بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سؤال الهوية:لماذا؟وكيف؟

"الهوية هل هي دين أم انتماء عرقي أم هي وطنية أم مرجعية تاريخية قبلية" تركي مطر" .
يرتبط سؤال الهوية اليوم بخطاب العولمة ،أو ما اصطلح عليه بخطاب "الليبرالية المتوحشة"،التي سعت إلى تقزيم مفهوم الهوية، وطمس حقوق الأقليات اللغوية والثقافية والقيميية .ولذلك، تنقدح أمام الباحث جملة من الأسئلة من قبيل:من أنا؟ومن نحن؟ ومن الآخر؟ وما موقعي من الآخر؟وما موقع الآخر مني؟وهل أنا في موقع التأثير أم أنا في سلة التابعين؟هل أنا شريك مؤثر في صنع الحضارة أم مجرد رقم من أرقام الاستهلاك الحضاري والتبعية الثقافية؟أليس البحث في سؤال الهوية مؤشرا دالا على أزمة بنيوية مركبة؟أية علاقة بين أزمة الهوية وهوية الأزمة؟كيف يمكن تعميق سؤال الهوية في ظل التحديات الراهنة ؟ماذا لو انصهرنا في بوثقة الآخر؟أليس الانصهار في كيان الآخر يعني من جملة ما يعني نوعا من الهزيمة النفسية والانكسار الحضاري؟ما موقع الهوية من جدلية الخصوصية والكونية ؟كيف يمكن تدبير سؤال الاختلاف الحضاري مع التمسك بالهوية ومقومات الوعي بالذات وبالآخر في هذا الظرف التاريخي العصيب؟
تأطير الإشكالية:
أضحى سؤال الهوية هاجسا فكريا يقض مضجع مختلف العلماء والباحثين المهتمين بقضايا الدين والدولة خصوصا،وبقضايا الأمة عموما، إلى درجة ارتقاء هذا السؤال إلى مستوى الأزمة التي يراد لهذه الأمة أن تعيشها رغم أنفها في هذا الظرف التاريخي بالذات، في الوقت الذي تعتز فيه كل أمة بهويتها، وتدافع عنها، وتقاتل دونها، وتحاول فرضها بأساليب مختلفة(إعلامية، ثقافية، اقتصادية ...)، بل بقوة السلاح على الآخر. ولذلك، نطرح على أنفسنا سؤالا مصيريا استفزازيا من نحن ؟وما علاقتنا بالآخر؟والواقع، أن ما نعيشه اليوم، أمام تحديات الهوية، لايعد و أن يكون نتيجة لتراكمات تاريخية سابقة ساهمنا في إنتاج وإنضاج عناصرها منذ أكثر من قرن .وسؤال الهوية يمكن تأطيره بالإضافة إلى ما سبق في سياق التساؤل التالي:هل نحن معشر المسلمين واعون بذ واتنا أم لا؟هل نحن قوى فاعلة منتجة مؤثرة أم أطراف استهلاكية هامشية تعيش على فائض القيمة بعد أن غبنا أو غيبنا عن مسرح الأحداث وصناعة التاريخ؟
مفهوم الهوية:
إذا كان الحكم على الشيء فرع عن تصوره ،فان تحديد مرجعية دلالية وضبط الشبكة المفاهيمية لمصطلح هوية مرتبط بالمنظومة المرجعية ،والتصورات القبلية، والأدوات المنهجية التي يتسلح و ينطلق منها كل باحث لملامسة ومقاربة هذا المصطلح :فالباحث الغربي مثلا، يبلور جهازا مفاهيميا وخطابا تحسيسيا أحيانا – لا خطابا تأسيسا- في تصديه لسؤال الهوية الإسلامية، معتمدا نوعا من الإسقاط والتعسف أثناء قراءة النصوص، واستنطاق صمت المعنى الكامن في الانتاجات النصية الد ينية تحديدا (أو ما يسمى بلي عنق النصوص لتقويلها بالقوة ما لا تقوله بالفعل)،كما أن الباحث المسلم –مع استحضار مستويات الخطاب الإسلامي وضوابطه ومقاصده-يروم القبض على الدلالات الهاربة الثاوية في تضاعيف النصوص من أجل استيعاب دلالة المصطلح، ورحلته عبر المراحل التاريخية في أفق تحيينه وترهين أسئلته المضمرة (أو ما يسمى بالمسكوت عنه)،وردم المسافة التاريخية الفاصلة بين ميلاد المصطلح، وأشكال استعمالاته وتوظيفا ته الإيديولوجية غير البريئة.وعليه ،فالهوية (بضم الهاء وليس بنصبها كما هو شائع ومتداول بين بعض المثقفين)،لها علاقة بالماهية1 (ماهية الإنسان وجوهره وحقيقته)،لأنها مأخوذة من "هو"(وهذا ما أكده ابن منظور ،الفارابي ،الجرجاني وابن رشد) .ومن ثم، فمصطلح الهوية ليس مصطلحا جديدا، بل هو مصطلح قديم /جديد، ولكن الجدة في معناه والمضمون المراد منه . ومن هنا ،نقول :هوية قبلية أوطنية أو دينية أو لغوية.أو أسرية أو اجتماعية أو فكرية أو هوية نصية أو جسدية أي في أصابع اليد كقول الشاعر :
بلادي وان جارت علي عزيزة وأهلي وان ضنوا علي كرام
أما في التصور الإسلامي، فالهوية مرتبطة بالوظيفة الرسالية والمقصدية من خلق الإنسان (الاستخلاف الشرعي، البناء، العمارة ،الانجاز،و العمل ..) قال تعالى :"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"/(البقر :30) ".كما أن هوية الإنسان في القرآن الكريم لها علاقة بالعلم، والمعرفة ،والعقل، والتكليف، والاختلاف عن غيره من المخلوقات، والشعور بالاستقلال ، والتميز والماهية ..قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " (البقرة/31). على أن مفهوم الهوية لا يد ل على الذوبان والانصهار، وفقدان الخصوصية والاستقلالية، فالإنسان بوصفة حلقة في منظومة فكرية، آو اجتماعية ن أو اقتصادية يشعر بانتمائه لسياق اجتماعي معين مع إحساسه بخصائصه الذاتية ومقوماته الفردية المؤطرة داخل "هوية اجتماعية".
تاريخ الهوية بين الاكراهات والضغوطات:
باستقراء أحداث التاريخ، نسجل أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد مكث في مكة(المرحلة المكية) من أجل بناء "إنسان الحضارة" و "إنسان الرسالة"ثلاثة عشر قرنا، في أفق تمثل الإنسان مقومات خطاب الوحي الإلهي ،وترسيخها في نفسيته، وعقليته ،ووجدانه. وبالتالي، إعادة بناء هوية الإنسان المسلم باعتباره صاحب رسالة، وجوهر التغيير،ومشروع دعوة ممتدة في الزمان والمكان3. أي أنه ليس كائنا سلبيا بيولوجيا يمارس التكاثر الطبيعي، ويتزود بعناصر الطاقة إلى أن يلقى ربه فحسب،بل هو إنسان مكلف، ومستخلف لعمارة الأرض، وحمل هم الإنسان بغض النظر عن لغته، أو لونه، أو ثقافته، أو بيئته. ولذلك، كانت المرحلة المكية ،في مجملها، مرحلة إعداد وتأهيل الإنسان من أجل تحمل عبئ رسالة الإسلام تمثلا وتبليغا من خلال تأسيسه وبنائه عقديا، من حيث مبدأ التوحيد، وما يفرزه من تجليات كوحدة الأصل و المصدر مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كلكم لآدم آدم من تراب" وقوله تعالى :"منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى" (طه/55)، ومن حيث وحدة القانون المنظم لحركة الحياة لأن النظام الحاكم واحد" ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين"(الأعراف /54)، ووحدة المصير "إليه مرجعكم "(يونس /4). وعليه، فالإسلام قد أكد منذ أربعة عشر قرنا على وحدة الأصل، ووحدة المصدر، ووحدة النظام، ووحدة القانون ،ووحدة المصير قي سياق بناء هوية الإنسان كيفما كان هذا الإنسان. ومن هذه الزاوية، فعلى الإنسان في كل أغراضه ألا يتوجه إلا إلى هذا الواحد.ولذلك ،ركز الإسلام ،في هذا السياق، على ضرورة طلب الإنسان المسلم للعلم وممارسته لأنهما جزء أساسي لبناء المكون الثقافي للهوية الإسلامية:فشتان ثم شتان بين طلب العلم وممارسته، فطلب العلم له مقصد تعبدي للحق سبحانه، بينما ممارسة العلم تعني التنزيل العملي العقلاني للقوانين العلمية على أرض الواقع من أجل عمارة الأرض، وممارسة رسالة الاستخلاف الحضاري في الكون وفق الضوابط الشرعية المنصوص عليها .ومن ثم، فبناء وصياغة وجدان وعقل ونفسية الإنسان المسلم، وإرجاعه إلى فطرته وفق مبدأ التوحيد الخالص- الذي لايتوجه فيه الإنسان المسلم في كل صغير أو كبيرة إلا لخالق هذا الكون- تعد نقطة مفصلية مؤسسة لروح الهوية الإسلامية. استمع- هداك الله- إلى رد أبي بكر الصديق وقد سئل :كيف عرفت ربك يا صديق؟فقال رضي الله عنه؟"عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي" .واسترسل قائلا وقد أخرس ألسنة خصومه بعد أن عجزوا عن فصل خطابه:"العجز عن الإدراك إدراك والبحث في ذات الله إشراك " .هذه هي هوية الإنسان المسلم نطق باللسان ،وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان4 (فقه التنزيل).وقد انتقلت هذه القيم العقدية المؤسسة على مبدأ التوحيد الخالص(من حيث وحدة المصدر والأصل، و النظام، والقانون، والمصير)إلى رحاب المدينة المنورة للتأسيس لمشروع جديد للأمة قوامه بناء هوية الدولة الإسلامية(من منظور سياسي مدني)5، على أساس جني ثمار وحصاد ما سمي تاريخيا ب"البناء الأرقمي"القائم على قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"عرفت فالزم"(راجع صحيح مسلم).ولذلك، فخيرية هذه الأمة نابعة من تمسك المسلمين بهويتهم الدينية التي تتأسس على الأمر بالمعروف النهي عن المنكر والإيمان بالله عز وجل. .
وعليه، فالمرحلة المدنية حاول من خلالها الرسول صلى الله عليه وسلم التأسيس لمرحلة وعي الأمة بذاتها كأفراد ومجتمع(الصلاة لتنظيم العلاقة بين الفرد وربه، الزكاة لتنظيم العلاقة بين الفقير والغني، بناء المسجد لما له من وظائف متعددة تعبدية وعلمية ودعوية وسياسية وحضارية،وسن وثيقة دستورية جامعة و ضابطة للعلاقات الخاصة بين المسلمين فيما بينهم والعامة، أي بين المسلمين وأهل الذمة، بالإضافة إلى المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، وهذا من صميم السياسة الشرعية في الإسلام، ومن مكونات الهوية الإسلامية أي سياسة الدنيا في حراسة من الدين ).إنها إجراءات فورية فرضها المنطق الجديد ،منطق شروط بناء الدولة وإعطائها هوية حقيقية وواضحة ،ومدلولا حضاريا يلغي الفوارق العرقية، واللغوية، والجغرافية. ولذلك، انصهرت في بوثقة المجتمع المدني الجديد-والتي كان للمرحلة المكية دور أساسي في تشكلها وصياغتها وعيا وتمثلا واقتناعا-عدة حساسيات تجاوزت منطق اللسان، واللون، والبيئة، وذابت جميعها في مسير بناء الدولة الإسلامية الفتية التي يقود سفينتها –بتأييد من الوحي- من لا ينطق عن الهوى صلوات ربي وسلامه عليه.لقد تشكلت الهوية الإسلامية في المدينة بعد أن حصل التفاعل الوجداني القلبي العملي من خلال مجتمع الصحابة الكرام كبلال الحبشي –باعتباره أول مؤذن في الإسلام –وسلمان الفارسي الذي قال عنه الرسول الأكرم":سلمان منا آل البيت")راجع صحيح البخاري)وصهيب الرومي (ولم يكونوا عربا)2 وأبي بكر الصديق "الذي لو وزن إيمان الأمة وإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر"،"ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا"(التوبة/40). وعلية، فمن خصائص الهوية الإسلامية مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية الحلقة المفقودة، والعملة المبحوث عنها منذ فجر التاريخ، وسبب بركان الغضب الديمقراطي .والخيط الناظم أو القاسم المشترك بين هذه المكونات المختلفة لغويا، عرقيا، وجغرافيا، هو مبدأ التوحيد الخالص ،هي التقوى باعتبارها السلاح الأقوى قال تعالى:"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعرفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم"(الحجرات/13).فعلة الخلق -زيادة على عمارة الأرض، والاستخلاف، وإقامة شرع الله وتبليغه- هي التعارف( لام التعليل كما يقول علماء النحو).يقول ابن الوردي6 في هذا المجال :
لا تقل أصلي وفصلي أبدا إنما أصل الفتى ما قد حصل
قيمة الإنسان ما ينجزه أكثر منه الإنسان أو اقل لقد تأسس بناء هوية الأمة في المرحلة المدنية ،إذن ،على خلفية دينية سواء من حيث بناء الهوية الفرية، أو بناء الهوية الجماعية رغم أن بعض" المتنطعين" و"المتفيقهين"يتبجحون بعدم وجود علاقة بين الفرد وخالقه في محاولة يائسة لإسقاط مفاهيم خارجة عن منظومة الوحي الإلهي ،واستنباتها وتبيئتها في غيرسياقاتها وأطرها المرجعية الأصلية. . .
مشروع الدولة/ الأمة، وليس مشروع الدولة /الفرد، مكون أساسي من مكونات بناء نسيج هوية الدولة الإسلامية في العهد النبوي لأن الهوية، مرتبطة ارتباطا عضويا، بمفهوم الخصوصية والتميز(خصوصية المسلم عن غير المسلم ،وخصوصية الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم)،فهوية الاتحاد السوفياتي سابقا كونه يدين بالمذهب الشيوعي،هوية الدول الأوربية عموما تدور حول الثقافة الليبرالية،أما هوية الدولة الإسلامية فمجموعة عناصر تشكل برمتها لحمة الأمة، باعتبارها أمة صاحبة عقيدة، تترتب عنها ممارسات سلوكية وعلاقات من نوع خاص، من حيث علاقة الفرد بربه، وعلاقة الفرد بالفرد، وعلاقة الفرد بالمجتمع، وعلاقة المسلم بغير المسلم، وعلاقة الإنسان بالكون. وعلية فالهوية الإسلامية هوية متميزة، متفردة ،مستقلة عن غيرها من الهويات سواء من حيث طبيعتها، وثقافتها، وسياستها، وتاريخها واقتصادها، و تربيتها، ومنهجها ...
لقد تشكلت الهوية الإسلامية، عبر مسارها التاريخي المتدرج، انطلاقا من انفتاحها وتأثيرها في الثقافات الأخرى فعندما كانت أ وربا(مرحلة القرون الوسطى المظلمة) تعيش تحت تأثير الكنيسة – الداعمة لفكرة صكوك الغفران والمغتالة لسلطة العقل-كانت الحضارة الإسلامية تنشر لواء التنوير، والعلم، والتفكير العقلاني من خلال كوكبة من العلماء كالرازي، وان سينا، وابن رشد حيث كان أطباء الإسلام يقصدون أوربا من أجل علاج حكامها ،بل كان الأوربيون يتلقفون انتاجات علماء الإسلام ،كما نتلقفها نحن اليوم من الغرب. بمعنى لآخر، أن الثقافة الإسلامية مارست نوعا من التبادل الثقافي مع الفكر الأوربي(المثاقفة)، وذلك عندما هاجر ووفد العلم العربي الإسلامي إلى الديار الأوربية- في الوقت الذي هجر المسلمون هذه العلوم الكونية البارزة- ومهدت، بشكل أو بآخر، إلى ميلاد التقدم الحضاري الذي تباهي به اليوم الحضارة الغربية7 .وبذلك، فالمسلمون، في هذه المرحلة التاريخية، حققوا قطيعة ابستمولوجية مع ارثهم الثقافي، ورصيدهم العلمي، ولكن في الاتجاه السلبي، فعوض أن يطوروا مكتسبا تهم وانجازاتهم العلمية انخرطوا في صراعات داخلية، وعطلوا مشروع النهضة العلمية، وأجهضوا حلم الأمة في مسايرة ومواكبة الأمم المتقدمة ،مما أدى إلى سقوط الحضارة الإسلامية في دورة الانهيار الحضاري (شأننا في ذلك شأن الحضارات الأخرى، وهذه نتيجة تسليم مفاتيح العلوم للغير والتحكم فيها).
ومن خصائص الحضارة الإسلامية كونها لا تميل إلى الصراع8 ،فهي حضارة مسالمة تؤمن بمشروعية الاختلاف مع الآخر، حضارة قائمة على فلسفة التسامح، والحوار لا الصدام و الإقصاء والاحتواء، انطلاقا من قوله تعالى:"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".(النحل/125).كما أن الهوية الإسلامية ،على مستوى الفرد والأمة ،أمة مسالمة ومتعاونة"جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".وقال أبو العلاء المعري9 :
الناس للناس من بدو ومن حضر بعض لبعض وان لم يشعروا خدموا
خصوصا إذا علمنا أن الأمة الإسلامية توصف بكونها أمة الشهود الحضاري مصداقا لقوله عز وجل:"وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"(البقرة/143).وللتاريخ والأمانة العلمية نقول: إن الفكر الأوربي مبني في أساسه على فكرة "عنصرية"، ذلك أن أفلاطون قد قسم المجتمع إلى ثلاث طبقات:طبقة ذهبية، وطبقة فضية، وطبقة نحاسية ،وقسم العالم إلى بربر(الجنس غير الآري ) وغير بربر(الخدم/راجع جمهورية أفلاطون) ،والحال أن الهوية الإسلامية قد أفرزت لنا نماذج بشرية راقية بعيدة عن التعصب العرقي، أو اللغوي، أو الجغرافي: فبلال بن رباح – ذو البشرة السوداء- كان أحسن بكثير من أبي الحكم (أبو جهل سيد قومه).
ولذلك، فمنطق الفكر العنصري الذي يؤسس للحضارة الغربية قد تجسد عبر ثلاث مراحل10 : :
المرحلة الأولى: هي مرحلة تقسيم الأجناس البشرية إلى جنس آري وجنس غير آري. .
المرحلة الثانية :هي مرحلة الاستعمار لغة وفكرا واقتصادا وسياسة و"هوية".
المرحلة الثالثة: هي مرحلة العولمة التي تقزم الآخر ،إلى درجة المحو والإلغاء، من خلال منع التعدد اللغوي والثقافي واستنساخ" الأقليات "لتجارب قوى الاستكبار العالمي"، علما أن ثمة ملاحظة أساسية يجد ر بنا بسطها في هذا المقام، هي كون الحضارة الإسلامية ليست لقمة سائغة سهلة المنال ،بل هي حضارة –وان كانت مسالمة – عصية لها حصانة، ومناعة داخلية قوية، فهي ليست مثل "البقرة المجنونة" أو" نعجة ضوني" التي يمكن استنساخ كائنات مشابهة لها .إنها حضارة مبنية على عنصر المقاومة والممانعة، وان كانت حضارة غير منغلقة تؤمن بالآخر ثقافة، وحضارة، ولغة، وعلما. .
وبزحف العولمة الكاسح، بدأت الهوية الإسلامية تواجه إعصارا خطيرا يتجسد في تزييف الوعي11، وتوجيه اهتمام الشباب خاصة إلى مجالات تشوش على منظومة القيم(لأن عالم اليوم يعيش حرب قيم فإما أن نكون أو لا نكون) ،الأمر الذي يمكن وصفه ب"مرحلة تزييف الوعي بالذات"التي مهد لها بمرحلة "تغييب الوعي بالذات"(نظرا لغياب مؤسسات تعليمية تقاوم هذا الهجوم الشرس/ما فعله على سبيل المثال لا الحصر نابليون بونا بارت بالأزهر لما وصل إلى مصر )،عن طريق الاستعمار العسكري المباشر. ومادامت اللغة العربية مكونا أساسيا للهوية الإسلامية، فقد تم استهدافها من خلال محاربتها ،والتضييق على أهلها، ونشر لهجات "هجينة "(راجع في هذا الصدد ما فعله يوسف الخال- أحد مؤسسي حركة مجلة شعر- من خلال الترويج للكتابة باللهجة العامية عوض اللغة العربية)، بدعوى أنها ليست لغة العلم. كما يعد المعتقد الديني رافعة أساسية للهوية الإسلامية، لذلك حورب بدوره كما حوربت لغته، وبدأ عملاء الاستعمار وأذنابه يربطون بين تخلف المسلمين وبين تمسكهم بالدين الإسلامي. وقد تجسد هذا الهجوم من خلال محاولة تشويه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم(وما الرسوم الكاريكاتورية المسيئة عنا ببعيد)، و القرآن الكريم –باعتباره مكونا أساسيا من مكونات الهوية الإسلامية-بدعوى أنه" بشري المصدر"، ومؤسس على الأساطير- على حد زعم المستشرقين- في محاكاة سافرة للمشركين القدماء .فملة الكفر واحدة. إشكالية ترويج الإشاعات وحراسة عملاء الاستعمار لسماسرة الأكاذيب مست، إذن، عناصر الهوية الإسلامية وهي :اللغة العربية، الرسول صلى الله عليه وسلم ، القرآن الكريم ،وعلاقة الدين بالتخلف .
انتقل العبث بالهوية الإسلامية الأصيلة -من مرحلة تزييف وتغييب الوعي بالذات- إلى مرحلة تزوير الوعي بالذات، من خلال استبدال المصطلحات والمفاهيم الإسلامية بأخرى أجنبية مستنبتة من قبيل: ثنائية "العلم والدين" أو ما سمي زورا وبهتانا بالعلاقة الموجودة بين "الفكر المنطقي العقلاني التجريبي"، و"الفكر الخرافي الأسطوري التقليداوي"/،واعتبار "الدين أفيون الشعوب"، فبدأ الترويج لفكرة مسمومة مفادها أن سبب تخلف المسلمين راجع بالأساس إلى ارتباطهم بالإسلام ،كما تم استيراد ثنائيات غريبة كالعلاقة بين "الدين والعلم"والعلاقة بين "الدين والعقل"( وهي إشكالات فكرية فلسفية نتاج المعارك التي خاضها فلاسفة الأنوار ضد الكنيسة خلال القرون الوسطى كما هو معلوم عند أهل العلم).بيد أن أذناب الأبقار أبوا إلا أن يستوردوا قضايا الغرب وإشكالاته، ومحاولة تعميمها وتعويمها في العالم العربي الإسلامي - الذي يتوفر على خصوصيات دينية، حضارية، لغوية ،وأخلاقية معينة-رغم إيماننا العميق بأن العلم لا وطن له ولا هوية له. غير أن الإنسان إذا سقطت عنه خصوصيته وهويته سقط عنه كل شيء.غير أن المجال يقتضي أن نفتح قوسا لنؤكد أن جدلية الفصل بين الدين والعلم –كما روج لها الاستعمار ومن يدور في فلكه-تعمقت- لدينا نحن معشر المسلمين- لأننا ساهمنا ،بشكل أو بآخر، في انتشارها بسبب تمييز علمائنا بين العلوم الشرعية، والعلوم غير الشرعية، العلوم الدينية، والعلوم الدنيوية .ولذلك، تم تهميش العلوم الكونية الدقيقة بدعوى أنها تندرج في إطار العلوم الدنيوية، والحال أنها . . مكون أساسي من مكونات العلوم الشرعية الدينية ،وهذا ما يفرض على علماء الإسلام ممارسة نوع من النقد الذاتي على الخطاب الديني (أو ما يسمى بجلد الذات)وذلك بتشذيب بعض الأوهام العالقة. .
من الثنائيات التي حاول الاستعمار إيهامنا بكونها تناقضيه ، قضية "الدين والدولة"،التي ارتبطت تاريخيا إبان سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية، وذلك سنة 1924م على يد كمال أتاتورك.وفي هذا السياق، ألف الشيخ "علي عبد الرازق(أو أملي عليه ) كتاب "الإسلام وأصول الحكم"،داعيا إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة( لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة).وهذا ما يتناقض وروح الدين الإسلامي -باعتباره عقيدة وشريعة- من حيث إن الإسلام يتضمن إجابات للقضايا والإشكالات العالقة( علاج الأزمات الاقتصادية ،وعلاج التفرقة العنصرية، وعلاج لمشكلات الاستعمار الثقافي، وعلاج لقضايا العولمة التي يشكو منها المسلمون وغير المسلمين...)،فغياب ثنائية الدين والدولة في الفكر الأوروبي نابعة أساسا من غياب شريعة منظمة لعلاقة الراعي بالرعية أو الحاكم بالمحكومين(ولذلك كان الأوربيون يد ينون بالعهد القديم).
عكس السياسة الشرعية في الإسلام القائمة على مبادئ، ومنظومة قيم، وآليات محددة لتصريف تلك المبادئ والقيم. ( ما العلاقة بين أن نستورد طائرة من أوربا وأمريكا ،وبين أن نستورد انتاجاتهم الثقافية؟أية علاقة بين استيراد الآلة الأوربية، وبين تقنين الشذوذ الجنسي؟.أهذه هي الحرية الشخصية؟ إنها عولمة الشذوذ واللواط، والسعي إلى تدمير منظومة القيم ليس إلا)).قد يقول قائل: ولكن قواعد فن السياسة كما تعلمنا ها في كتب "الأمير "لمكيافيللي/الغاية تبرر الوسيلة، أو" العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو ،أو ما قاله الداهية الكبير تشرشل" في السياسة لا توجد صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، ولكن توجد مصالح دائمة". قد يكون الأمر كذلك لأن كل إناء بما فيه ينضح، ولكن في الإسلام هناك ضوابط شرعية، وقواعد محددة لإدارة الأزمات، و درء مفسدة أولى من جلب مصلحة، فالدولة في الإسلام مبادئ، ولا ضير في استيراد الأدوات والآليات المساعدة على تطبيق تلك المبادئ والقيم ،فالديمقراطية على سبيل المثال لا الحصر غاية وليست وسيلة .هل هناك فرق جوهري بين من يرتدي الجلباب المغربي الأصيل، وبين من يرتدي اللباس العصري وربطة العنق؟هل يطعن هذا الأمر في هوية الإنسان، أو هوية العالم هنا، وهوية العالم هناك؟الجواب طبعا بالنفي لأن الإنسان بجوهره، بمخبره، بقيمه، لا بمظهره وقشوره.ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن التقوى: قال التقوى هاهنا وأشار عليه الصلاة والسلام إلى صدره. وعليه، فالعلم لا وطن له، انه تجسيد عملي لنظرية علمية لأن الأشياء محايدة، بيد أن قصد الإنسان ونيته من استعمال وتوظيف تلك الأشياء، وتلك الآلات هو الذي يضفي قيمة مضافة عليها . .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.