باستثناءات حزبية جد قليلة، أصبح النقاش السياسي، الحر و المنهجي المؤطر، متعذرا داخل عدد من هيئات الوساطة السياسية، و في مقراتها و عبر وسائل إعلامها، لما تعيشه من أوضاع مأساوية يميزها ضعف التأطير التنظيمي، و انحسار إشعاع خطاباتها و رداءة برامجها، و العجز عن استقطاب الطاقات و الشباب و التواصل معهم و إقناعهم بالانخراط و المشاركة، و سيادة ثقافة التضييق على الكفاءات النزيهة و شن الحروب على كل من أراد العمل و النضال باحترافية و إبداع. و بالتالي، تحولت صفحات التواصل الاجتماعي، بفضل ما تتيحه من إمكانية التعبير الحر و بدون تحفظ، إلى فضاءات جديدة للنقاس السياسي، يتفاعل فيها المواطنون مع مستجدات واقعنا السياسي و المجتمعي الوطني. و بين الحين و الآخر، تبرز سجالات قوية، بعضُها جدي و هادف يؤطره و يرعاه مثقفون و نخب شابة رصينة، و بعضها يخبطُ خبط عشواء و يتعمد خلط الأوراق، ليسير النقاش في كل الاتجاهات بدون بوصلة واضحة، و لا أفق ناجع. و الفرق هو أن النوع الأول، يسود فيه الانتقاد بغيرة على الوطن و على شبابه، و يتم التحليل بموضوعية و كفاءة، دون سب و لا كذب. أما النوع الثاني، ففيه كثير من التسفيه و ترويج الأخبار الكاذبة، و الطعن في الأشخاص، و تبخيس الأفكار دون أن تقديم بدائل أو مشاريع حلول لتجاوز الظواهر السيئة التي يتم انتقادها ليل نهار. معطيات كثيرة تجعلني أعتقد أن الغالبية من “الغاضبين” من واقعنا، هم من النوع الأولى. فيما الأقلية، فقط، هي التي تنتمي إلى النوع الثاني الذي ذكرته. لكنها أقلية مهمة و يتكاثر أفرادها، و يتميزون بشدة الحركة و الاشتغال بطريقة تنشر الإحباط، و تتعمد إغراق “الرأي العام” في بحر من المزايدات، و إشاعة مصيبة البحث عن “جهة ما، نُحملها كل المسؤولية عن مصائبنا و مشاكلنا”. بالفعل، لا يمكن أن يُنكر أحد أن هنالك فساد و ريع في عدة قطاعات، و في تدبير مؤسسات و مدن وجهات. تحدث جلالة الملك، رئيس الدولة، بنفسه عن هذا الأمر، و دعا إلى وقف ذلك و بين أن المصلحة الوطنية هي في أن ينحسر الفساد. و عليه، يتعين تطبيق القانون بصرامة و بسرعة، من طرف القائمين على الأمور، لأن المنطق الاستراتيجي لمصلحة البلاد يقتضي ذلك، و تنافسية الاقتصاد الوطني تفرض ذلك. لكن، ونحن نطالب باستعجالية التحرك، علينا أن نأخذ في الحسبان بأن ما نعيش فيه من واقع مجتمعي “لم ينزل من السماء فجأة و نحن نائمون”، بل مر عبر مراحل و تفاعلت فيه عدة عوامل أدت إلى تعقده و تكلس مظاهره بشكل جعله، حاليا، عصيا على التغيير. و بناء عليه، يجب أن نقر بأن لنا “مسؤولية مشتركة”، و لو بدرجات متفاوتة و غير متساوية، في ما وقع و في ديناميكية تصحيح الخلل. و حين يجلس كل منا، سواء النخب أو المواطن العادي، و يختلي بنفسه، ويدقق في الأمور، سيجد عشرات الأمثلة التي تؤكد أن لنا كمواطنين درجة من المسؤولية بحجم معين ولو كان بسيطا إلا أنه، في مراحل معينة، كان جد مؤثر في السياق العام. نعم، لقد بلغ سوء التدبير مستويات كبيرة، و يجب أن يتم تغيير بعض المسؤولين غير الأكفاء، و إعفاء أولائك الذين “خلدوا” في مناصب و في قطاعات تحتاج إلى دم جديد و كفاءات تستوعب تحديات يفرضها عالم 2025 و 2030. لكن، ونحن نطمح إلى رؤية وجوه جديدة في المسؤوليات، يجب أن نعترف أننا، نحن أيضا كمواطنين، بوعي أو بغير وعي، ساهمنا في تشكيل تضاريس واقعنا الذي ننتقده، و غلبنا أنانيتنا و غرورنا، و فسدت سلوكاتنا، و لم نحترم دائما أخلاقيات العيش المشترك. كما ساهمنا في الإختلالات القائمة من خلال انعزالنا عن المشاركة في الشأن العام، و مقاطعتنا لتدبير الحياة العامة، بدءا بأمور تدبير الإقامة السكنية، و مرورا بمشاكل الحي و المدينة، و بلوغا لقضايا الجهة و الوطن. و كم ترددنا في الضغط، حتى بالوسائل المؤسساتية و المشروعة و المؤطرة قانونيا، حتى أصبح التدبير العمومي لشؤوننا غير جيد و منحرف. نعم، لقد أصابتنا التخمة من كثرة التقارير التي تتحدث عن ناهبي المال العام من الميزانيات العمومية، و من ميزانيات المجالس المنتخبة، أو عبر صفقات مشبوهة، و يتعين الشروع في محاكمات عادلة، بناء على خلاصات و نتائج تقارير مختلفة. لكن، كما توجد سلوكات تستوجب ممن لهم سلطة اتخاذ القرار السياسي و القانوني و الإداري أن يتحركوا باستعجال للإصلاح و تطبيق القانون؛ هنالك أيضا سلوكات مجتمعية و فردية تستحق منا التغيير الفوري، لأننا متواطؤون في بعض ما ننتقده في واقعنا. وليس من الترف تذكير أنفسنا، بأننا متواطؤون لأن اختياراتنا كانت خاطئة لبعض مسؤولينا و منتخبينا وقياداتنا، بغض النظر عن الانتماءات، لأن “الفساد عابر للألوان و الأطياف”. و نحن متواطؤون لأننا لا نحسن ترتيب أولوياتنا المجتمعية، حتى صارت فوضوية و عبثية و بلا أفق. و نحن متواطؤون لأننا قبلنا، منذ زمن بعيد، التعايش مع “الغش” و “التدليس”، و منطق “البحث عن الغنيمة”، و سياسة “جيب الهمزة، و مايهمكش”، و لو لم تكن مشروعة و لا تحترم القانون. إذا اتفقنا على هذه النقط، إذن ليس من الأخلاق أن يتنصل الجميع من أية مسؤولية عما يجري، و نبحث عن “شماعة نُعلق عليها عيوب واقعنا”. كما ليس من العقل و المنطق ترويج الاعتقاد بأن هناك “جهة” تملك “عصا سحرية”، و أن عليها “لوحدها” أن “تُصلح لنا البلاد و العباد” بجرة قلم أو بقرارات. أليس من الجُبن و “قلة الحياء”، أن يظل البعض جالسين “ينتقدون” و هم بعيدون عن الفعل المؤسساتي و عن المشاركة الهادفة، و ينتظرون أن يتم “تصحيح الأوضاع” بقدرة قادر، و يطالبون بذلك “دابا … دابا”، و إلا يغضبون و يسفهون، و يكتبون تدوينات “ساخطة” و بدون تحفظ؟ هل ينفع في شيء أن البعض يستيقظون “منتشين و مزهويين” بما تحقق خلال الليل من “فتوحات في العالم الافتراضي”، كان فيها “فلان بطلا” لأنه كتب تدوينة و “عطاهم العصير …”، و كانت “فلانة بطلة” لأنها كتبات تدوينة و “سخسخاتهم بالكلام القاسح” ؟ بطبيعة الحال، أستثني من الانتقاد كل المواطنين الذين يعبرون، بأشكال مختلفة، بروح من المسؤولية و الغيرة الوطنية، عن تشبتهم بالحق في العيش الكريم داخل وطنهم المغرب، و يتشبثون بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المشروعة. بل علينا أن ننحني احتراما لهؤلاء و تقديرا لوطنيتهم و سعيهم للتعبير عن حاجتهم لتغيير واقعهم إلى الأفضل، من خلال التعبير بأشكال تجيزها الأعراف الديمقراطية و لا تتعارض مع قوانين بلادنا في شيء. أما الذين ينتقدون من “وراء شاشات الهواتف الذكية”، و يروجون “الهرج و المرج”، و يتعمدون “إخراج بعض الكلام عن سياقه”، و تحريفه و قراءة معانيه بحسب الهوى، و نشر الإحباط في صفوف الناس، فلن يساعدوا في تحقيق ولوج المواطنين المغاربة إلى مرحلة جديدة قوامها المسؤولية و الجدية و الكفاءة، من أجل تغيير الواقع و الحفاظ على المكتسبات الوطنية و تعزيزها. لهؤلاء أقول، أن الوطن محتاج لذكائكم و طاقاتكم الإيجابية عبر فعل مؤسساتي هادف، عوض الاستغلال السيء لجو حرية التعبير و حقوق الإنسان، في كتابة تدوينات فيها “انتقاد كل شيء” و تسفيه كل الأفكار و المقترحات، في إطار جبهة واسعة لها برنامج “سياسي” واحد هو “رمي المسؤولية على الآخر، و تحميله وزر صناعة واقع سيء، و مطالبة “جهة ما” بالتدخل لحل كل المشاكل”. لنفكر بهدوء… إذا كنا متفقين أن في المؤسسات التي ننتقد تدبيرها، و في الإدارات و المصالح العمومية، يشتغل “مواطنون منا و نحن منهم”، و أن من بينهم “جار هذا”، و “قريب هذا”، و ”صديق ذاك”، و “زوج تلك”، و “زوجة ذاك”، و “أخو ذاك”، و “أنا و أنت”… وهكذا… سلسلة من الروابط الاجتماعية التي تؤكد أننا، بدرجات متفاوتة، جزء من دينامية “واقع التدبير الفاسد، و الرشوة، و التهاون، و الاستهتار بمقام المسؤولية”. نحن معشر “سكان هذه الأرض”، نحن و بعض أصدقائنا أو أقاربنا و معارفنا، و ليس قوم آخرون أتوا من “كوكب المريخ” ليسيروا أمورنا بالنيابة عنا، منذ الاستقلال إلى الآن، و هم من أفسدوا، و هم من أخذوا الرشوة، و هم من زوروا و سرقوا، و أخلوا بقيم النزاهة و بالمسؤولية، و هم من سقطوا في فخ الإغراءات و المتعة و المصالح الشخصية، و هم من ألهتهم مصالح أسرهم و أبنائهم عن مصالح أبناء الشعب المحرومين و المهمشين، و هم من صوتوا على المرشح الفاسد، و هم من قبلوا بالبرنامج السياسي التافه، و هم من دافعوا عن المنتخب “الأمي و غير الكفؤ” و مكنوه من مناصب المسؤولية في تدبير أحزابهم و مجالس جماعاتهم و مدنهم و جهاتهم. و بالتالي، ليس معقولا أن نزكي أنفسنا و ننسى مسؤولياتنا، و نرمي باللائمة على “جهة ما”. إذا كنا متفقين على ضرورة الإصلاح و تغيير الأوضاع إلى الأفضل، أظن أن صرامة مضامين خطاب العرش لهذه السنة، يمنح بلادنا بكل مكوناتها، فرصة ذهبية لبداية مسار جديد لا مفر منه. و لذلك، من الضروري و من المستعجل أن يبادر كل منا، بحسب مجال سلطته و اختصاصاته، إلى : – تغيير قاموس القيم المجتمعية الرديئة، و إعادة العمل بقيم الاحترام و التوقير و التضامن و التآزر، و رفض العنف، و الحق في اختلاف الرأي الهادف. – رد الاعتبار للكفاءة و الاستحقاق في مناصب المسؤولية. – تغيير أساليب تدبير الموارد البشرية و تشجيع ثقافة الإبداع و التميز. – تجاوز التردد و الرداءة في مناهج التدبير العمومي، و فتح الباب أمام أفكار جديدة و أساليب عمل ناجعة تتيح شراكة وطنية جديدة بين الدولة و المجتمع، و تؤسس لعقد اجتماعي جديد. و ما دام الاتفاق قائما على أن “تجديد النموذج التنموي الوطني، ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو مدخل للمرحلة الجديدة”؛ و ما دام أن هذه “المرحلة” المأمولة و الموعودة ستكون “جديدة” لأن قوامها يجب أن يتأسس على “المسؤولية والإقلاع الشامل”؛ و ما دام أنه يراد لهذه “المرحلة الجديدة” أن تكون “واعدة” لأن “ما يزخر به المغرب من طاقات ومؤهلات، تسمح لنا بتحقيق أكثر مما أنجزناه”؛ و ما دامت “المرحلة الجديدة، التي نحن مقبلون عليها، حافلة أيضا بالعديد من التحديات والرهانات الداخلية والخارجية، التي يتعين كسبها”، إذن يجب، الآن و ليس غدا، بدأ محاربة الفساد و وقف الريع و تطبيق القانون و محاسبة ناهبي المال العام الذين أدانتهم تقارير المجلس الأعلى للحسابات و المفتشية العامة لوزارة الداخلية و المفتشية العامة لوزارة الاقتصاد و المالية. و يجب إطلاق برامج جهوبة طموحة لتأطير و إدماج الشباب اجتماعيا و اقتصاديا. لا وجود لطريق آخر يمكن أن يعيد الثقة للمواطنين، أو يمكن أن يتجلى من خلاله الوعي بجسامة المسؤولية الوطنية. و أما محترفو “التسفيه” فالمطلوب منهم أن يتحلوا بشجاعة ترك سياسة “إذهب أنت و ربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون”، و يهبوا للمساهمة في مجهود الإصلاح، و أن يفهموا أنه مجهود شاق و مُعقد يحتاج إلى الصبر و الصدق و الهدوء، و كثير من الحكمة و الابتعاد عن “لعب الدراري”، لكي نتغلب على جيوب المقاومة التي ترفض الإصلاح و تعيقه. يومها، فقط، ستنطلق المسيرة الإصلاحية و يبدأ الإقلاع الشامل. و لكن “اللي بغا كلشي يجيه بارد … و بلا تعب و بلا ثمن … لا من وقته و لا من مصالحه الصغيرة”، من الأفضل له “يشد الأرض”، و يصمت ويتأمل بوعي و موضوعية. ربما تتفتح أعينه على عمق بعض الحقائق التي لا تقال، و إنما يفهمها الأذكياء و يستنبطونها من الواقع. و على رأي المرحوم العربي باطما و مجموعة ناس الغيوان “اللي قال … ذي العصيدة باردة… يدير يديه فيها”.