أحقا يبكي الرجال ؟ وهل يبكي الرجال إلا الرجال ؟ وهل ترحل الأوطان من مسافات الزمن إلا حين تهمي دموع الرجال ؟ وهل تنسكب البراكين من عيون غير عيون الرجال حين تستسلم للدموع والبكاء ؟ للموت مذاق آخر ، لا يشبه مذاق الموت القادم من ملك اصطفاه الله – جل شأنه – لانتزاع الروح من جسد يحن إليها وتحن إليه ، هو موت في الروح المتحركة داخل جسد يسير على أرصفة الأيام ، وطرقات الساعات ، وزقاق الألم ، لهذا الموت مذاق ، يعرفه الرجال ، حين تغيض رجولتهم ، وتجف ذكورتهم ، وحين تتراءى الأشياء المقتحمة مرايا الأرض والزيتون والدحنون والحناء ، وحين تتساقط حبات الزنزلخت وتجف أعواد الحور ؟ حين ذاك تنهض الأرض من مكانها ، بطريقة تشبه الحلم وتخترق الوعي ، لتقف قبالة الرجال ، وتسألهم عن وجعها المخضب بالوجع ، وعن ألمها المعتق بالألم ، وعن عذابات الأغصان والبلابل والحساسين والعنادل ، حين تنهض وتسألهم عن حيفا ، مركز الكون وقبلة العشق المزروع بأوردة التاريخ والشمس والنور . هل عرفتم موسى الخالص ، ذاك الطود الممتد بخاصرة الوطن ، كجذر السنديان ، وكشعاع من نور يخرج من قبر شهيد ، هل رأيتم كيف تسقط دموع الرجال والأبطال ؟ هل وقف شعر جسدكم كما يقف شعر جسدي الآن وأنا اكتب عن دموع رجل تأبى البطولة والفحولة أن تحيا بعيدا عن ملامحه الغارقة بسمرة الأرض ورحيق الشهادة ؟ موسى الخالص ، صديق البندقية ، صاحب قدم تهمس للأرض حين تخطو ، فتهمس الأرض بأنها تعرف خفقات نعال رجالها ، تشدوها لحنا للحرية ، للفخار ، وتنثرها عبقا وحبقا على جرح يمتد في خاصرة الوطن ليصل إلى السويداء . موسى الخالص ، البطل المولود من رحم الكون ، من رحم الضياء والحياة والحب والعطاء ، موسى الخارج من رحم البطولة والشجاعة إلى رحم الوطن الخافق بالعذاب والأنين . عرفته حيفا ، ويافا ، عرفه تل الربيع ، وأم خالد ، أم الرشراش ، وبيسان وعكا ، عرفه وادي الحوارث ، عرفه نتش الجبال وأغصان الشجر ، عرفته الوديان والشواطئ والأقمار ، حفظته الأرض عن ظهر قلب ، تمرست به وتمرس بها . عرفته القسطل وهو يودع عبد القادر الحسيني ، ويودع الأبطال والشهداء ، ليبقى ليوم محفوظ في ذاكرة الزمن ، ليوم تساقطت فيه الدموع ، على جرح مختزل في عمق مرارة الشيح والحنظل . قالوا له ، هاك ورقة بيضاء ، حدد المبلغ الذي تريد ، دون تردد أو خوف ، اكتب الرقم ولا تحسب حساب الأصفار الممتدة على بياض الورقة ، وان احتجت أوراق لتزدحم فيها الأرقام ، لك الأمر وعلينا الطاعة . لم تكونوا هناك ، لم تشاهدوا عيني الرجل وهي تتهيأ للبكاء ، لم تسمعوا خفقات روحه ، ووجيب قلبه ، ولم تحسوا بتحرك جذور الأرض بأعماقه المكسورة ، لم تسمعوا هدير الموج ، وصفير الرياح المنبعثة من سويدائه ، لم تشاهدوا تساقط البراكين وانهيار الزلازل وتردم العواصف بقلبه المنقوع باللوعة والانكسار . كانوا يتحدثون عن قطعة ارض صغيرة حول المسجد الأقصى ، كانوا يتحدثون عن أمتار قليلة ، وأرقام لا يحدها حد أو يوقفها حاجز . وكان هو يستعد للبكاء ، يقاوم بكل عزم الأرض التي عرفته ، لكن العين المتحركة من سويداء القلب كانت تستعد للانفجار ، عين من دمع لا يشبه الدمع ، وماء لا يشبه الماء . تشققت قنوات القلب ، وبدأت مساحات الماء تتنامى ، تتكثف . قال لهم : نعم سأبيعكم ارضي ، بشرط واحد ، -المياه تتحرك في القلب – تستعد لترفض الماء من العين – عليكم ، أن تأخذوا هذه الورقة ، وتدوروا بها الكرة الأرضية ، وتبحثوا عن كل عربي ومسلم ، – المياه غطت القلب – بدأت تصعد نحو الأعلى – وتسألوه التنازل عن الوطن ، اجمعوا تواقيع العرب والمسلمين ، وانتظروا من في الأرحام ، اليوم وغدا ، – اشتد انفجار العين – تعالى هدير المياه وتعاظم – وحين تنتهون ، – اقتربت الساعة – وانشقت غلال الحواجز – تفتت صخر القلب – وتصدع صوان السويداء – تهاوت قلاع الأرض – هي اللحظة – اللحظة التي ستصرخ فيها السماوات مستغيثة – هي لحظة لم يعرف التاريخ مثلها من قبل ومن بعد – وحين تحصلون على تواقيع العرب والمسلمين – وانفجرت عين الماء – همت الدموع على وجنتي رجل – تناثرت السماء وتشظت ، تمزقت الشظايا – وتفتت – دموع رجل جاس الدغل والليل والموج – دموع رجل تتنفس الأرض كلها من أنفاسه – دموع رجل تنحني لهامته قباب الأقصى وأسرجته – بكى موسى الخالص ، بكى من كان يهز رحم الموت وبؤرته بقلبه وعينه – بكى من كانت السهول والوديان تعرف همس خطواته – كعصفور جريح – كأسد منهوش – كنمر مبقور – كفهد عاجز – بكى موسى الخالص – فبكت السماوات – سماء خلف سماء – وبكت الأكوان – وبكت البراكين – هل رأيتم بكاء البراكين ؟ هل عرفتم دموع الزلازل ؟ هل خبرتم دموع الرجال حين تهمي لتخمد نيران الأكوان – هل عرفتم كيف تغرق البحار والمحيطات والأنهار والوديان والآبار ؟ بكى موسى – فبكينا – بكى موسى فبكى الوطن كله دفعة واحدة – بكى ساعد البندقية – بكاء لا يشبه البكاء – زرع فينا حسرة العجز والكساح – حين وقفنا نتلمس دموعه المتفجرة من بؤرة القلب المكسور – بكى موسى الخالص – هل تعرفون معنى أن يبكي موسى الخالص ؟ أتدرون من هو موسى الخالص ؟ وهل على الأرض ألما يشبه الم دموع موسى ؟ وهل اشق على الأرض من دموع الرجال على الرجال ؟ اندفعت كطوفان مخزن بالدموع – نحو القدس – نحو موسى – الذي بكى فأبكى البكاء وعذب العذاب – سالت عنه – اندفعت الثمه من كل جانب – كنت ابكي بشراهة الطوفان المتفجر – لمست يده – ويده الأخرى – تأملت عينيه – كم من الدموع ستسكب أيها الرجل ؟ كم من الدموع ستسكب ؟ لتستطيع أن توصل للناس معنى أن يبكي الرجال أنفسهم – ومعنى أن يبكي الرجال الرجال ؟ وحين خرجت من عنده – أدرت راسي لأراه وهو يمسك الدمع ليغرسه بالروح – لكن الروح لم تحتمل مرارة دمعه – فأرسلته فيضانا عارما – يخترق القلب ويمزق العين – سألني الزيتون – أتبكي لبكاء موسى ؟ نعم – ابكي البكاء – وادمع الدمع – – هل أكلت من زيتي ؟ – نعم – هي دموع موسى التقيت الموت على حاجز – سألني – أتبكي لبكاء موسى ؟ نعم – ابكي لبكاء موسى – هل عرفت كيف يبكي الرجال ؟ – نعم عرفت ستعرف ذلك فقط – حين تشاهد دموعي وهي تعصف وتبرق وترعد قهرا وكمدا من دموع موسى ؟ – لفني الآن بردائك – ليس قبل أن تقول للناس كيف يبكي الرجال جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة