في النقاش الدائر الان والذي هو استمرارية لنسقين مختلفين في الفكر والممارسة، بين من يقدس الحرية الفردية ويعتبرها خيارا لا رجعة فيه، دون ان يكلف نفسه تحديد المصطلح لنفهم ما يقصد به من هذا السجال، وبين من ينتصر للحريات الجماعية والتي تجعله حكما يسلط سيفه الرمزي على من يخالفه بأحكام وقواعد تاريخية وتراثية تحتاج الى الفهم والتمحيص. اذن بين هذين النسقين نناقش في المغرب، هذا البلد الذي اختلطت فيه الافكار بالعواطف والاحداث بالأعراض، وأصبحنا نقيس ما يجري من نقاش دائري بين النخب الفكرية التي هي امتداد للنخب السياسية، ولذلك فالسؤال المحدد والجوهري، هل اشكالية الفرد في ممارسة حقوقه الفردية والجماعية مرتبطة ببنية السلطة أم بصنمية المثقف في زمن الحداثة أو ما بعد الحداثة؟ ما ذا نقصد بالحرية الفردية أو الحريات الفردية؟ وما ذا نقصد بالحرية الجماعية؟ أو الحريات الجماعية؟ إشكالية المصطلح والمضمون: سؤال الحرية في الفرد والجماعة هو يتجدد بتجدد الازمنة والوقائع ،وفهم الحرية من الزاوية الدينية أو الشرعية يجعل الاصولي يقف بلغة علمية وفقهية اصولية واضعا ضوابط جمة ظانا انه بهذا الفعل قد حرس المجتمع من كل ما من شانه ان يقيد أو يثير ما يثار ،وقد تاه العقل الاسلامي في فترة العصر الوسيط في اشكاليات الفكر والحرية وما نتج عنها من خروج العديد من الافكار والتيارات التي بالرغم من ما فيها اثرت التنوع الفكري الاسلامي ،وأخرجته من حالة من الجمود المحلي الى النبوغ العالمي ،فأضحى مرجعا انسانيا وضع معالم للحضارة الانسانية . وسؤال الحداثة في تلك الفترة بدأ مع المعتزلة بضوابطه واسسه العقلية، لذلك إذا ما أردنا ان نناقش فكر المعتزلة دون ربطه بممارسات سياسية تحتاج الى البحث التاريخي السياسي في افعالهم وتحالفهم السياسي آنذاك.وكذلك الشأن عند بعض من نصبوا أنفسهم حماة الشريعة وبدأوا في الاتهام والقهر الفكري والنفسي بدعوى الخروج عن الجماعة.تتغير الافعال والاقوال لكن السؤال يبقى حاضرا في مخيلة المثقف الذي يرى ان تقديس الحرية في مجتمع لم يستطع ان يحسم في الدلالة المفاهيمية لها يجعلنا نعيش حالة من التيه الفكري وعدم القدرة على الخروج من شرنقة المتحكم في الفكر والسلوك والممارسة. فالحرية بمفهوم الجماعة تكامل وانتظام وهي ضبط لما يمكن تسميته بالحقوق الجماعية التي يتعاقد عليها مع الراعي –الحاكم –في وثيقة دستورية أو عقد البيعة. لكن الحرية بمفهوم الفرد تساءل الخصوصية وتساءل الاقلية وتساءل كل الاشكال التي كانت ظاهرة أو خفية واصبحت تشكل ممارسات احتجاجية في مجتمع تقليدي أو يتسم بنوع من الخصوصية. ولذلك يبقى سؤال العقل في الزمن انتفض فيه العقل وأصبح المحرك الاساسي هو لغة الجسد ولغة الاشارة الجنسية والكبت المجتمعي هوالمحرك، وتبقى التساؤلات المثارة مجردة وغير ذي معنى بل هي لا وقع لها. القانون والحرية الفردية الحرية الفردية شرسة يصعب ترويضها في قواعد قانونية ضابطة وتتسم بالعمومية ويطبقها بناء على ارادة الجماعة التي تمثل ضمن المؤسسات المخول لها ذلك بمقتضى وثيقة التعاقد الاجتماعي في وطن من الأوطان. الحرية الجماعية تختفي إذا ما اصبحت مقهورة ومغيبة ومجمدة أو تعاكس ارادة الجمهور، حينها لا نقدر ان نناقش الحرية بشكل واضح ومتزن، لان البناء الاجتماعي يكون متينا ومعقدا ومتداخلا قيميا ومتضامنا في الصورة العامة. العقل الإسلامي والحرية يتجدد النقاش الدائر ضمن النسق العربي والإسلامي حول سؤال الحرية الفردية مثله مثل سؤال الديمقراطية ،التي كانت في وقت قد مضى نقاشا غريبا في بيئة غير مهيئة لهذا النقاش ،ولذلك نتجاوزه الى سؤال التنمية التي فشلنا في تنزيلها وخصوصا مع عصر النهضة ،لان الذي جرى اننا استنسخنا نقاشا عاما بين النخب وهو نقاش لم يبدأ في بيئتنا بل في بيئة مغايرة لنا ،وتم نقله ولذلك اما غلبة الاندهاش والابهار وغياب مناخ التفكير والحرية يصبح عمل النخب المثقفة هو النقل والاستنساخ دون فهم ،وحالة المغرب ليست استثناء من هذا الامر حيث كلا التيارين نقلا أفكار اما شرقية او امتدادها الغربي . والحرية الفردية، كمصطلح غربي، كان لها نصيب من هذا الصراع، فمن رافض لها، إلى متحمس لها مؤملا فيها كل الأمل… والباحث في الامر يلمس غياب التحليل ويجد التسرع في إلقاء الأحكام، وهذه من أعضل مشكلاتنا، ذلك أننا ما زلنا نحتقر (التنظير) ونرفض (فعل التفلسف)، ونحب أن نكتفي من الظواهر والأفكار بالسطح والقشور، وكأننا بذلك نُرضي طفولتنا الفكرية التي تنفر من التجريد، بل ونتشبث بإدامتها، لأنها – في النهاية – تعفينا من إعمال العقل والربط بين المقدمات والنتائج ربطا منطقيا. فسؤال الحرية بين الفردية والجماعية لا يثار من باب الاشكال حول المصطلح ،وانما من زاوية وضع المشكلة في السياق الحضاري ،فنحن كأمة تعيش مرحلة ما بعد حضارتها، محكوم عليها أن تكون في موضع المغلوب الذي يفرض عليه الغالب قوانينه وعاداته ومقاييسه، يقول: «ورثنا نحن معشر الشعوب الإسلامية، كما ورثت معنا وفي الظروف نفسها الشعوب الإفريقية الآسيوية التي خضعت مثلنا للدول الاستعمارية واحتكت بثقافتها وحضارتها في إطار الاستعمار، ورثنا هذا الاتصال وبحكم القانون الذي يفرض على المغلوب عادات وتقاليد الغالب، ورثنا المقاييس المرتبطة بحياة العالم الغربي وبتجربته التاريخية، وتقبلنا بعضها لنقيس بها الواقع الاجتماعي لدينا، ونقارن على ضوئها ماضينا وحاضرنا، بما يسحر أبصارنا في حاضر هذه الأمم الغريبة». فاللقاء مع الغرب (الآخر/الغالب) ومن موقعنا كمغلوبين، أنشأ لدينا مركب نقص، جعلنا نضم إلى إسلامنا خصوصيتنا/أصالتنا/ذاتنا) كل ما نعتقده ذا قيمة في حضارة الغرب، ولذلك نسمع عن مفهوم الحرية بالمفهوم الليبرالي في الإسلام)،في حين أن لمسألة أقرب إلى رد الفعل العاطفي منها إلى الاختيار العقلاني الذي يختبر ما لديه أو ما يفد عليه من الآخر. ولذلك فالحرية في الإسلام تدل على هذه الآلية التي تتحكم في العقل المسلم، الذي يقف في هذه المرحلة من تاريخه، منبهرا بقوة الغرب المفهومية) بقدر ما هو منبهر بسطوته المادية… فتراه يبحث عن المفاهيم يضيفها إلى تراثه، بالكيفية ذاتها التي يبحث بها عن الوسائل المادية لتحقيق الرفاهية في الواقع. وما أكثر ما أدخلنا هذا الربط غير الواعي، بين الإسلام ومفاهيم وافدة، في متاهات لم نتمكن بعدها من الإمساك بالمفهوم الوافد والاستفادة منه، ولا بتطوير فهمنا ونظرتنا إلى الإسلام. فالمفكر المنفتح في تحليله لموضوع الحرية في الإسلام، لم يتعامل مع الصيغة المركبة باعتبارها مسلمة، على الرغم مما فيها من إغراء وبريق قد يحمل المدافع عن الإسلام على تبنيها، خصوصا إذا ما نظرنا إلى الظروف التي اتسمت أساسا بتشبث المصلحين في العالم الإسلامي بكل ما من شأنه أن يدفع عن الإسلام دينا وحضارة، شبهات التخلف والانغلاق والماضوية، التي كان يروج لها المستشرقون والمفتونون من أبناء المسلمين، ويدعمها – بغير قصد – تزمت بعض علماء الدين وتحجر أفكارهم وبعدهم عن واقع الناس. فمشكلة الربط بين هذين المصطلحين هي في نظري المشكلة الأساسية في الموضوع، يجب أولا أن نميز بينهما وأن نعطي كليهما ما تستحق شخصيته من التعريف، حتى نتبين في ضوء هذا التعريف أي قرابة توجد بين المصطلحين.. وكأني به بهذا قد انتهج طريق (ابن رشد) حينما بحث قضية الصلة بين الحكمة والشريعة، فحلل مضمون الحكمة وحدد مفهومها، ثم حاكم ذلك إلى ما دعت إليه الشريعة، فتوصل إلى (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. فكلا المصطلحين (الحرية – الإسلام) ولكنه في البداية نبه على أمرين أساسين: – الأول: أن الوقوف عند المعنى اللغوي للمصطلحين من شأنه أن يدفعنا إلى القول بانتفاء أية صلة زمانية أو مكانية بينهما، فالحرية الفردية كمصطلح نشأت في بيئة محددة وزمان محدد لا صلة لهما بالبيئة والزمان اللذين نشأ فيهما مصطلح الإسلام، وعليه «ربما أمكن القول مجازفة، نظرا لهذا التباعد من حيث التاريخ والجغرافية، بأن ليس هناك (حرية فردية مطلقة في الإسلام)» . – الثاني: أن المصطلح عبر تاريخه يكتسب معاني ويتلبس بتصورات مختلفة، فلا يمكن أن نغفل هذا الأمر عند إرادة المقارنة أو التحليل، بل علينا أن نحدد المعنى الذي نريده، وهذا بالضبط ما حدث لكل من (الحرية الفردية والإسلام) فما العمل إذن أمام هذين الأمرين؟ يتوجب علينا القيام بخطوتين: 1-تجاوز المعنى اللغوي للمصطلح محل الدراسة. 2- تحديد مفهومه قبل ربطه بأي مفهوم آخر (فالحرية الفردية نحددها في ذاتها دون ربطها بالإسلام ولا أن نجعله مقياسا لها. فالدلالة المفاهيمية للحرية الفردية: هي سلطة الفرد على ذاته في التقرير والتعبير والاختيار دون قيد أو ضابط بتعبير تحليلي موجز (سلطة الإنسان). – الإسلام: هو الخضوع الانسان كذات بروح ومادة لله -تعالى – أو بتعبير تحليلي موجز (خضوع الإنسان). -فهل يوجد وجه مقارنة بينهما بعد هذا التبسيط؟ أي وجه مقارنة بين مفهوم خاص يفيد مجمله تقرير (سلطة الإنسان) في نظام اجتماعي معين، وبين مفهوم ميتافيزيقي يفيد مجمله تقرير (خضوع الإنسان) إلى سلطة الله في هذا النظام أو غيره. هكذا ينتهي الأمر فيما يبدو إلى مناقضة أو ما يشبه المناقضة» فهذا التبسيط للمفهومين والذي يرتكز أساسا على الجوانب اللغوية، يزيد من أثر المقارنة بينهما صعوبة. والصعوبة – «ليست نتيجة الواقع الذي يدل عليه كلا المصطلحين، بل إنها تنتج من كيفية تعبيرنا عن هذا الواقع» وهذه ملاحظة في غاية الأهمية، ذلك أننا حينما نأخذ مصطلحا أو مفهوما ونغفل عن ظروف نشأته الزمانية والمكانية، نكون في الحقيقة قد ابتعدنا عن جوهر ذلك المفهوم، وعرضنا أحد تجلياته في الواقع في لحظة زمانية وحدود مكانية معينة، بمعنى أننا لن نعبر عن المفهوم كما هو في شكله المجرد الذي قد يصلح لكل زمان ولكل بيئة، وإنما سنأخذ أحد نماذجه التطبيقية في زمان وبيئة محددين… وهذا ما حدث -مثلا-للأحزاب اليسارية حينما أخذت التجربة السوفياتية كنموذج أرادت استنساخه، فباءت بالفشل؛ لأنها لم تتعامل مع النظرية الاشتراكية أو الماركسية، وإنما تعاملت مع إحدى تجلياتها وتطبيقاتها في واقع يختلف عن واقع الشعوب العربية، وهو ما يحدث أيضا لدعاة الحداثة في سعيهم في نقل الصورة الحداثية للمجتمع الغربي ومحاولة تطبيقها على المجتمع العربي، فلا غرابة بعد ذلك أن تبوء تلكم التجارب والمحاولات بالفشل، لأنها لم تتعامل مع المفاهيم وإنما تعاملت مع (تعبيرات) عن تلك المفاهيم – الحرية الفردية : أسس وشروط: لئن كان المستوى اللغوي في تحديد المفهوم لا يفي بالغرض، فيجب ان نضع أمامنا مستوى آخر يمكن أن يكون كفيلا بإثراء النقاش وجعل المقارنة بين الحرية الفردية و(الإسلام) أمرا ممكنا. هذا المستوى – كما أشرنا من قبل – يتمثل في تجاوز التحديد اللغوي وعدم جعل المصطلح الثاني مقياسا للأول، وإنما علينا أن نتعامل مع كل مصطلح بشكل مجرد، في إطاره العام دون تحديد مسبق، فهذا الإجراء يعزز من موضوعية الباحث ويمكنه من الوصول إلى حقيقة لمفهوم)، دون أن يقف التحديد اللغوي المرتبط بزمان النشأة ومكانها، حائلا بينه وبين مبتغاه، ودون أن يجعله التحديد المسبق يقفز على الحقيقة إما بالرفض وإما بالتأويل وإما بالتلفيق، وهي آليات المنظومات الفكرية المغلقة التي لا تكاد تفتح في بنيانها نافذة لشعاع آخر يأتيها من الخارج، وأنى لها ذلك وهي على يقين من أن ما عداها ظلام في ظلام!! وبناء على ذلك، فالحرية الفردية لا يمكن اختصارها في عبارة (سلطة الانسان)، وإنما ينظر إلى جوهرها الذي يتحدد من خلال ثلاثة وجوه، هي: 1- -الحرية الفردية نحو (الأنا) 2- -الحرية الفردية نحو (الآخرين) 3-الحرية الفردية كمجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعورفي الفرد ،فهذه الوجوه الثلاثة تتضمن بالفعل مقتضيات الحرية (الذاتية) /الفردية و(الموضوعية /الجماعية ، أي كل الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الإنساني ، والعدة التي يستند عليها النظام في المجتمع… فلا يمكن أن تتحقق ممارسة الحرية كواقع اجتماعي إن لم تكن شروطها متوفرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد» . فموطن الخلل في المحاولات التي عرفها العالم العربي والإسلامي في التعامل مع هذا المفهوم، (معرفي) بالأساس ويكمن أساسا في التحديد الأولي لمفهوم الحرية. فالحرية كواقع تنطلق من الذات شعورا، كما تتفاعل مع الآخرين شعورا أيضا، ولا يُكتفى فيها بذلك حتى نلحق ذلك الشعور بضمانات اجتماعية وسياسية تعززه وتنميه في ذات الفرد. ولكي تتحول الحرية الفردية الى حرية جماعية أي إلى واقع سياسي، يجب أن تتوفر شروط (ذاتية) وأخرى (موضوعية). – الحرية شعور قبل أن تكون ممارسة، بل لا يمكن أن تكون هناك ممارسة جماعية -كواقع سياسي- إن لم تسبق بشعور ذاتي يتحرك في كيان الفرد ويمازج أفكاره «وهذا الشعور مقيد بشروط معينة لا يتحقق بدونها، وهذه الشروط ليست من وضع الطبيعة ولا من مقتضيات النظام الطبيعي، على خلاف ما كانت تتصوره الفلسفة الرومانتيكية في عهد جان جاك روسو، بل هي خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين. فالشعور بالحرية هو نتيجة لهذه الحركة عبر القرون، ولهذا التقدير المزدوج لقيمة الإنسان» هذا النص يوصلنا إلى نقطتين مهمتين: الأولى: أن الشعور الذاتي بالحرية يُكتسب عبر حركة في واقع الحياة، والحركة تقتضي بذل الجهد لإحداث التغيير، ومن ثمة لا يمكن أن نتصور وجود هذا الشعور في الفرد مصادفة، أو بمقتضى التغير غير الواعي للظروف، كأن يكون الإنسان في مرحلة تاريخية (كالاستعمار مثلا)، ثم يدخل مرحلة تاريخية أخرى (كالاستقلال. وهذه الحقيقة تتم من خلال استحضار النموذج الغربي، فهو يرى أن الديمقراطية الغربية لا تُفهم حقيقة إلا إذا عدنا إلى أصولها الأولى، ووقفنا مع الشعور الديمقراطي في بداياته البسيطة، قبل أن نقف مبهورين مع ما أنجزته هذه التجربة في الواقع السياسي والاجتماعي للإنسان الغربي… فالمرحلة الممتدة من نهاية الإمبراطورية الرومانية إلى قيام الثورة الفرنسية، كلها كانت مرحلة تخلق ونشوء لذلك الشعور بالحرية لدى الإنسان الغربي. فتصفح تاريخ تلك الرحلة – «يبين كم كانت أصول الممارسة الغربية بعيدة وبسيطة، وكيف تكون الشعور ببطء، قبل أن يتفجر بالتالي في التصريح بحقوق الإنسان والمواطن، ذلك التصريح الذي يعبر عن التقويم الجديد للإنسان وعن التتويج الأسطوري والسياسي للثورة الفرنسية» وهذا الشعور لم يأت ثمرة مصادفة غير واعية، وإنما «كان النتيجة والمآل الطبيعي لحركة الإصلاح والنهضة، فهذا هو معناه التاريخي الصحيح» فإذا تجاوزنا التجربة الغربية وما تحمله من خصوصيات، سنعطي لها ، صيغة القانون، وهو أن كل شعور بالحرية إنما نتج عن عمل اجتماعي واع، وحركة تنقل الإنسان من وضع إلى آخر، فتعيد تقييمه وتهيئته لإنتاج واقعه الجديد. مسألة أخرى أن أساس الشعور بالحرية ، الذي يأتي -كما بيّنا-عن طريق حركة واعية، يتمثل في تقييم مزدوج للذات وللآخر. – تقييم للذات ينتفي معه الشعور ب(العبودية.) – تقييم للآخر ينتفي معه الشعور ب(الاستعباد.) فنحن نرى في النهاية أن جوهر الحرية هو الإنسان في تفاعله مع ذاته ومع الآخر، وما القوانين والدساتير إلا ضمانات دعم ومساندة ولا تنشئه، وهذا ما سنوضحه أكثر في العنصر الموالي. – الإنسان مركز الحرية: الحرية الفردية تبقى مجرد شعارات هنا وهناك في صالونات مزينة نزين بها خطابا لنغدو أكثر حداثة ولو ما لم نتوجه إلى الجوهر، وجوهر البناء هو (الإنسان ومنطلقه). فالأسس الثلاثة للحرية «الشعور نحو (الأنا) -الشعور نحو (الآخر)- الضمانات الاجتماعية والسياسية»، تدور كلها حول الإنسان. فالإنسان هو أساس الحرية وجوهرها ومركزها، ولكن ليس أي إنسان، وإنما هو الإنسان الحر،الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية والتزاماتها، هو الحد الإيجابي بين نافيتين تنفي كل واحدة منهما هذه القيم وتلك الالتزامات: نافية العبودية ونافية الاستعباد» فالحرية لا يصلح لها إنسان يتجاذبه شعوران متناقضان: – شعور نحو ذاته بالعبودية. – شعور نحو الآخر بالاستعباد. وها هنا يتضح لنا سر فشل سؤال الحريات الفردية والجماعية في الوطن العربي، على الرغم من الكم الهائل من الشعارات والدعاوى، بل والالتزامات الشكلية بآليات الديمقراطية، كالانتخابات والمؤسسات والدساتير… فالمسألة أساسا متعلقة بغياب أساس البناء الديمقراطي، الذي هو الإنسان، وليس أي إنسان، وإنما الإنسان الحر. فتطوير الإنسان، وتخليصه من قيود الاستعباد، وإعادة تقييمه، هو نقطة البدء في أي بناء اجتماعي، مهما كان مضمونه وفلسفته بعد ذلك. وبعض (النخب) الساعية للحكم، المتمثلة في أحزاب المعارضة، لا زالت ترى الشعب أيضا قاصرا، غير عارف بمصلحته، لا تنظر إليه إلا باعتباره صوتا انتخابيا، فهو واع إن صوت لصالحها، وهو دون المستوى إن اختار غيرها. فالتقويم يعيد للإنسان الإحساس بإنسانيته، ومن ثمة يدفعه إلى الدفاع عن حقه في الحياة كإنسان حر مكرم، وما لم نصل به إلى هذا الشعور. وهذا الشعور – كما أسلفنا – يأتي نتيجة حركة واعية من شأنها أن تطور الإنسان، وتعطيه تصورا جديدا ينقله من طور العبد المستكين، إلى طور الإنسان الحر الممتلئ إحساسا بإنسانيته. نقطة أخرى لا تقل أهمية على مكانة الإنسان، وهي علاقة الآليات بالمضمون في مسألة البناء المفاهيمي للحرية الفردية . فالتمسك بالآليات دون ترسيخ المفهوم أولاً في النفس، لا يعدو أن يكون استنساخا شكليا لنماذج لا نملك مقومات وجودها في واقعنا الاجتماعي. حيث أن المجتمعات العربية أخطأت الطريق إلى النهضة والحضارة، حينما حاولت محاكاة الغرب في حضارته بدافع التقدم، وانكبت على أشياء الحضارة تقتنيها، فكانت النتيجة أن (تكدست) هذه المنتجات الحضارية لديها، دون أن تخطو بها نحو التقدم الحقيقي خطوة. يبقى السؤال مباحا والاجابة عسيرة في مجتمع لا يفكر وحتى حينما يبدأ في التفكير لا يملك من مقدمات التحليلي الا السرد التاريخي لواقع نحن لسنا مسؤولون عنه ،ولكن بمجرد ما يبدأ السؤال تبدأ المحاكمة والانطباعية وتنعدم العلمية والعقل ونبقى رأسنا في الأرض وارجلنا في السماء ،ونظن بهذا اننا تخطينا عقدة النقص في واقع يحتاج الى ان يتنفس الحرية بشكلها الواسع وليس كما يريد الاخر ان نتنفسها وهي ممزوجة بنكهات غريبة عن نكهاتنا الطبيعية .