إن ربط الثقافة بالصناعة يحمل مخاطر جمة بحيث أن النظر إلى الثقافة باعتبارها “منتجا” تجاريا قد يقتل الثقافة، وبالتالي فإن هناك تعارض وتناقض بين الثقافة كقيمة هوياتية وتعبيرعن حساسية خلاقة وبين الثقافة منظورا إليها باعتبارها مصدرا للتنمية في القطاعات الثقافية وفي الصناعات الثقافية. ثم هناك أيضا خطر”سلعنة” الثقافة وذلك عندما يتم الترويج الكثيف وعملية ” النمدجة” الصناعية لاعتبارات تجارية محضة ل”منتجات وخدمات” الثقافة. لكن هذه المخاطر كلها وهذا الخوف لا يبرر بتاتا ترك ” قطاعات الثقافة” في حالة من عدم التنظيم والتي لا تسمح لها بهيكلة نفسها ولا تمكين المشتغلين بها من ” الأجر” ومن ” استدامة” عملهم. *ماهي الصناعات الثقافية: تنقسم الصناعات الثقافية إلى عدة أقسام حسب مفهوم الثقافة المعتمد وحسب المبتغى الاقتصادي والاجتماعي المنشود من تحويل الثقافة إلى صناعة ثقافية. 1- مفهوم الثقافة: تعرف منظمة اليونيسكو الثقافة بالتالي: ” هي مجموع السمات المميزة، الروحية والمادية، الفكرية والعاطفية، التي تميز مجتمعا معينا أو مجموعة معينة. إنها تضم الفنون والآداب، وأنماط الحياة، والقوانين الأساسية للكائن الإنساني، ونظام القيم، والعادات والمعتقدات”. إن الإنسان يترجم ويبلور حساسيته وثقافته التي يحملها لأشكال تعبيرية وتظاهرات جمالية وفنية وثقافية متنوعة والتي تأخذ أشكالا مادية من قبيل: تحفة فنية أو أدبية أو سينمائية، صور، حفلات، تظاهرت…مجموع هذه المنتجات هي ما يسمى ب: ” منتجات وخدمات الحقل الثقافي”. طبعا هذا التحوير لمعنى الثقافة هو تحوير اختزالي بالنظر لغنى مفهوم الثقافة أدبيا وأنثروبولوجيا، لكننا هنا ننظر إليه في علاقته بالاقتصاد فقط. إن مجموع الأنشطة المساهمة في خلق، وإعادة إنتاج، ومشاركة وترويج ” منتجات وخدمات الثقافة” هي التي تعطينا مختلف الأنشطة الثقافية والتي تشكل، بما تمثله من نشاط قار أو غير قار، أساسي أو غير أساسي، من مداخيلها ومن قيمتها المضافة، مكونا أساسيا ومتفردا (قائم الذات) للدينامية الاقتصادية والاجتماعية لمجتمع معين. 2- الثقافة والتنمية المحلية: توفر الثقافة موردا هاما للتنمية المحلية، وعلى سبيل المثال فإن بلدية بلباو بإسبانيا قد شهدت إعادة انطلاقة التنمية وتطورا كبيرا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي منذ بناء متحف” كوكنهايم”، كما كان لتسجيل منطقة سان لويس بالسينغال في لائحة التراث العالمي من طرف اليونيسكو الأثر الكبير للتنمية على المستوى المحلي من خلال ازدياد عدد السياح الذين زاروا المنطقة وخاصة كنيسة سان لويس. على المستوى المغربي، كانت لنا تجارب مهمة لكن لم يتم أبدا ” نمذجتها” في إطار ” نموذج/موديل” اقتصادي قابل لإعادة استنساخه في أماكن أخرى أي قادر على تصديره وطنيا ودوليا. فقد عرفت مدينتي الصويرةوأصيلة نهضتهما الحديثة اعتمادا على الثقافة: مهرجان كناوة بالصويرة بالإضافة لتاريخها الفني المرتبط بلهيبيزم ومهرجان أصيلة الثقافي. طبعا كان وراء تجربة الصويرة المستشار الملكي السيد أندريه أزولاي ووراء تجربة أصيلة وزير الخارجية السابق السيد محمد بنعيسى وهما معا من رجالات المخزن المخلصين؛ غير أن تجربتهما تبقى ناقصة بسبب هذا المعطى نفسه، أي كونهما من رجالات المخزن. ذلك أن التاريخ لا يحمل أي آفاق واعدة للمدينتين إذا ما استحضرنا تجربة مدينة سطات مع وزير الداخلية السابق المرحوم ادريس البصري. تبقى تجربة مدينة شفشاون تجربة نوعية، فالمدينة تشهد نهضة حقيقية معتمدة على الثقافة غير أن هذه التجربة يعوزها التأطير وصوغ برنامج متكامل يتداخل فيه الثقافي المتنوع مع السياحي والطبي وتوفير البنية التحتية اللازمة وغيره… 3- أنواع الصناعات الثقافية: تنقسم الصناعات الثقافية إلى قسمين كبيرين: أ- الصناعات الإبداعية الثقافية تشمل الصناعات الثقافية الإبداعية أنواعا متعددة من الصناعات وتنطلق من الصناعات الثقافية المحض كصناعة الكتاب وترويجه ورقيا و/أو إلكترونيا، صناعة السينما والمسرح والفن التشكيلي…كما تضم أيضا الصناعات الإبداعية في المجالات الرقمية المتنوعة من صناعة الألعاب الرقمية ( تقدر قيمة هذه الصناعة على مستوى العالم ب36 مليار دولار سنويا)، ونبقى في هذا النوع من الصناعة ونقول بأن صناعة الألعاب تستفيد من الحكاية الشعبية ومن الإنتاج الأدبي الموجه لليافعين وللأطفال كما تستفيد من اللوحات التشكيلية لبناء عوالم متخيلة. كما تشمل الصناعات الثقافية الإبداعية الرسم بواسطة الحاسوب وتطوير المحتوى الرقمي العالمي وغيره. هذه الصناعات تكون موجهة أساسا أو لنقل أن المشتغلين بها وزبنائها على حد سواء، يجب أن يتمتعوا بنوع من الثقافة العصرية العالمة وتمتاز هذه الصناعات بالتالي: – أنها ذات مردودية كبيرة ؛ – لها قدرة تشغيلية مهمة سواء محليا أو للتصدير ( مطورين عبر شبكة الأنترنيت لشركات وزبائن في الخارج) ؛ – قادرة على امتصاص عطالة الشباب وخاصة المتعلم. ب- الصناعات اليدوية الثقافية: في بلد مثل بلدنا المغرب حيث التناقضات صارخة بين عالمين أو أكثر، عالم المتمدرسين وعالم الأميين مع كل التبسيط الممكن، تقدم لنا الصناعات اليدوية الثقافية إحدى الحلول الممكنة لدمج الفئات الهشة في سلك التنمية. إن الثقافة في ارتباط سواء مع الصناعات التقليدية أو فنون الطبخ أو الإيقاعات الفنية والغنائية تقدم لهاته الفئات مجموعة من المهن القادرة على دمجهم في مسار التنمية الذي لم يلتفت إليهم في السابق. إن المهن الثقافية اليدوية تختلف اختلافا جذريا عن المهن اليدوية الصرف، ذلك أن المهن اليدوية الصرف لا يكون فيها الإبداع والثقافة كمعطى أساسي في حين أن المهن اليدوية الثقافية يحضر فيه الإبداع ضرورة. لنأخذ مثالا النقش على الخشب، إن المهني يشتغل على ذات الأساليب التي تعلمها في الورشة على يد ” لمعلم” في حين أن المهني-الثقافي يسعى إلى تطوير: – شكل التصميم ؛ – تنفيذ التصميم بآليات أخرى ؛ – إدخال التكنولوجيا المعلوماتية في عملية الإنتاج والتسويق. إن حجر الزاوية في المهن اليدوية الثقافية وفي المهن الثقافية الإبداعية هو حضور الثقافي والإبداعي في عملية الإنتاج، وبالتالي فإن حجر الزاوية في كليهما هو المثقف: الشاعر، الروائي، السينمائي، المسرحي…بما يقدمونه من خيال يعمل المشتغل بالمهن الثقافية لبلورته في أشكال قابلة للترويج الاقتصادي. إن مجموع هذه المهن قادرة على خلق دينامية اقتصادية وطنيا ومحليا وقادرة أساسا على المساهمة في العلاج بالصدمة كما أشرنا إلى ذلك في المقال السابق للأعطاب التي يعاني منها المجتمع المغربي. وفي المقال القادم سنقف على أدوار الصناعات الثقافية ونفصل أكثر في أنواع الصناعات الثقافية الإبداعية و اليدوية الثقافية.