إذا جاز أن نعرف الإنسان بأنه كائن سياسي، فلا مناص من أن نسبغ عليه صفة المعارضة ليصبح بذلك “كائنا سياسيا معارضا”. فالديمقراطية ليست شيئا آخر غير ممارسة هذا الإنسان حقه في قول “لا”. هذا الحق، الذي أصبح اليوم من المسلمات، على الأقل في البلدان التي توصف بأنها ديمقراطية، لم يكن حقا طبيعيا يولد مع الإنسان، بل سالت في سبيله دماء كثيرة وسقطت من أجله مماليك وإمبراطوريات وأسر حاكمة، قبل أن ينتهي الأمر إلى نظام سياسي “السيادة فيه للأمة، تمارسها مباشرة عبر الاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها”. يخبرنا التاريخ أن ظهور الديمقراطية وتطورها، بمعنى حكم الشعب نفسه بنفسه، كان نتيجة نضال النبلاء -وليس البروليتاريا- من أجل حرية الملكية وضد فرض ضرائب جديدة كلما احتاج صاحب التاج. فلذلك نجد أن الماغنا كارطا (الميثاق العظيم) في القرن 13 في بريطانيا تؤسس لنوع من التعاقد بين الملك ومعارضته آنذاك يضمن لهذه الأخيرة حق المشاركة في السلطة مقابل تقديم الضرائب. في بلادنا، ارتبط مفهوم المعارضة بنضال الحركة الوطنية من أجل الاستقلال. واستمرت هذه المعارضة بعد سنة 1956 في النضال من أجل بناء دولة عصرية ديمقراطية تتجاوز البنيات التقليدية للمخزن، وتحاول التأسيس لنظام سياسي تعاقدي يسود فيه الملك ولا يحكم. وقد استمر هذا النضال إلى أن اقتنعت هذه المعارضة -أو بالأحرى يئست- بداية التسعينيات بضرورة المشاركة والتغيير من الداخل مع حكومة التناوب التي قادها الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي. لست هنا بصدد تتبع الجذور التاريخية لظهور مفهومي الديمقراطية والمعارضة وتطورهما، وكل ما تقدم من أجل تأكيد حقيقة أن معارضتنا لم تعد بخير، ولم تعد تعني ما كانت تعنيه لدى جيل الحركة الوطنية، بل تعرضت للكثير من المسخ والتشويه، حتى أصبحت تصلح لكل شيء إلا للمعارضة. وهنا أعود لموقف هذه المعارضة غير المفهوم من المادة 9 من قانون المالية 2020، التي أصبحت ملزمة بعد نشر مشروع القانون المالي في الجريدة الرسمية، بصيغة تجعل الدولة ومؤسساتها فوق القانون وفوق الأفراد بعد منع الحجز عن ممتلكاتها رغم صدور مقررات قضائية نهائية ضدها، وتجعل من مؤسسة القضاء مجرد هيئة استشارية قراراتها معلقة على مزاجية الدولة والجماعات الترابية وملحقاتها. إذا كانت حكومة صاحب الجلالة محكومة بهاجس ضمان استمرار المرفق العمومي، ولو تطلب ذلك إهانة المقررات القضائية الصادرة باسم جلالة الملك وطبقا للقانون، فما الذي سيدفع أحزابا تصف نفسها بأنها معارضة من إنقاذ هذه المادة من السقوط؟ وماذا يعني الموقف الذي اتخذه أكبر حزبين معارضين في البرلمان، حيث صوت الأول لصالح هذه المادة بالذات، وامتنع الثاني عن التصويت عليها في الغرفة الثانية قبل أن يرفضا القانون برمته، بعدما شارك فريقيهما في الغرفة الأولى في صياغتها صياغة أكثر رجعية من الصيغة الواردة في النص المحال على البرلمان من طرف الحكومة؟ في الوقت الذي ناضلت فيه أحزاب تنمي للأغلبية من أجل إسقاطها، وفي الوقت الذي انتفض قضاة المملكة ومحاميوها، بل حتى بعض المؤسسات الدستورية المحترمة ضد إقرارها. من الواضح أن الذي أقحم بشكل متعسف هذه المادة في قانون المالية عوض قانون المسطرة المدنية، الإطار الأنسب لمعالجة مسألة تنفيذ الأحكام القضائية، يدرك تمام الإدراك أن ما يقوم به غير قانوني، ولذلك حشد أدواته داخل المؤسسة التشريعية من أجل دعم هاته المادة فقط وإضفاء المشروعية عليها، إما بالتصويت لصالحها أو التصويت بالامتناع كأضعف الإيمان لتفادي الحرج. وبالمناسبة، فمهمة السياسي اليوم أصبحت تتلخص فقط في إضفاء المشروعية على القرارات غير الشرعية. للدولة حسابها بطبيعة الحال، وهو حساب يختلف عن حساب الأفراد. لكن بمثل هذه الممارسات التي تعود إلى ما قبل دستور 2011، لا يمكن أن ندعم الثقة في العمل السياسي ونعزز دور المؤسسات واستقلالها. لأن عدم وجود خطوط حمراء واضحة بين الأغلبية والمعارضة لا يزيد المشهد السياسي ببلادنا إلا قتامة، وسيؤدي لا محالة إلى مزيد من العزوف والإحباط في إمكانية التغيير من الداخل. في الماضي كانت المعارضة تشكل مصدر قلق وإزعاج للسلطة، لكنها اليوم أصبحت مصدر قلق وخوف لنا كمواطنين.فوجود معارضة قوية ومستقلة يعني وجود برامج بديلة قادرة على سد أي فراغ سياسي، تماما كما وقع إبان السكتة القلبية في التسعينيات، وخلال الربيع العربي سنة2011، وغياب هذه المعارضة يعني أنه علينا أن نخاف على مستقبلنا، لأن الطبيعة تأبى الفراغ وتبحث عن أي شيء لملء هذا الفراغ حتى وإن كان ب ” الفوضى الخلاقة”. جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة