يؤرق كلا من صانعي القرار في البلاد و الأحزاب السياسية على السواء كان يتمثل في نسبة المشاركة السياسية في الانتخابات الجماعية و التشريعية المقبلة ، فنتيجة ما تعرفه العديد من الأحزاب من صراعات داخلية و تصدعات سياسية جعلها عاجزة عن استقطاب نخب جديدة قادرة على الرفع من مستوى الممارسة السياسية ، و ما ميز العمل الحكومي من أداء لم يرق إلى تطلعات شرائح كثيرة من المجتمع المغربي ، ثم فشل النموذج التنموي و عدم اتضاح الرؤية لدى المواطن فيما يخص معالم النموذج التنموي الجديد ، هذا فضلا عن غياب ثنائية قطبية حقيقية قادرة على إذكاء المنافسة ، كل تلك العوامل شكلت إحباطا لدى الناخبين و دفع بالكثير من النخب إلى النأي بنفسها عن العمل السياسي برمته ، و كل الدلائل كانت تشير إلى أن المغرب مقبل على تسجيل نسبة عزوف غير مسبوقة في الانتخابات 2021 . وفي الوقت الذي كانت الحكومة تواجه فيه انتقادات قوية بسبب بعض السياسات الاجتماعية و الاقتصادية الفاشلة وكذا التراجعات التي مست جانبا من الحريات بالإضافة إلى إخفاق البرامج و الإجراءات الحكومية فيما يخص مكافحة الفساد ، جاءت أزمة فيروس كورونا المستجد لتقلب المشهد رأسا على عقب ، ففجأة أصبحت القرارات و الإجراءات الحاسمة التي اتخذتها الحكومة محل إجماع وطني و سببا في الإشادة بعملها من طريف جميع مكونات الشعب المغربي ، بل وكانت دافعا في ظهور مبادرات مجتمعية مساندة للحكومة فيما تتخذه من تدابير لمواجهة هذه الجائحة ، بل أكثرمن ذلك أصبحت دعوات المواطنين و الفاعلين المجتمعيين ترتفع من اجل تقاسم المسؤولية بين الشعب و السلطة في تدبير هذه الأزمة و عدم إلقاء الحمل على الحكومة وحدها في مواجهة هذا الوباء ،و انطلقت الحملات التوعوية و التحسيسة وكثير من المبادرات الشبابية التلقائية في مختلف جهات المملكة من أجل احترام التدابير الاستعجالية و الاحترازية التي تم اتخاذها في إطار حالة الطوارئ الصحية باعتبارها تهدف الى ضمانة السلامة الصحية لجميع المواطنين و المواطنات و انطلقت مبادرات إحسانية ترمي إلى تقديم الدعم للأسر المعوزة و الفقيرة ،وذلك في تلاحم و انسجام قل نظيرهما بين الحكومة و الشعب في العقود الأخيرة، و المثير للاستغراب إن بعض القطاعات الأساسية في البلاد و التي كان المشرفون عليها يتلقون اشد العتاب و اعنف الانتقادات ، أصبحوا بين ليلة و ضحاها يحظون بالتقدير و الاحترام و الإشادة اليومية بأدائهم الجيد كما هو الشأن بالنسبة للأطر الصحة و الطبية ورجال و نساء التعليم والسلطات المحلية ، و قطاعات أخرى لم يكن المواطن العادي ينتبه أحيانا إلى الجهود التي تبذلها أصحبت محل حب و تقدير كالقوات المسلحة الملكية والدرك الملكي والأمن الوطني والقوات المساعدة والوقاية المدنية ناهيك عن عمال النظافة . إن التدابير الاحترازية و الاستباقية التي اتخذتها الدولة المغربية في مواجهتها لجائحة كورونا لم تكن محل تأييد و احترام وطني فحسب بل تعدته إلى إشادة دولية واسعة باعتبارها كانت أكثر جرأة و حزما مقارنة بما اتخذته دول أخرى كإيطاليا وإسبانيا و الولاياتالمتحدةالأمريكية و فرنسا التي تأخرت في سن الإجراءات الملائمة مما جعلها تعاني كثيرا من تداعيات انتشار الفيروس و سجلت فيها أعدادا كبيرة من الإصابات و الوفيات ، كل هده العوامل جعلت أسهم الحكومة ترتفع كثيرا لدى المواطن إلى مستوى غير مسبوق ، فمنذ تنصيبها لم تحظى بهذا التأييد الشعبي وهي لحظة تاريخية مفصلية لا يجب التفريط فيها أبدا من أجل إعادة بناء جسور الثقة من جديد على أسس سليمة ومتينة بين الحكومة و مختلف الأحزاب من جهة و باقي مكونات الشعب المغربي من جهة أخرى ، و إعادة الاعتبار للعمل السياسي و المشاركة السياسية وطي صفحة الماضي المشوبة بالريب و الشك المتبادل و انعدام الثقة ، و هذا يتطلب من جميع الفاعلين السياسيين حكومة و أحزابا بعد الانتهاء إن شاء الله من هذه الأزمة المبادرة إلى اتخاذ مجموعة من القرارات و الإجراءات و التدابير الجريئة و الحاسمة التي من شأنها إعادة المصداقية للعمل السياسي و بناء جسور الثقة اللازمة لنجاح المشروع المجتمعي و النموذج التنموي الذي ينشده المغاربة وهذا في نظري يتطلب التركيز على ثلاث أساسية : تجديد النخب السياسية ، تجسير الفجوة بين المواطنين و الهيئات السياسية ، ثم مضاعفة الجهود الرامية إلى محاربة الفساد . ضرورة تجديد النخب السياسية كثير من المؤشرات تؤكد أن المواطن المغربي أصبح يمل من الوعود الكثيرة التي يتعهد بها السياسيون سواء أولئك الذين في الحكم او الذين هم في المعارضة دون الوفاء بها أو حتى بذل الجهود الكافية لتحقيقها ، الأمر الذي يفسر توجه ساكنة العديد من أقاليم المملكة خصوصا المنطق المهمشة إلى الاستنجاد بملك البلاد في العديد من الاحتجاجات و تقديم ملتمسات الى جلالته من أجل إعطاء تعليماته قصد تحقيق مطالبهم و إيجاد حلول لمشاكلهم التي عجز المسؤولون السياسيون محليا و وطنيا عن الاستجابة لها ، فالمواطن أصبحت لديه قناعة بأن جميع السياسيين خذلوه بعد أن وضع ثقته فيهم خلال الكثير من المحطات الانتخابية دون أن يلمس أي تغيير يذكر، و أن هم هؤلاء السياسيين هو الاستفادة من الريع و استغلال المناصب من اجل تحقيق أكبر قدر من المصالح . و هذه النظرة السلبية للسياسيين لا تقتصر فقط على المواطن العادي فحسب ، فقد سبق للعاهل المغربي أن وجه في العديد من المناسبات انتقادات لاذعة و قوية للطبقة السياسية والأحزاب محملا إياها مسؤولية المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي تعرفها البلاد وفشل الكثير من المشاريع التنموية، مطالبًا إياها بضرورة الوقوف على مشاكل المواطنين و التواصل معهم و الإنصات إليهم ، و منح المسؤولية لذوي الخبرة و الكفاءة و جعل المصالح العليا للوطن فوق أي اعتبار بعيدا عن الصراعات و المزايدات السياسية و الاعتبارات الحزبية الضيقة . إن إشكالية النخب السياسية أصبحت تكتسي أهمية كبرى أكثر من أي وقت مضى نتيجة فشل النموذج التنموي الحالي ، فجميع البرامج و المخططات الإصلاحية لم تحقق الأهداف المرجوة منها و باء أغلبها بالفشل نتيجة اعتلالات وانحرافات النخب السياسية ، و هذا ما أشار اليه خطاب العرش لسنة 2004 حيث جاء فيه "وإدراكا منا بأن أي إصلاح رهين بتأهيل الفاعلين والهيئات، فإنه ينبغي الانكباب على … تأهيل النخب للمشاركة الديمقراطية وخدمة الصالح العام، تكون صلة وصل قوية بين الدولة والمواطن …. لذلك ندعو الطبقة السياسية إلى تحمل مسؤولياتها…. في تدبير الشأن العام من خلال نخب متجاوبة مع عصرها… تجعل من الحكم القويم المحك الحقيقي لممارسة العمل السياسي بمفهومه النبيل" ، و بمناسبة ذكرى 20 غشت لسنة 2015 أشار جلالة الملك الى انه "إذا كان لكل مرحلة رجالها ونساؤها، فإن الثورة التي نحن مقبلون عليها لن تكون إلا بمنتخبين صادقين، همهم الأول هو خدمة بلدهم، والمواطنين الذين صوتوا عليهم" . إن النهوض بتدبير الشأن العام الوطني و الترابي يحتم تغيير السلوكيات والعقليات غير الملائمة لدى النخب و الفاعلين السياسيين سواء على المستوى المركزي او المحلي ، فقد كشفت التجربة والممارسة السابقة أن الاكتفاء بالإصلاحات القانونية و المؤسساتية دون تغيير العقليات و السلوكيات التي نتج عنها الوضع الحالي المرفوض من طرف الجميع هو أمر غير ذي جدوى ، وبالتالي فلا مفر من مسألة تجديد النخب السياسية من أجل تحقيق نموذج تنموي جديد يستجيب لتطلعات الشعب المغربي ، وهذا التحدي بدوره سيحتاج إلى معركة ليست بالهينة مع النخبة التقليدية التي ستسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى الحفاظ على مواقعها و الدفاع عن مكتسباتها خصوصا أن مفهوم السياسة عند فئة عريضة من النخبة الحالية يرتبط بوسيلة للعيش وأسلوب للحياة لا يمكن الاستغناء عنه بسهولة . تجسير الفجوة بين المواطنين و المؤسسات السياسية الكثير من الدراسات الاستطلاعية و التقارير التي شملت مؤشرات الثقة في المؤسسات بالمغرب أشارت إلى أرقام قاتمة بخصوص نسبة الثقة في المؤسسات السياسية و خصوصا الأحزاب منها ، في مقابل ارتفاع مؤشر الثقة في مؤسسات الدولة (الجيش والأمن و القضاء) ، الأمر الذي يفرض إعادة النظر في المشهد السياسي إذا أردنا تجنب فراغ كبير في الحقل السياسي قد يؤدي الى عزوف غير مسبوق في الانتخابات المقبلة لا سيما من طرف فئة الشباب ، هذا الفراغ يبدو جليا في السنوات الأخيرة تؤكده ظاهرة الحركات الاحتجاجية التي عبرت عن مطالب حقوقية اجتماعية و اقتصادية بتأطير مستقل من طرف "تنسيقيات" اعتمدت على المنصات الاجتماعية كوسيلة للتواصل بعيد عن الأحزاب و النقابات و رجال السياسة. لقد سجل السخط الكبير على الاحزاب السياسية درجات قياسية وصل حد التشكيك و التسفيه و الاستهجان الممنهج و المستمر لكل ما هو حزبي ، و أصبحنا نرى للأسف كيل الاتهامات بعيدا عن التجرد و الموضوعية تصل أحيانا حد التجني بحق جميع منتخبي و منتسبي الأحزاب و وصمهم بأقدح الصفات من قبيل انعدام الضمير و ضعف الكفاءة و الفساد و استغلال النفوذ وتضييع المال العام، و غيرها من الاتهامات التي لا تميز بين الشرفاء النزهاء و بين الانتهازيين و الوصوليين ، و هو سلوك غير مقبول لأن تسفيه العمل الحزبي برمته وتعميم التهم على جميع مكونات المشهد السياسي فيه ظلم كبير للفاعلين الجادين و المخلصين من المناضلين و هم على قلتهم موجودون في أغلب التيارات و الأحزاب ، الأمر الذي يدعو إلى التفكير العميق في أسباب هذه الظاهرة و إلى إعادة النظر في أشكال الممارسة السياسية التقليدية للأحزاب التي لم تعُد تستجيب لانتظارات المواطنين وطموحاتهم، و لم تعد تشكل أي حافز من اجل ممارسة سياسة فاعلة من شانها الرفع من مستوى الأداء التدبيري للشأن العام أو إعطاء قيمة مضافة للفعل السياسي و العمل الحزبي . لقد كشف المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي عن أسباب عزوف الشباب عن المشاركة السياسية، وأيضا تراجع دور الأحزاب في جلب واستقطاب المواطنين إلى الحياة السياسية وأشار الى أن آخر الأرقام تؤكد أن 70 بالمائة من الشباب لا يثقون في الأحزاب داعيا النخب السياسية إلى ممارسة جديدة للفعل السياسي تُعيد الثقة في الأحزاب مؤكدا على ضرورة تغيير الممارسة التقليدية للعمل السياسي التي نعيشها اليوم حتى نكون في مستوى تطلعات المواطنين، ونشجعهم على الانخراط في السياسة من جديد لأن العملية الديمقراطية تفقد أي معنى في غياب حضور حزبي قوي و ذي مصداقية عند المواطنين ، الأمر الذي يحتم على جميع الأحزاب السياسية ان تبادر عاجلا الى الدفاع عن رصيد الثقة المُتبقي لحد الآن و تحسين صورتها لدى المواطن و تعزيز مشروعيتها التي باتت مفتقدة بفعل انشغالها عن الواقع اليومي للمواطنين و التقصير في القيام بدورها الدستوري المتمثل في التأطير و التكوين السياسي والاكتفاء بمهرجانات خطابية ظرفية و موسمية خصوصا اثناء الانتخابات ، في حين يتم الانشغال خارج الاستحقاقات الانتخابية بالمشاكل التنظيمية و الصراع بين القيادات وحروب مواقع بين الزعامات ، و هذا يتطلب التحلي بشجاعة الاعتراف بالأخطاء و التقصير ، و القيام بنقد ذاتي عميق من استخلاص الدروس و العبر ، واتخاذ القرارات التي تترتب على ذلك و في مقدمتها التخلص من الإرث الثقيل الذي تمثله قيادات متقدمة في السن غير قادرة عن فهم الواقع فضلا عن امتلاك القدرة على تغييره و ترك مواقعها للكفاءات و الطاقات الشابة، وابتكار أنماط تنظيمية حديثة و ديمقراطية في التسيير الحزبي ، بالإضافة إلى الالتزام بقواعد حكامة صارمة لا تفسح المجال أمام الفاسدين ومنعدمي الضمير، و أخيرا إعداد برامج و تصورات تتضمن حلولا ممكنة و ناجعة للمعضلات الاجتماعية و الاقتصادية التي تعاني منها البلاد والالتزام باحترام الوعود التي تقدم للموطنين ،و هذا هو السبيل الممكن لمصالحة المغاربة مع الأحزاب و السياسة بشكل عام . و إذا كانت بعض الممارسات المنافية للديمقراطية داخل التنظيمات الحزبية لا تُشجع على الانخراط البناء في صفوفها ، فمع ذلك لا يمكن إلقاء اللوم فيما يخص جميع اختلالات المشهد السياسي على فاعل واحد وهو الأحزاب ، دون الالتفات من جهة أخرى الى السلبية القاتلة لفئة عريضة من المواطنين الذين اختاروا الانكفاء على الذات و النأي عن كل ما هو سياسي ، والعزوف عن المشاركة في اختيار منتخبي الجماعات الترابية والمجالس النيابية و الامتناع عن المشاركة بأفكارهم ومساهماتهم في إغناء النقاش العمومي و في اقتراح البدائل و الحلول الممكنة للمشاكل الاقتصادية و المجتمعية ، وهؤلاء بدورهم يجب ان يوجه إليهم الكثير من العتاب و المؤاخذة لأن بلادنا تتوفر على حيز كبير من الحقوق التي كفلها الدستور و على هامش كبير من الحرية وعلى حد مقبول من الممارسة الديمقراطية يجب عدم التفريط فيها ، بل يتعين العمل على تكريسها و ترسيخها من خلال مراقبة عمل الإدارات و المؤسسات العمومية و الجماعات الترابية و كل من يمارس مهام الشأن العام و إبداء الرأي بشأنها ، و تتبع السياسات العمومية و انتقادها و إثراء النقاشات العمومية ، و استغلال آليات الديمقراطية التشاركية محليا و جهويا من اجل المساهمة في صنع القرار ، ثم التعاون مع أجهزة الحكامة المختلفة و الهيئات الرقابية من اجل فضح الفساد ومحاربته ، وكل هذا يتطلب الكثير من الجهد و الصبر وطول النفس حتى يتسنى جني الثمار و تحقيق التغيير المنشود ، لكن العزوف لم يكن أبدا وسيلة في إحداث أي تغيير ايجابي ، بل على العكس من ذلك يسمح بإعادة إنتاج شروط المُعضلة و تكرسيها ومن ثمة الغوص في حلقة مفرغة لا محيد عنها . مضاعفة الجهود الرامية الى محاربة الفساد يكاد ينعقد الإجماع على أن أهم معضلة تواجه البلاد و تكاد تكون سبب جميع المشاكل و الاضطرابات و القلاقل التي يعاني منها هي معضلة الفساد التي يقدر الخبراء كلفته بحوالي 5 في المائة من الناتج الداخلي الخام أي ما لا يقل عن ربع ميزانية الدولة وثلاث مرات ميزانية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ، مخلفا آثارا اقتصادية واجتماعية وخيمة ناهيك عن تضرر صورة المغرب و التأثير على استقراره بسبب ما يسببه من سخط شعبي و احتجاجات وتوترات اجتماعية، و يبدي المتتبعون للشأن السياسي قلقهم بخصوص ارتفاع مستوى التذمر و الغضب من هذه الظاهرة في صفوف أغلب فئات الشعب المغربي و الإحساس المتنامي برسوخ ظاهرة الفساد واستفحالها، في ظل استمرار ما يعتبرونه تطبيعا مع الفساد وشيوع حالات الإفلات من العقاب وغياب إرادة سياسية حقيقية لمكافحة هذه الآفة ، وهو ما تؤكده الأحكام القضائية الصادرة في مجال محاربة الفساد في المغرب التي يبقى عددها قليل ومحدود الأثر بالمقارنة مع حجم الفساد ، كل ذلك نتج عنه أفدح الأثر على التنمية الاقتصادية و الاجتماعية مما جعل المغرب يُصنف في مراتب متدنية ضمن تقرير الأممالمتحدة المتعلق بالتنمية البشرية إذ لم يبرح المركز 123 منذ أزيد من عقدين من الزمن ،و هي مرتبة لا تشرف المغرب و لا تعبر حقيقة عن حجم الجهود المبذولة و البرامج و المشاريع المنجزة في هذا ا المجال ، و من شأنه كذلك أن يجعل مصير أي نموذج تنموي جديد مهما كانت مواصفاته مشابها للمصير الذي عرفته البرامج والمشاريع والسياسات العمومية الموجهة نحو التنمية ،الأمر الذي يجعل من تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة و القطع مع مظاهر الفساد كالرشوة واقتصاد الريع ونهب المال العام و احتكار الثروة مسألة حيوية و استعجالية وجب إعطائها الأسبقية في سلم الأوليات لان الاكتفاء بإبداء النوايا الحسنة من أجل تخليق الحياة العامة لم يعد مجديا . لكن من جهة أخرى لا بد من الإشارة إلى أن الموضوعية تقتضي الاعتراف بان المغرب لم يبق مكتوف الأيدي تماما أمام ظاهرة الفساد، يشهد على ذلك مضمون الخطب الملكية السامية التي كرست حيزا كبيرا منها للدعوة إلى قيم الحكامة الرشيدة وتنزيل آليات المراقبة والمحاسبة وإنفاذ القانون، ومحاربة الفساد في جميع القطاعات والمجالات، وقد كان أكثرها قوة وأعلاها نبرة خطاب العرش لسنة 2017 الذي دعا فيه العاهل المغربي إلى التفعيل الصارم لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، كما أن المغرب بادر إلى المصادقة على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، ومراجعة الدستور سنة 2011 الذي جاء مترجما لمطالب حراك 2011 بخصوص التصدي لمعضلة الفساد و متضمنا لكثير من المبادئ والمؤسسات في هذا المجال ، فضلا عن ترسانة من القوانين و الإجراءات الحكومية التي جاءت متماشية مع المقتضيات الدستورية الجديدة ومستجيبة لمطالب الشعب بإسقاط الفساد ،من خلال مجموعة من الإجراءات والتدابير نذكر من بينها إحداث الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها التي حلت محل الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ، و إحداث لجنة مشتركة بين الوزارات على مستوى وزارة العدل والحريات تتكلف بدراسة وتفعيل توصيات المجلس الأعلى للحسابات ، تعزيز وتفعيل دور المفتشيات العامة للوزارات من خلال توسيع مجال اختصاصاتها لتشمل المراقبة والتحري والتفتيش وتدعيم الأخلاقيات والتدقيق وتقييم النتائج ، إعداد الإستراتيجية الوطنية للوقاية من الرشوة ومحاربتها ، إحداث موقع إلكتروني خاص للتبليغ عن الممارسات المنافية للقانون في الإدارة العمومية،إحالة ملفات الفساد المتضمنة في تقارير المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للمالية على القضاء للبث فيها ، كما تم تفعيل مجموعة من القوانين التي تتوخى محاصرة الفساد كقانون مكافحة غسل الأموال وقانون التصريح الإجباري بالممتلكات وقانون حماية الضحايا والمبلغين والشهود، وتم الشروع في إصلاح القضاء وتخليق منظومة العدالة، وتحديث الإدارة القضائية و غيرها من التدابير التنظيمية و القانونية ، و ومع كل هذا تعترف الدوائر الرسمية بصعوبة التقدم العملي ومحدودية النتائج قياسا مع الطموحات و التوقعات ، فأين يكمن الخلل إذن ؟. للخروج من هذا المأزق يرى بعض الخبراء و الفاعلين السياسيين أن الوضع يستلزم اتخاذ تدابير ضرورية و حاسمة يمكن أن نذكر منها : – تنسيق جهود الهيئات المكلفة بمكافحة الفساد و خلق إطار مؤسساتي للتنسيق والتعاون بين مختلف هيئات و أجهزة الرقابية من جهة (المفتشيات العامة للوزارات والمفتشية العامة للإدارة الترابية والمفتشية العامة للمالية والمجلس الأعلى للحسابات) والبرلمان والقضاء من جهة أخرى. – تمكين أجهزة الحكامة و مكافحة الفساد من الموارد المالية و البشرية الكافية التي تمكنها من أداء المهام المنوطة بها على الشكل المطلوب . – ترسيخ مبدأ الشفافية و الوضوح في عمل الأجهزة الرقابية خصوصا فيما يتعلق بمخططات عملها و التقارير الصادرة عنها والمعايير المعتمدة في اختيار تدخلاتها ، بالإضافة الى ضرورة إلزام هذه المؤسسات بتقديم دراسات تقييميه لأدائها و معرفة القيمة المضافة لأعمالها و للتوصيات و التقارير الصادرة عنها و مدى فعاليتها و أثرها في تحسين مردودية الإدارة العمومية وفي الحد من الفساد ،كما ان هذه التقارير يجب ان تتضمن إشارات واضحة لا لبس فيها و لا غموض الى الملاحظات المتعلقة بسوء تدبير المؤسسات والبرامج والمشاريع العمومية التي يكون الغاية منها ترتيب جزاء إداري او سياسي و بين الاختلالات و الخروقات الخطيرة التي تكتسي صبغة جنائية وتتطلب متابعة قضائية . – تفعيل الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي بعد مرور عدة سنوات من إعلانها لم يظهر لها أية نتائج تذكر، ثم العمل على تجاوز المعيقات السياسية البنيوية التي قد تحول دون التنزيل السليم لهذه الإستراتيجية خصوصا تقاعس الأحزاب السياسية عن الانخراط الفعلي فيها ، و الأخطر من ذلك محاولات التستر -أحيانا- على الخروقات و الاختلالات التي قد تنسب لأعضائها ومنتسبيها . – إعمال آلية الزجر و عدم الاكتفاء بالمقاربة الوقائية في مكافحة الفساد حتى يتسنى وضع حد للإفلات من العقاب عبر تحريك المساطر القانونية والقضائية بالنسبة لجميع المخالفات و الخروقات المتعلقة بتدبير الشأن العام الوطني و الترابي ، و عدم الاكتفاء بإنجاز تقارير وتوصيات لا طائل من ورائها ، و التسريع في المصادقة على نص جنائي يتعلق بتجريم الإثراء غير المشروع يتضمن أقصى العقوبات خصوصا السجنية منها حتى يتسنى تُحقيق الردع المطلوب الكفيل وحده بثني ضعاف النفوس عن اختلاس المال العام . منذ دخول حالة الطوارئ الصحية حيّز التنفيذ لمواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا لوحظ تقارب لافت بين مختلف مكوّنات المجتمع المغربي مع الدولة بمختلف أجهزتها ومؤسساتها ، كما سجل خفوت الأصوات المعارضة إعلاء منها للمصالح العليا للوطن و وعيا منها بخطورة الوباء و آثاره السلبية على الأوضاع العامة للبلاد ، ولم يسبق للمغرب أن عاش مثل هذا الإجماع الوطني منذ تولي الملك محمد السادس عرش المملكة مثلما هو عليه الحال اليوم، و هذا ما أعقب سنوات من التوتر و الاحتقان و الحركات الاحتجاجية ، و باستقراء التاريخ السياسي المعاصر للمغرب نلاحظ دائما انه في الظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد ، كان يتم فيها اللجوء إلى التوافق بين المؤسسة الملكية والأحزاب والمجتمع ، حدث ذلك سنة 1995 حينما أعلن الملك الراحل الحسن الثاني في خطاب وصف بالتاريخي أن المغرب يعيش مرحلة السكتة القلبية ، و بعد تلك الأزمة وقع انفراج سياسي كبير تولد عنه تجربة "التناوب التوافقي" ، و حدث نفس الأمر سنة2011 فيما سمي بالربيع العربي حينما تعالت أصوات المغاربة مطالبة بالتوزيع العادل للثروة وفصل حقيقي للسلط و القضاء على الفساد ، فكانت استجابة الملك محمد السادس سريعة معلنا إصلاحات دستورية غير مسبوقة . و الظروف التي تعيشها البلاد حاليا بسبب تداعيات وباء كورونا لا تختلف كثيرا عن المحطتين السابقتين ، و ملامح علاقة جديدة أساسها التقدير و الثقة و العرفان بين الشعب و سائر مؤسسات الدولة بدأت تتضح معالمها ، و وجب العمل على تكريسها و ترسيخها حتى يتسنى طي صفحة سنوات الخصومة و الصراع ، الأمر الذي يقتضي من الحكومة عدم تفويت هذه الفرصة الكبيرة من اجل اتخاذ إجراءات و تدابير حاسمة و إيجابية تساهم في تعميق المصالحة مع كل فئات المجتمع و على رأسها الشباب و بعث الثقة فيهم من أجل استكمال بناء بلد ديمقراطي متقدم يحترم حقوق الإنسان . *باحث مغربي