تقديم من المؤكد أن يشهد الدخول السياسي المقبل في المغرب، والذي تستهل فصوله مع بداية الدورة البرلمانية في الجمعة الثانية من شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، العديد من المستجدات وربما المفاجآت، خاصة وأن الإشارات المباشرة وغير المباشرة الواردة من القصر في الآونة الأخيرة كانت واضحة في هذا الصدد، فقد سبق للملك محمد السادس أن حدد خلال خطاب العرش الأخير في 29 يوليو/تموز المنصرم، قضايا رئيسية سواء تلك التي تمثل توجهات استراتيجية مرتبطة بمستقبل التنمية في البلاد، أو تلك التي يجب أن ينصب عليها اهتمام الحكومة على المديين القريب والمتوسط. قبل ذلك، وخلال مناسبات مختلفة، وجه الملك انتقادات للأجهزة التنفيذية والتشريعية والإدارية وللأحزاب السياسية، وكلها كانت توحي بأن المؤسسة الملكية بصدد الإعداد لمرحلة جديدة قد يمثل الدخول السياسي المرتقب حلقتها الأولى. فما هي أهم ملامحه؟ وما هي روزنامة الإجراءات التي أعدتها المؤسسة الملكية؟ وهل مكونات المشهد السياسي المغربي مستعدة للدخول في هذه المرحلة الجديدة؟ النموذج التنموي: المفهوم الجديد للدولة! خلال ترؤسه لافتتاح السنة التشريعية 2017، عبّر الملك محمد السادس بشكل واضح على أن النموذج التنموي الوطني أصبح غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين، ودعا إلى إعادة النظر في النموذج التنموي الحالي لمواكبة التطورات التي تعرفها البلاد . وفي هذا السياق يمكن تسجيل الملاحظات التالية: أولها، أن مصطلح النموذج التنموي لم يكن متداولا في الأوساط السياسية والاقتصادية والأكاديمية قبل أن تتم إثارته من طرف العاهل المغربي الذي وظفه لتوصيف مظاهر القصور الاقتصادي والاجتماعي الذي تعاني منه الدولة من جهة، وباعتباره الرؤية الاستراتيجية المستقبلية للنهوض والتقدم من جهة أخرى. وهذا يعني أن هذا المصطلح لا يمثل مفهوما جديدا أو منهجا في الحكم قد تتأسس عليه الدولة في المستقبل، بقدر ما هو صيغة تدبير جديدة تروم الدولة من خلالها مراجعة سياساتها في القطاعات الاستراتيجية الكبرى مثل الصحة والتعليم والاقتصاد وغيرها. ثانيها، إن هذا المستوى من المراجعة التي يطرحها تقديم نموذج تنموي جديد، والتي دفعت الملك لنقد النموذج الحالي بشكل يكاد يكون غير مسبوق، يفرض الوقوف بشكل منهجي ومبدئي على الاختلالات التي تعيق مسلسل التنمية في البلاد، وهي العملية التي من المتوقع أن تضطلع بها اللجنة الاستشارية المزمع تنصيبها بهدف الانكباب على بلورة النموذج التنموي الجديد، إلا أنه ومن الجدير بالذكر، أن معيقات التنمية في المغرب تتجاوز في الواقع عمل هذه اللجنة التي تظل مهمتها محدودة في الزمن، والتي لن تستهلك وقتا كثيرا في تشخيص وتقييم تراكمات عقود من السياسات والمخططات والبرامج، وبالتالي يخشى أن يسقط النموذج التنموي الجديد في نفس المطبات المعرقلة للتنمية. ثالثها، بالإضافة إلى الأهمية البالغة التي تكتسيها عملية التقييم المذكورة آنفا، لا يمكن إنجاح هذا الورش الاستراتيجي للدولة المغربية، دون وجود بنية اقتصادية وسياسية وإدارية قادرة على استيعاب هذا التحول. فالهياكل الإدارية والقوانين المرتبطة بالنشاط الاقتصادي والثقافة السياسية للدولة ولمختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين في المغرب لا تزال تحتفظ بالهياكل التقليدية الموروثة عن الاستعمار، وعلى الرغم من أن مجهودات معتبرة بذلت بهدف تحديث وتجويد هذه البنيات، إلا أن مجالات مهمة استعصت على الإصلاح من قبيل الحكامة الجيدة، الحد من الفوارق الاجتماعية، الثقة في المؤسسات، السلوك السياسي والديمقراطي للأحزاب، البيروقراطية والتوزيع العادل للثروة وغيرها. الحكومة والأحزاب السياسية لم تتوقف دعوة الملك المغربي خلال خطاب العرش الأخير، عند ضرورة إعادة التفكير في النموذج التنموي، بل طالب رئيس حكومته سعد الدين العثماني برفع مقترحات تعديل حكومي قبل شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وذلك عبر تجديد مناصب المسؤولية الحكومية والإدارية بكفاءات وطنية عالية المستوى على حد تعبير الملك، وهو ما يعني أن يباشر رئيس الحكومة مشاورات مع الأحزاب المشكّلة للائتلاف الحكومي. تعتبر هذه المرة الأولى منذ اعتلائه العرش سنة 1999، التي يدعو فيها الملك محمد السادس بشكل مباشر إلى إجراء تعديل حكومي ضمن أفق زمني محدد وبمواصفات محددة. فبالإضافة إلى السياق الرئيسي المرتبط بالاستعداد لولوج مرحلة النموذج التنموي الجديد، فإن هذه الدعوة لا تخلو من إشارات سياسية أبرزها أن التركيبة التقنو-سياسية للحكومة لا ترقى إلى مستوى رهانات المرحلة بحسب “التصور الملكي”، ونقصد بالتقنو-سياسية عملية “الاستجلاب” التي تقوم بها الأحزاب السياسية لشخصيات تقنوقراطية واستوزارهم باسمها حتى ولو لم تكن ذات رصيد أو تاريخ سياسي، وذلك بهدف كسب ثقة المؤسسة الملكية. ويفتح التعديل الحكومي المرتقب الباب على مصراعيه لزيادة حدة الاستقطاب بين مكونات الائتلاف الحكومي، خاصة وأن القطبين الرئيسيين في الحكومة الحالية وهما حزب العدالة والتنمية وحزب التجمع الوطني للأحرار، تتباين حساباتهم وتطلعاتهم السياسية خلال المرحلة المقبلة ومع بداية العد العكسي للانتخابات الجماعية والتشريعية المقبلة. فبالنسبة لحزب العدالة والتنمية الذي يقود التحالف الحكومي، لا تزال الحيثيات المتعلقة بتشكيل الحكومة التي أعقبت انتخابات 2016 ترخي بظلالها على الوضع الداخلي للحزب، خاصة وأن قواعده لم تكن راضية على الطريقة التي تم بها تشكيل الحكومة بعد إعفاء الأمين العام للحزب آنذاك عبد الإله بنكيران، وتعيين يعد الدين العثماني بدله، وهي التشكيلة التي منحت لحزب الأحرار وزنا حكوميا لا يتناسب ووزنه الانتخابي بحسب وجهة نظر تيار بنكيران . وهو الأمر الذي فسره العثماني وتياره بالحاجة إلى لدعم وتكريس حالة الاستقرار الداخلي في البلاد في سياق دولي وإقليمي متقلب، بينما يعتبره التيار المحسوب على بنكيران رضوخا لإملاءات القصر ولرغبة خصوم الحزب الرامية لتقزيمه وتقليص حظوظه الانتخابية، لذلك فإن من شأن مشاورات التعديل الحكومي أن تمثل فرصة لرئيس الحكومة من أجل تحسين صورته داخليا من جهة، ومحاولة نزع قوة عزيز اخنوش رئيس حزب الأحرار من جهة أخرى. وبالنسبة لحزب التجمع الوطني للأحرار، فمن الواضح أن الهواجس الانتخابية المتعلقة بالاستحقاقات المقبلة تتحكم إلى حد بعيد بمواقفه، حيث أن تصريحات رئيسه تبين أن درجة طموحه السياسي باتت تطال رئاسة الحكومة مستفيدا في ذلك، أولا من نفوذه السياسي لدى باقي الأحزاب الأربعة في الحكومة، وثانيا من كونه قد يكون مؤهلا لمواجهة الإسلاميين في الانتخابات، بعد أن عصفت رياح الربيع العربي بحزب الأصالة والمعاصرة الموجود في المعارضة حاليا، والذي يعيش على إيقاع أزمة داخلية يصعب تجاوزها والتعافي من تبعاتها في أفق الانتخابات المقبلة. الوضع الحقوقي والاجتماعي ارتبطت فترة حكم الملك محمد السادس بالتطور الملحوظ الذي عرفه مجال حقوق الإنسان مع تجربة الإنصاف والمصالحة، والتشريعات والقوانين المؤطرة لحقوق الإنسان والحريات العامة، بالإضافة إلى تفاعل المغرب مع الآلية الدولية لحقوق الإنسان سواء من خلال الاستعراض الدوري الشامل أو ما يتعلق بتقارير المعاهدات، إلا أن تعاطي الدولة مع الاحتجاجات التي عرفتها مؤخرا بعض المدن والمناطق مثل الحسيمة وجرادة، والتي ارتكزت بالدرجة الأولى على المقاربة الأمنية، واعتقال ومحاكمة النشطاء، خاصة ما يسمى بمعتقلي حراك الريف، بالإضافة إلى محاكمة عدد من الصحفيين (بوعشرين، المهداوي، الريسوني)، أثارت التوجس من أن تشكل هذه الممارسات ردّة حقوقية تسعى الدولة من خلالها إلى إحكام قبضتها على الفعل الشعبي العام، بعد أن أبانت عن تفاعل إيجابي مع مطالب الحراك الشعبي إبان الربيع العربي. وعلى الرغم من عدم وجود أية مؤشرات حول انفراج قريب في الملفات الحقوقية المذكورة آنفا، خاصة فيما يتعلق بملف معتقلي حراك الريف، فإن من شأن الدينامية التنموية الجديدة أن تفتح الباب على مرحلة من التوافق السياسي والانفراج الحقوقي عبر حوار وطني موسع. أما على المستوى الاجتماعي، فمن الواضح أن الدخول الاجتماعي المقبل لن يعرف جديدا، أخذا بعين الاعتبار التوقيع على مخرجات الحوار الاجتماعي في 25 أبريل/نيسان المنصرم بين الحكومة من جهة، والنقابات الأكثر تمثيلية والاتحاد العام لمقاولات المغرب من جهة ثانية، والذي أفرز عددا من الإجراءات لصالح العاملين في القطاعين العام والخاص أبرزها الزيادة في الأجور، وتعزيز الحماية الاجتماعية، وتحسين مجال التشريع والحريات النقابية، ومأسسة الحوار الاجتماعي، والعمل على وضع ميثاق اجتماعي يحقق التماسك والسلم الاجتماعيين، والرفع من الحد الأدنى للأجور. إلا أن هذه الإجراءات تظل محدودة التأثير، كونها لم ترق إلى طموحات الطبقة الشغيلة، وهو ما يفسر عودة احتجاجات الأساتذة المتعاقدين والممرضين والأطباء. وبشكل عام، فإن الدخول السياسي المقبل مفتوح على كل الاحتمالات، لأنه رهين بمحطتين ذات أهمية بالغة، وهما إخراج النموذج التنموي الجديد وتنصيب اللجنة الاستشارية الخاصة به، وكذا التعديل الحكومي المرتقب المحكوم بدوره بقرب الانتخابات الجماعية والتشريعية المقبلة وتباين مواقف وطموحات مختلف الأحزاب السياسية.