في يوم 8 غشت من سنة 2008، ساهم بعض أصدقائي في ميلاد فكرة جميلة تمثلت في تجربة حزبية جديدة تحت مسمى “حزب الأصالة و المعاصرة”. لم أكن حاضرا حينها، و لكن لي من المعطيات الدقيقة ما يجعلني متأكدا من أنهم أرادوا بصدق أن تكون تجربة متميزة، و أن تحقق طفرة في العمل الحزبي، يتم من خلالها تقديم “عرض سياسي” جديد يساعد في تجاوز حالة من انسداد الأفق والاحتباس و العزوف، كان البعض يتخوف من احتمال حدوثها في المشهد السياسي الوطني آنذاك. بعد أحد عشرة سنة، لست متيقنا أن أصدقائي راضون عما تحقق، كما و كيفا. بل أكاد أجزم أن العديد منهم يحملون في دواخلهم، خصوصا هذه الأيام، مرارة شديدة و حسرة كبيرة مما هو قائم منذ مدة من شنآن و خلاف، لا أحد منهم توقع تطوره بالشكل الدراماتيكي الحاد الذي تم، و لا أحد تمكن من تبرير “الصراع”، بعيدا عن الذاتية، بشكل موضوعي عميق يستند إلى اختلاف جذري حول “التصور السياسي”، أو ينطلق من “وعي طارئ و مستجد” بضرورة تعديل “الرؤية/الفكرة” أو “شكل التنظيم”. و لأن الظرف الوطني خاص جدا، و استثنائي بشكل مهيب، اعتبارا لما يطرحه من تحديات و ما يتطلبه من وعي و إدراك عميق للأولويات التي تستحق أن يتم التركيز معها؛ و رغم ما كان من أشياء لا تسر، طبعتها القسوة و الانفعال و التشكيك و الخروج بالخصام من الدوائر التنظيمية الداخلية إلى ساحات الإعلام بكل أشكاله، و كأن “مشكلهم” خطير إلى حد الاعتقاد أنه يمكن أن يهم الرأي العام الوطني، بينما حقيقة الأمر أن تجلياته “ذاتية صرفة و متمركزة حول مواقع و منافع”؛ رغم كل ذلك يحذوني أمل كبير في أن يترسخ الوعي بعبثية المشهد الذي غرقت فيه فكرة جميلة، و تتم المسارعة إلى وقف مسار الانحدار قبل محطة ارتطام بقاع مجهول المعالم. و أملي أن يحصل إدراك حقيقي بأن “الحروب الصغيرة” لا تبني المجد، و لا يمكن تبرير خسائرها و ضحاياها لا أخلاقيا و لا سياسيا و لا براجماتيا. في يوم الذكرى، يجب أن يستحضر أصدقائي أن “أصل الحكاية في الخصام” لا تستدعي ما هو قائم من جلبة و ضوضاء، و أن يعوا أن التاريخ سيحاسبهم بقسوة، و لن يحتفظ في ذاكرته إلا بمن سيبادر إلى السمو على غرور الأنا و طغيانها، و من سيضع حدا للانفعال و التوجس، و يوقف لعبة تشتيث الجهود و الطاقات، و يقوم بشجاعة بتحييد “ممتهني الفتنة و الفرقة و زرع الأحقاد”. المطلوب أن تنتصر الحكمة على ما سواها، و أن يعود الهدوء و الاحترام المستحق من الجميع، لتتأسس في ظله ثقة متجددة في الذات و في الآخر، و يتم تجاوز المشاكل بتجرد و موضوعية، خصوصا و أن مساحات الاتفاق والتغلب على المعيقات كبيرة، إذا تم اعتماد العقل و تبني خيارات إيجابية تحفظ رصيد ما سبق من البناء الجماعي، و تسمح بالتأسيس على قاعدة صلبة لما سيأتي. أكثر من أي وقت مضى، يجب التعالي عن الصغائر و التفاهات، و السير في اتجاه مستقبل يسع الجميع بدون خوف و لا توجس، وتغليب منطق التوازي بين “الطموحات” و “الكفاءة” و “الاستحقاق”، عوض منطق الولاءات و الاصطفافات، و بيع الذمم، و تغييب الضمائر، و لي عنق الحقائق، و الطعن في المخالفين بغير حق. و الأهم، هو أن يتم استحضار الواجبات و المسؤوليات تجاه أبناء الوطن، خصوصا و أن مقومات تحقيق ذلك قائمة بما هو متوفر من ذكاء فردي و كفاءة، يمكنها أن تتحول إلى ذكاء جماعي يتيح تدبيرا ديمقراطيا يبتعد بالجميع عما يسيء. كيف صعب حتى اللحظة ذلك على عزيمة أصدقائي و قد ظل نضالهم، منذ البداية، مرتكزا على الأمل في “وطن يحب كل أبناءه ويسع الجميع”…؟! يجب نبذ كل خصومة في غير خدمة قضايا الوطن الكبرى، و الوعي بان المغاربة لن يعترفوا لأي “فاعل” بما قد يحققه من “غلبة و فتوحات” في غير مصلحة عامة و أفق إصلاحي وطني هادف، لأن ذلك ببساطة جهد ضائع لا قيمة له و لا يهم المغاربة في شيء. تقدير مقام المسؤولية يقتضي من أصدقائي العودة للاهتمام بقضاء أمور المواطنين الذين وثقوا فيهم، و الذين هم الآن، و أكثر من أي وقت مضى، يحتاجون كل دقيقة و كل تفكير و ذكاء، و كل ما تراكم من تجارب و مدارك و كفاءات، و ما ترسخ من قدرات على المواكبة، حتى يخرج الناس من بؤس التهميش و الفقر، و يتغلبوا على المشاكل التي لا تحصى من حولهم. قناعتي كانت دائما، و لا تزال، هي أن أكبر عيب هو ترك المسؤوليات الحقيقية، و الانشغال بسفاسف الأمور، و بالتجاذبات المبنية على مصالح صغيرة، و إغفال واجب العدل مع الذات و مع الآخرين، و إهمال ما ينفع الناس. لذلك أتمنى عودة الرشد، و أن يتم التركيز على : 1/ جعل كل تحرك و كل جهد ينضبط لمنطق الدفاع عن ثوابت الأمة المغربية، و استحضار المصالح الاستراتيجية لدولتنا الوطنية، و تعزيز البناء الديمقراطي و الحقوقي الرصين و الهادف. 2/ بناء المستقبل بشراكة مع الجميع بدون إقصاء و لا تهميش و لا تسفيه لكل الأراء و التصورات و المبادرات الجادة، و تملك الشجاعة لتصحيح الأخطاء، و الانتصار لفكرة البدايات الجميلة. 3/ المساهمة الفعلية في رد الاعتبار للعمل السياسي المبني على حتمية تجديد النخب و القرب من المواطنين و الارتباط بتطلعاتهم، و خلق شروط عودة التوهج للديمقراطية التمثيلية، من خلال محاربة الممارسات الفاسدة، وإبداع تدابير جديدة يمكنها أن تعيد الثقة للناخبين و التواصل معهم بما يضمن حكامة ترابية جيدة، و يشجع مساهمة المواطنين في تحديد الاختيارات و السياسات و البرامج، و تتبع مسار تدبير الشان العام، محليا و جهويا و وطنيا. 4/ إعلاء مقام الكفاءات الرصينة، و توفير شروط العمل الجاد بغية بلورة تصورات فيها إبداع و تجديد و ابتكار، يمكنها أن تشكل، في المستقبل القريب، نواة سياسات عمومية بديلة تحقق: – الإدماج الاجتماعي و الكرامة للشباب؛ – تشجيع الاستثمار و المبادرة الحرة و خلق فرص الشغل؛ – عصرنة تدبير المرافق العمومية؛ – تجويد خدمات الصحة العمومية و التربية و التكوين؛ – تشجيع إعلام يثمن تنوع الثقافة المغربية و غنى روافدها، ويقطع الطريق على التفاهة و الرداءة. – تحقيق عدالة مجالية و مساواة لكل الجهات في الاستفادة من مجهود الاستثمار العمومي. على أصدقائي أن يستحضروا أن ذكاء المواطنين قادر على فضح سلوك الأشخاص و إظهار حقيقة ما يقترفون، مهما حاول البعض إخفاءها أو إظهار الفعل على غير ما هو عليه. لذلك وجب تعزيز الالتزام بالقيم و اعتماد الصدق في القول و العمل. لقد حان وقت الابتعاد عن التهافت الهدام و الخصومات الصغيرة، لتجنب خطيئة النسف الكامل لما تحقق من تراكمات و مكتسبات، و الإبقاء على حظوظ صناعة المستقبل، أو على الأقل التموقع كجزء أساسي و فاعل يمكن أن “يستحق الثقة” ليساهم، إلى جانب قوى وطنية أخرى، في تحقيق ما يتحصل به فضل خدمة الوطن و تنميته، و التصالح مع المواطن المغربي و العمل على تحقيق مصالحه و تطلعاته الحقيقية.