أثرت في مقالي “إبقاء شعلة الأمل ضرورة مجتمعية استراتيجية”، واقع “الصخب المتعالي في مختلف شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تحلو الدردشة، والانتقاد، والحديث في كل شيء وعن كل شيء”. و قلت أن هذه الحالة تأخذ أبعادا كارثية في مناخ عام تميزه “ظاهرة الأخبار المختلقة والزائفة (Fake news)، و ممارسات إعلامية مبنية على تقنيات التسويق والترويج والإثارة، والسعي لإحداث “البوز Buzz”، عبر مخاطبة الحواس والرغبات، أكثر من مخاطبة العقل أو التعاطي مع الأفكار والقيم، واعتماد التحليل الذي يساهم في بناء الذات المجتمعية”. و أشارت إلى أن هذه الدينامية تتعزز كلما زاد “إعلاء شأن المتهافتين، عبر الإعلام العمومي أو الخاص، أكثر من السعي لإبراز أصحاب الرأي الوازنين، وأعلام الفكر، والمبدعين”. مما يؤدي إلى إعادة إنتاج شروط تعميق خطاب إعلامي مرتكز على “التسويق” وإثارة كل ما يتفاعل مع نزوعات النفس البشرية نحو المثير والخارج عن المألوف، وحتى مع التفاهة. وفي واقع بمثل هذه التجليات، يصير الغوص في الفضاء الرقمي، و تحليل ما يكتب في وسائط التواصل الاجتماعي، تجربة غنية يخرج منا المرء بملاحظات واستنتاجات كثيرة، تستدعي منا وقفة تأمل وتفكير جماعي حكيم لبحث سبل الخروج من واقع موسوم بفوضى قيمية جد مقلقة. ومن بين أهم الخلاصات التي يفرزها تحليل خطاب “المتواصلين” في الفضاء الأزرق، هو غرائبية سلوكيات أصبحت شائعة في تفاعل الناس مع بعضهم البعض، أو في تعاطيهم مع ما يبدعه البعض من تدوينات، أو يعبرون عنه من أراء، أو يتقاسمونه من مواد مكتوبة أو سمعية بصرية. حيث نلاحظ أمورا مستجدة في “أدب الحوار وأخلاقه”، و نلمس ظهور “أدبيات” هجينة يطغى عليها “عنف لفظي” مجاني، و “حشر للأنف في كل شيء بدون استئذان”، و انتقاد “أوتوماتيكي” يبين رفضا مبطنا لحق الآخر في “أن يكون له رأيه المستقل”، وحقه في التوفر على “مجال تواصلي خاص”، يعبر فيه عن أرائه دون الخشية من أن يعرضه ذلك للانتقاد من “مواطنين آخرين”. وهكذا، وأنت تكتب في صفحتك أو مدونتك الخاصة، رأيا تتفاعل من خلاله مع فكرة أو مع برنامج أو موضوع عام، و رغم حرصك على ألا تذكر أحدا باسمه، ولا أن تتهجم على شخص بعينه، صار عاديا أن يقوم بعض “المتفاعلين” بالدخول إلى فضاء “التعليقات و النقاش” على صفحتك، بدون استئذان، و بدون اعتبار لسياق التدوينة أو الرأي، و لا لأسباب وحيثيات النزول، لينطلقوا في “إنتاج” سيل من “التوصيفات الجاهزة”، المصحوبة في بعض الأحيان بعبارات “تسفيه وتحقير”، أو بداية “سب خفيف”. و قد تجد، في مكان آخر من صفحتك، شخصا لم يسبق أن تعرفت عليه بشكل مباشر، يعلق على كتاباتك بالدارجة، بدون تحية ولا مقدمات، ويقول لك : “آش هاد التخربييييق…. باراكا من النفاق… جمعوا راسكم… أ الكذابة…”. هكذا، وبدون تردد، تصير “مخربقا” و “منافقا” و كذابا”، بعد أن حكم عليك بكل هذه الصفات شخص “نكرة”، ربما تجتمع فيه “خصال” لو قسمت بين سكان المدينة لكفتهم عن اي “اعوجاج آخر”. المهم… قد يأتي أيضا “متفاعل” آخر، بكل “ثقة في النفس”، بعد أن يمنح لنفسه “شهادة الاستحقاق” التي بموجبها يأخذ “حق اعتلاء المنبر الافتراضي”، دون أن يجد أي حرج في أنه “منح هذا الحق لنفسه بنفسه”، و دون أن تتسرب إلى دواخله أدنى ذرة شك في “مشروعية” سلوكه هذا، لينطلق بعدها في انتقاد، حاد و قطعي، وغير مؤسس على أية منهجية جدال فكري، وقد يلقي بك في خانة المروق أو البدعة، إن لم يكن شيئا آخر أكبر وأخطر والعياذ بالله. وأنا أسوق هذه الحالات، يزداد يقيني أن ما أصبحنا نعيشه من سلوكيات، كمجتمع واحد ومتعدد، يبرز تجليات هشاشة مجتمعية، ترسخ حقيقة مؤسفة عن واقع ضعف الممارسة و السلوك الديمقراطي، و نسبية بالغة في قبول الاختلاف، سواء في تعاطي الأفراد فيما بينهم، أو فيما بين المؤسسات والهيئات. وهو ما يحيل إلى أن البناء الديمقراطي بمعناه الشامل، مجتمعيا ومؤسساتيا، يبقى ورشا مفتوحا لا زال في بداياته عمليا، رغم ما تحقق، ورغم الجهود المبذولة، و رغم الخطابات السياسوية. وسيبقى الهدف بعيدا وصعب المنال، لوقت طويل، إذا نحن لم نبادر إلى تحفيز انبعاث صحوة قيمية حقيقية، تُعلي مبادئ الحرية و الديمقراطية و سمو القانون و وجوب احترام الاختلاف و قبول التنوع. وكلها مبادئ كفيلة بانتشال “الذات المجتمعية” من حالة الغرق شبه الجماعي في كم التخلف، و نزوعات العنف، واستشراء القلق، وانعدام الثقة والتوجس من كل شيء. كما أنها مبادئ ستمكن من التصدي لموجات التبخيس و العدمية، و وقف انتشار الكآبة المتجلية من كل شيء، وفي كل شيء. لن يكون الأمر متاحا، إلا إذا تم، بوعي وبصيرة، بذل مجهود جماعي لتجديد العهد مع قواعد التواصل الحضاري، و إعادة بناء منظومة قيم تضبطه. ويبقى المأمول هو أن ينطلق هذا الوعي المجتمعي، خصوصا في صفوف الشباب المغربي، بتأطير من الهيئات السياسية وفعاليات المجتمع المدني الغيورة على الوطن، وتتهيئ بذلك شروط انطلاق ديناميكية مجتمعية هادفة لإبقاء شعلة الأمل المنشود في هذا الباب. في هذا المقال، اخترت المساهمة من خلال تقاسم بعض “قواعد التواصل” التي أرى أن بإمكانها أن تشكل ركائز “ميثاق أخلاقيات” نلزم به أنفسنا و نشيعه حولنا، ليضبط تفاعلنا مع بعضنا البعض في الفضاء الأزرق، و في مواقع التواصل الاجتماعي. ولا شك أن ما سأقوله يعرفه جيدا الكثيرون، و بشكل أعمق، و يستطيعون التعبير عنه ببلاغة وبيان. ولكن هو تذكير أشعر أننا في حاجة جماعية إليه. أول القواعد، تذكير النفس ببديهية أن “لكل فرد الحق في أن يحدث صفحة، أو مدونة، تكون فضاء ينشر من خلاله أراءه و كتاباته، وبعض تحليلاته بشأن قضايا الشأن العام الوطني أوالمحلي، من زوايا موضوعاتية مختلفة تستهوي تفكيره”. ثاني القواعد، احترام بديهية أخرى، هي حق الناس و حريتهم في أن يروا نصف الكأس المملوءة في واقعنا، وحقهم في إبراز ما هو جيد ومحترم يستوجب التشجيع، و تقديم يد المودة لكل من يتحرك في الخير ومن أجل الخير، بنفس وطني صادق، وإبراز الاعتزاز والافتخار بكل نقطة ضوء مشتعلة في مكان ما من أرض بلادنا، مهما صغر أو كبر شأن صاحبها، ومقارنة كل ذلك بواقع مجتمعات هي أفضل حالا منا، كما المقارنة مع واقع مجتمعات أو دول تكاد تكون في الطريق “للخروج من الجغرافيا و دخول التاريخ وذكرياته”. ثالث القواعد، احترام حق الناس في أن يروا، بواقعية وبوضوح، نصف الكأس الفارغ في واقعنا المجتمعي، و أن يعبروا عن رفضهم التضييق على المعيش اليومي لفئات واسعة تعاني من أثر سياسات عمومية مجحفة، والتنبيه إلى كل ممارسة سيئة ومتخلفة تحتاج إلى تقويم مسؤول، يقطع الطريق على أتباع “طائفة التيئيس والعدمية” المتربصين بكل “نقطة سوداء” لينفخوا بسببها في رماد الواقع، لعل النار تشتعل . رابع القواعد، احترام حق الناس في المساهمة في النقاش العمومي بتحليل يقتفي الموضوعية، بدون مغالاة ولا تحامل غير مبرر، مفعلين بذلك حقوقهم الدستورية، ومستثمرين هامش الحرية التي ينعمون بها في وطنهم المغرب. خامس القواعد، الالتزم بعدم الطعن في الأشخاص أو التشهير بأسمائهم، أو التعليق والتفاعل مع كتابات الآخرين من خلال ذكر الأسماء أو شتم أصحابها والطعن فيهم، سواء كانوا مسؤولين عموميين، أو حزبيين سياسيين، أو مفكرين و مثقفين، أو فاعلين مجتمعيين متنوعي المشارب، أو مواطنين عاديين. يقيني أنه لو تم اعتماد هذه القواعد في سلوكياتنا على مستوى فضاء وسائط التواصل الاجتماعي، سيكون من المتيسر تعزيز الحوار بين الأفراد على قاعدة البناء لا الهدم. ولا أظن اعتمادها إلا مسألة إرادة وأخلاق، وليس شيئا آخر.م ماالذي يمنع كل من صادف صفحة تواصلية لم يقتنع بما يكتبه صاحبها، أوبما يحمله من قناعات وأفكار ويدافع عنه من طروحات، أن يمنع نفسه من أن تنمو فيها “بذرة القمع التلقائي” التي تجيز الاعتقاد بحق منع “ذلك الآخر” من فعل ما يشاء في فضاءه الخاص؟ لما لا يبادر من وجد نفسه في هذه الحالة إلى إحداث صفحة جديدة، تكون خاصة به، وليكتب فيها ما شاء وكما شاء، فيما يحبه، و فيما يحمله من أفكار؟ ما الذي يمنع من كان لا يتفق مع “شخصية عمومية”، أن يضبط سلوكه تجاهها بأدب الخلاف والاختلاف؟ إن كان الخلاف فكريا خالصا، أخذ ورقة، فكتب وحلل و بسط وجهة نظره فيما يختلف فيه مع من يختلف معه. وإن كان مرد الخلاف اعتقاد بوجود حالة “انخراط في فساد”، أو “سوء تدبير بشكل فاضح”، أعد ملفا متكاملا، بالوثائق والدفوعات، وسلمه لمحكمة ذات اختصاص. فما أحدثت المحاكم إلا لتحكم بين الناس، وتجنبهم فوضى التنازع في الفضاء العام أو خارج المؤسسات. وإن كان الخلاف بشأن “فعل سياسي معين”، بادر بتسجيل نفسه في لوائح الناخبين، حتى إذا جاء وقت تقييم نتائج تدبير الشأن العام، كان بمقدوره الإدلاء بصوته، مع هذه الجهة أو ضدها. ولما لا يشارك في الحملات الانتخابية، أو ينخرط في هيئة سياسية يرتاح لبرامجها، أو يقوم بترشيح نفسه ضمن قوائمها، للمساهمة مباشرة في تدبير الشأن العام و “تغيير المنكر” و إمتاعنا بكفاءاته وملكاته الفكرية. أما إذا كان يعتقد أن “الكل فاسد”، وأن الهيئات السياسية والمنظمات والجمعيات الموجودة، لا تستجيب لتطلعاته، فليؤسس “هيئة” جديدة، هو ومن يتقاسمون معه نفس القراءة للواقع، ويمتلكون نفس الرؤية للتغيير نحو الأفضل. المهم سيكون هو، و جماعة “المنتقدين لكل شيء”، قد غادروا شاشة الحاسوب، أو باحة مقهى الحي، ليصيروا مبدعين و مساهمين، عوض التكلس في وضعية المنتقد المسترسل والسلبي. أما إن كان الخلاف بشأن “موقف تاريخي” صدر عن مسؤول ما، في ظرف ما، فالأفضل هو أن يكتب من أزعجه ذلك الموقف، أطروحة تحليلية رصينة، بمنهجية علمية تحترم ضوابط البحث التاريخي، ولينشرها تعميما للفائدة. أما إصدار الأحكام الجارحة، ونعت الناس بأوصاف لا يقبلها أي كان على نفسه، وإطلاق العنان لاتهامات جاهزة للأشخاص والمؤسسات، والجهر بالإزدراء للذين نختلف معهم، فكلها أمور يجب رفضها بشدة وعدم السماح بأن تجد لها مكانا في لائحة التدوينات و التعليقات والردود. إن إيماني مطلق بأن الاختلاف يجب أن تضبطه قواعد وضوابط أخلاقية، سواء تلك المستمدة من ثقافتنا الأصيلة، أو من ثقافات وحضارات إنسانية أخرى : التنابز بالألقاب ممنوع، والتشهير بالناس ممنوع، وذكر أمور خاصة من حياة الناس وسردها بما يكرهون، ممنوع، إلا ما كان في سياق النقاش العمومي المضبوط بمنهجية محكمة ومتفق بشأنها، بشكل لا ينتهك الحرمات و لا يعتدي على الأعراض. وأنا أقول هذا، يتفاعل في وجداني أمل كبير في أن يعي الجميع أن بلادنا في حاجة إلى كل أبنائها، بمختلف مشاربهم، طالما لم يخونوا ثوابث الوطن، ولا تآمروا عليها، ولا اقترفوا، في السر أو في العلن، ما يعارض صريح القوانين و المعتمد من الأعراف. كما أننا نحتاج لذكاء كل الكفاءات و كل الطاقات لكي نفكر جماعة في أفضل الحلول لتجاوز العجز المسجل في تدبير الشأن العام، الذي أفرز عددا كبيرا من الناس يئنون ويتألمون من تجليات فقر وعوز، ونقص تجهيزات أساسية، وقساوة الحياة، وجحود المحيط. فما علينا لتحقيق ذلك، إلا التحلي بأدب الحوار والتواصل، و قبول الاختلاف و تمايز الأراء، والتعاطي مع بعضنا البعض بالصبر والأناة، و مواجهة تحديات الواقع بصمود و مثابرة، والتزام الثقة في أنفسنا وفي الآخرين، حتى نتقدم بهدوء. أما الصراخ والصخب والسباب، والتسفيه والتشكيك والتخوين، والطعن والتشهير والنيل من الناس بدون وجه حق، وتغييب أي أفق إصلاحي جامع يبني المستقبل ولا يقصي أحدا، فلن ينفعنا في شيء لا في حاضرنا و لا في مستقبلنا. وللذي يعجبه التفاعل مع تدوينات الناس عبر تسفيه كل شيء، وطرح ذلك السؤال الشائع بالدارجة : “إيوا هاداك شنو دار لينا كاع؟”… و “هاداك غير شفار… خدام مصلحتو…!”… و”هاداك آش دار كاع للبلاد؟”… و “هاداك باغي يقضي غي صوالحو…!”، أدعوهم ليفكروا في جواب عن سؤال واحد واضح و صريح : “وأنت يا صديقي… شنو درتي للبلاد؟… وشنو درتي للناس اللي حداك…؟”. وفي انتظار تبلور أجوبة لائقة، نصيحة متواضعة مني، أنصح بها نفسي أولا، وأقدمها لذلك البعض الذي “لاشيء يعجبه”، ثانيا، و أقول بالدارجة المغربية : “سير أصاحبي دير شي حاجة زوينة كيف ما كانت… دير علاش ما قدرك الله… وراقب غير نفسك… وخلي اللي بغى يساهم في تحسين الأمور بهدوء يخدم بخاطرو… ولا تكثر إساءة الظن بالناس… ولا تبخس الناس أشياءهم!” و أختم بالتأكيد على رسوخ قناعتي أنه مهما علا صوت دعاة العدمية والتسفيه، فإننا كمغاربة، بتعدد مشاربنا الفكرية والسياسية، علينا أن نظل مفتخرين بذاتنا المجتمعية، متيقظين ومتابعين بأمل لكل ما يجري من حولنا، وعادلين مع أنفسنا ومع الآخرين، وعادلين أكثر تجاه وطننا، وأن لا نظلمه بالمغالاة في الجحود ونكران الفضل. و الأهم، هو أن لا نحمل الوطن وزر ما تفعله أيادي من يتحكمون في تدبير الشأن العام إذا هم أفسدوا فيه. فحينها يكون الوطن ضحيتهم، كما نكون نحن أيضا، كمواطنين، ضحاياهم. و لا ذنب للوطن فيما يفعله المغرضون ويكون من نتائجه المباشرة إشاعة اليأس وتشجيع إطفاء شعلة الأمل. الوطن أبقى و أنقى وأرقى وأعرق. ولثوابته الولاء، ومن أجل مستقبل مشرق لأبنائه يجب أن يكون المسعى. والله ولي التوفيق. * فاعل سياسي و متخصص في الحكامة الترابية