إن المُتَتَبِع لواقع ما يُنشر افتراضياً على مواقع التواصل الاجتماعي، يجد بما لا يدع مجالاً للشك، الكم الهائل “للتدوينات والمنشورات والصور ومقاطع الفيديو والرسائل النصية وغيرها”، التي تبعث عن شعور مزدحم بتناقضات حياتنا المعاصرة، المكتظة بعالم الصورة والتشاؤم حيال حياتنا الواقعية، من حالات البؤس والخوف والجريمة والهجوم غير المفهوم على تفاصيل حرياتنا الفردية والحميمية، بما يَنمُ عن استعمال مُكثف لتوثيق اللحظة وأرشفتها، ومعرفة من يُقاسمنا إياها فرحاً وسروراً وحزنا وثبوراً، من تفاصيل التفاصيل لحياتنا الدقيقة بما لها وعليها، من ملاحظات قد تترك لأحدنا انطباعاً بأنها شأناً داخلياً، يجدر بنا إبقاءه في خانة اللامُشاع. ماذا يعني كل هذا..؟ ولما كل هذا الاهتمام بعالم الافتراضيات التي قد تعكس نوعاً ما من الفشل في الواقع والكسل في الحياة؟ ولماذا أصبحنا حياتنا بتفاصيلها الصغيرة مُشاعة افتراضياً؟ ألا يَجدر بنا أن نحافظ على جزء منها في خانة الذاتي، الذاتي وفقط؟ وكيف يمكننا فهم وتفسير هذا الاهتمام الهارب من الواقع..؟ صحيح أن هذه الافتراضيات المعاصرة شكلت نقطة تحول مُهم في عدد من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وسمحت لأفراد المجتمع المحلي والعالمي بالتعبير عن أرائهم مواقفهم تجاهها، وساهمت بقسط وافر في توجيه القرار السياسي في عدد من البلدان، وأعطت انطباعاً حول مستوى التفاعل مع القضايا المجتمعية، إيجاباً وسلباً، وكل هذا ايجابي نوعاً مع حسب طبيعة المقاربات المعتمدة من طرف زُوار ومُتابعي المجتمع الافتراضي، لكن بالمقابل قد يتضح من خلالها، بناءً على نوع هذه الاهتمامات، مؤشراً لقياس مستوى وعي هذا المجتمع واهتماماته في الحياة؟ وكيف ينظر لواقعه ولنفسه في زحمة الحياة المادية؟ لقد أحدث هذا التحول، تغييرات مُهمة مست مختلف تفاصيل معيشنا اليومي، وأربكت استمتاعنا باللحظة، وأفسدت بما يوحي بأن لا يوجد شيء ما يستحق أن يظل شأناً خاصاً ذا قيمة شخصية.. بل وأضحينا في هذا الإطار أكثر اهتماماً بموضوع الآخر، وكيف ينظر إلينا بمنظاره الخاص، بناءً على ما راكمه حولنا من معارف واحتكاكات سمعية واجتماعية وافتراضية..؟ كما لو أنها حالة نفسية لقياس مستوى رضا الناس علينا.. كما لو أنها حالات مرضية. في هذا السياق ظهر ما يُسمى بموقع “الصراحة”؟ الذي أصبحنا لاهثين وراءه مُحبين طالبين راغبين بمُصارحة الناس لهم ولنا؟ ايجاباً وسلباً.. بما قد يترك لبعضنا انطباعاً بأننا نعيش في واقعنا بعكسها تماماً، “باللاصراحة”، وهو ما يعكسه الإقبال المكثف على هذه المواقع والتطبيقات المخترقة لخصوصياتنا التواصلية.. وهو تعبير عن خلل ما انبت عليه ثقافة مؤسساتنا الاجتماعية، وما خلفته من حالة اللاثِقة في مؤسسات واقعنا التي تشتكي من سلوكات أفراده.. وهذا موضوع آخر “مُتشعب ويطرح عدد من الاشكالات عن سبب هذه اللاثقة في مؤسساتنا وكيف يمكن استعادتها؟”. لكن بالعودة، على هامش نقاش مع صديق عزيز حول هذا الموضوع، طَرحَ سُؤَالاً مُهماً، مامعنى الصراحة؟ وكيف تنبني وتتشكل الصراحة في أذهاننا عن الآخر؟ وهل هذه “الصراحة –المؤقتة-، هي الحقيقة أم أن مجرد سراب علق في أذهنانا في شكل صورة ما؟ وهل سبب أزمتنا في الحياة، في حالة البؤس الذي تعيشه مؤسساتنا، سببه غياب الصراحة في تواصلنا وعلاقتنا؟ وهل يجدر بنا أن نكون دائما صُرحاء؟ ألا يُشكل هذا نوع من الخوف من الصراحة التي قد تتعارض أحيانا مع مصالح البعض في الحياة..؟ هذه الأسئلة وأخرى، تجعلنا أمام مجتمع يَعجُ بتناقضات جمة، نود “الصراحة” من الآخر، ونكرهها إن تعارضت مع مصالحنا الضيقة، مما قد تجعل بعضنا يلجأ تزلفاً ونفاقاً إلى الكذب والإفتراء سعياً للحفاظ على مكاسبه وصورته أمام عوام الناس وأسيادهم.. ولعل حالة الفاعل السياسي لأرقى تعبير عن ذلك.. لكن لمَ كل هذا البؤس والتناقضات..؟ هل هي حتمية تاريخية في علاقتنا بالآخر؟ هل هو مزعج لهذه الدرجة؟ ماذا عن سؤال الله وموقعه من كل هذا..؟ حيث لا ينفعك أي صراحة من صراحاتك في الحياة.. إلا ما كان صادقاً وصالحاً منها.. نعم هناك حيث الحساب والعقاب لكل “الصراحات، والخطابات..” هناك حيث العدل. * طالب باحث