الفساد عامة، موضوع حساس. يثير ردود فعل عنيفة في بعض الدول. وبقدر ما تحاول بعض الحكومات محاربته، بقدر ما تحول جيوب المقاومة دون ذلك. والفساد الإداري في أحد معانيه، هو استغلال منصب ما، من أجل القيام بأعمال وخدمات لمجموعة من الأشخاص، بشرط الحصول على مقابل مادي لذلك (رشوة)، من خلال الاحتيال على قوانين العمل لتمرير شيء ما، يحقق مصلحة فرد، أو مجموعة من الأفراد، على حساب أفراد آخرين. في مقال للخبير الدولي ” روبير كليتكارد ” (Robert Klitgaard)، صادر بمجلة (FINANCES ET DEVELOPPEMENT) لصندوق النقد الدولي، تقريب للقارئ من الانعكاسات الخطيرة لظاهرة الفساد الإداري على الاقتصاد والمجتمع في أي بلد. وقد ساق مثالا حيا لمؤسسة تابعة لوزارة الصحة بالدولة موضوع دراسته، حيث إن الحكومة في هذا البلد كلفت المؤسسة “PSS ” بتوزيع بعض الأدوية والقيام ببعض الخدمات لفائدة الفقراء. غير أن الصفقات المتعلقة بهذا المشروع الاجتماعي خضعت لعملية ” رشوة ” بهذه المؤسسة الصحية، ولم تخضع للمنافسة الشريفة. هذا وأن 50 بالمئة على الأقل، من الصفقات بهذا البلد خضعت للمنطق نفسه. و مما جعل أحد الملاحظين يستغرب، هو أن الأشخاص أنفسهم يشرفون على جميع مراحل الصفقات من البداية إلى مرحلة تدقيق الحسابات. ناهيك عن تدخل أصحاب الجاه والمال في عملية الصفقات لتفضيل مقاول على آخر. باختصار شديد، يرى ” كليتكارد” أنه كلما انتشرت ظاهرة الفساد الإداري، كلما أصبحت الإدارة طاغية. وكلما أصبح تطبيق الإجراءات القانونية في خبر كان. والنتيجة، عدم أداء مستحقات الدولة من طرف العديد من المقاولات أو تأخيرها، وانتشار ظاهرة ” الهدايا “. وهو ما يؤدي حتما إلى إضعاف المنافسة، وتفشي ظاهرة الفساد في البلاد، وعدم الفعالية. وفيما يتعلق بالمؤسسة السالفة الذكر “PSS”، فقد سقطت في أزمة مالية خانقة، وضاع حق الفقراء في الاستفادة من الخدمات الصحية والأدوية التي منحتهم الدولة. يحدد الخبير الدولي ” كليتكارد” ثلاثة مستويات لمحاربة هذه الظاهرة (ظاهرة الفساد): المستوى الأول: تحسيس الرأي العام بانعكاسات هذه الآفة الخطيرة على المجتمع. المستوى الثاني: اعتماد المقاييس الوقائية: 1- الكفاءة والشرف والنزاهة والاستقامة، لاختيار رجال الدولة. 2- تشجيع المستثمرين والمقاولين والإدارات الذين يحققون نتائج جيدة. وبالمقابل، المعاقبة والضرب بيد من حديد على المفسدين. 3- البحث عن مختلف الوسائل لضبط خبايا ظاهرة الرشوة والفساد. 4- تشجيع التنافسية الشريفة. 5- تحديد سلطات المتدخلين في كل العمليات الاقتصادية والاجتماعية. لكن، قد لا تعطي هذه الإجراءات النتائج المنتظرة، في بلد تكثر فيه اللوبيات المحاربة للتقدم والتنمية. وهنا يقترح هذا الخبير الدولي الانتقال إلى المستوى الثالث. المستوى الثالث: في هذه المرحلة، لا ينبغي فقط تقوية المؤسسات الجادة ولكن إضعاف المؤسسات التي تستفحل بها ظاهرة الرشوة والفساد. وينبغي تحليل دقيق للفرع الذي يعرف هذا المرض. ويخلص إلى أن الفساد كالسرطان، يشل الاقتصاد. ويكون من الأسباب الهيكلية للبطالة وفقدان ثقة المواطنين في الانتخابات والمنتخبين. وتنقلب القيم في المجتمع. إن ظاهرة الرشوة والفساد لا تقتصر فقط على دول في الجنوب فهي تطال كذلك بعض الدول المتقدمة، لكن هذه الأخيرة تقوم بمحاكمة حتى كبار المسؤولين. وبالنسبة لبلدنا، لا يمكن إنكار الجهود التي تبذلها الدولة لمحاربة الفساد الإداري منذ بداية تنفيذ دستور 2011. لكن، مازال الطريق طويلا وشاقا للانتقال إلى مرحلة تغليب مصالح الوطن عن المصالح الذاتية. والمطلوب سن قوانين تضمن حماية كل معلن ومعلنة عن حالات الفساد والرشوة. إن الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية، وحرية التعبير، وحرية الإعلام، وديمقراطية التعليم، تشكل في مجملها السبيل إلى محاربة الفساد بشتى أنواعه. وبالتالي، العبور إلى التنمية التي ينشدها المواطنون والمواطنات في بلدنا وفي باقي بلدان الجنوب.