يعرف يوم فاتح ماي، من كل سنة، خروج جزء من عمال المغرب للاحتفال بعيدهم الأممي، كما هو الأمر في بلدان العالم. و لن يختلف المشهد كثيرا، هذه السنة، عما كان عليه الحال خلال السنوات السبع الماضية، حيث اختلط علينا النقابي و السياسي، و احتج الكل مع الكل وضد الكل، حتى فقد الناس البوصلة و لم يعودوا يستوعبون جيدا دلالات عيد عمالي يحتج فيه على “سياسات الحكومة”، و جنبا إلى جنب، العامل الكادح و الوزراء الذين يمارسون تدبير الشأن العام. و هكذا، من المنتظر أن تكون تجمعات خطابية قد نُظمت في عدة مدن، و أطرها زعماء نقابيون، أغلبهم أصبحوا “متقاعدين عن العمل” بعد “حياة مهنية” قضوا حيزا كبيرا منها في وضعية “تفرغ نقابي'. سيخطبون ليجددوا العهد على “الدفاع” عن مصالح “الكادحين و الموظفين و العمال”، وسيصفق العمال الكادحون مبتهجين بزعماءهم. و بإسم “الحق و القانون” و الحرص على “القيم المهنية النبيلة”، سيهتف “الزعماء المتقاعدون” ضد “الحكومة التي لا تتجاوب مع ملفاتهم المطلبية”. و من الأكيد، أيضا، أن السيد رئيس الحكومة و الوزراء، سواء منهم المنتمين لحزبه أو لأحزاب أخرى، سيشاركون في المسيرات العمالية، و سيركزون في كلماتهم على انتقاد “سياسات الحكومة”، و سيهتفون ضد “الفساد”، و سينددون “بالوضع المتردي الذي تعيشه الطبقة الشغيلة”، و سيطالبون “بالإصلاح”، و لا يهم إن كان إسما بدون مسمى، المهم أن نقول عنه أنه “إصلاح” و كفى. و الفرق الوحيد الذي سيسجل هذه السنة، هو أن الوزراء “المناضلين” لن يفوتهم أن يعبروا عن سعادتهم ب “الإنجاز العظيم” ليوم “25 أبريل 2019″، الذي تم فيه توقيع “اتفاق اجتماعي تاريخي”، ثلاثي الأطراف يمتد على ثلاث سنوات (2019-2021)، بين الحكومة و الاتحاد العام لمقاولات المغرب، و ثلاث نقابات عمالية. ولا شك أنكم لاحظتم كيف حاول المعنيون بالاتفاق، خلال خرجاتهم الإعلامية، تسويقه بكل الطرق لتبدو الحكومة وكأنها وجدت، أخيرا، الوصفة السحرية ليدخل المغرب مرحلة تعم فيها السعادة كل الأسر، و يدخل فيها العمال والمستخدمون في القطاع الخاص و موظفو القطاع العام، مرحلة الانتشاء بمستقبل مهني مضمون ومستوى معيشي جيد، و سلم اجتماعي راسخ، إثر “حل كل المشاكل التي ظلت عالقة منذ ثمان سنوات”، أي منذ تاريخ آخر زيادة عامة في الأجور. وليس أدل على هذا “اليقين الحكومي العجيب”، و كأنها أتت بما لم يأت به السابقون، من ما تضمنه البلاغ الرسمي، الذي جاء فيه أن “الاتفاق” سيسهم “في إرساء قواعد السلم الاجتماعي، وفي تحسين الأوضاع الاجتماعية ببلادنا، وكذا تقوية الاقتصاد الوطني من خلال مناخ اقتصادي واجتماعي سليم”. كما سيسهم في “ترسيخ وتعزيز الثقة بين الإدارة ومختلف الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين، بما يساعد على تشجيع الاستثمار وإحداث فرص الشغل لفائدة الشباب، وتنمية موارد الدولة التي ينبغي توجيهها، على وجه الخصوص، لتوفير الخدمات الأساسية من تعليم، وصحة، وسكن لفائدة مختلف الفئات الاجتماعية خاصة منها الفقيرة والهشة”. في الحقيقة، لا يحتاج الأمر إلى عناء كبير كي يبين أننا إزاء كلام فضفاض و لغة خشب لم تعد تنطلي على أحد من المواطنين، و أن ما جرى ليس سوى حلقة جديدة تؤكد من خلالها الحكومة، أنها ما تزال متشبتة بخيارها “السياسي” و نهجها “التواصلي” الذي لا يحترم ذكاء المغاربة، و لايسعى لحل مشاكلهم الحقيقية. وإلا كيف نفهم الإصرار على استبلاد الرأي العام الوطني من خلال الحديث عن “إنجاز تاريخي”، في نفس الوقت الذي تعرف فيه أهم شوارع العاصمة، كل يوم وقفات احتجاجية، و يتناوب على احتلال الفضاء العمومي المضربون والناقمون من سياسات الحكومة، و هم بالألاف؟ قبل الاسترسال في التحليل، تعالوا بنا نطلع على نص الاتفاق الموقع، و خاصة ما اعتبرته الحكومة النقطة الأبرز فيه، ألا و هي قرار “الزيادة العامة في أجور القطاع العام والحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص”. فبالنسبة لموظفي الإدارات العمومية والجماعات الترابية ومستخدمي المؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري، تقررت الزيادات في الأجر و في التعويضات العائلية، كما يلي: بالنسبة إلى المرتبين في السلاليم 6 و7 و8 و9، وكذا في الرتب من 1 إلى 5 من السلم 10 (أو ما يعادل ذلك): 200 درهم ابتداء من فاتح ماي 2019، و200 درهم في يناير 2020، و100 درهم في يناير 2021، لتكون الزيادة حينها قد بلغت 500 درهم. بالنسبة للمرتبين في الرتبة 6 من السلم 10 وما فوق: 200 درهم ابتداء من فاتح ماي 2019، و100 درهم في يناير 2020، و100 درهم في يناير 2021، لتكون الزيادة حينها قد بلغت 400 درهم. الرفع من التعويضات العائلية ب100 درهم عن كل طفل، في حدود ثلاثة أطفال ابتداء من فاتح يوليوز 2019. أما بالنسبة للقطاع الخاص، فقد تقرر ما يلي: الرفع من الحد الأدنى للأجور في قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات في القطاع الخاص (SMIG) بنسبة 5 في المائة ابتداء من يوليوز 2019، و 5 في المائة في يوليوز 2020. بمعنى أن الارتفاع سيكون قد بلغ حينها 10 في المائة، أي أقل من 260 درهم. الرفع من الحد الأدنى للأجور في القطاع الفلاحي (SMAG) بنسبة 5 في المائة ابتداء من يوليوز 2019، و5 في المائة في يوليوز 2020. بمعنى أن الارتفاع سيكون قد بلغ حينها 10 في المائة. الرفع من التعويضات العائلية ب 100 درهم عن كل طفل، في حدود ثلاثة أطفال ابتداء من فاتح يوليوز 2019. مبعث حرصي على تسطير هذه الأرقام، في هذا المقال، هو رغبتي في أن نركز مع دلالاتها، لتترسخ جيدا في الأذهان قيمتها الحقيقية، و يفهم الجميع ما سيكون لهذه “الزيادات” من أثر “تاريخي، غير مسبوق” على القدرة الشرائية للأسر المغربية المعنية بهذا “الخير العميم”. بالله عليكم، هل من بينكم من يستطيع الذهاب إلى السوق أو إلى الجزار، و في جيبه 150 أو 200 درهم، و يعود من هنالك فرحا لما مكنه هذا “المبلغ المعتبر” من شراءه؟ هل حاولتم يوما أن تأخذوا معكم 100 درهم و أنتم ذاهبون لتسديد الواجبات الشهرية في المدارس الخاصة، التي كنتم مضطرين لتسجيل أبناءكم فيها، بعد أن نسفت الحكومة السابقة و الحالية، ما تبقى من رصيد ثقة للمواطنين في المدرسة العمومية، من خلال سلسلة إجراءات لتفعيل “النظرية السياسية الخارقة” التي أنتجها لنا “ورع و زهد” السيد رئيس الحكومة السابق في قولته “السياسية الشهيرة”، من أنه قد “حان الوقت لكي ترفع الدولة يدها عن مجموعة من القطاعات الخدماتية، مثل الصحة و التعليم. فلا يجب أن تشرف على كل شيء، بل ينبغي أن يقتصر دورها على منح يد العون للقطاع الخاص الراغب في الإشراف على هذه الخدمات” ؟ اسألوا المستخدم و العامل في القطاع الصناعي أو الفلاحي، إن كان يستطيع بمبلغ 260 درهم، شهر يوليوز 2020، أن يشتري دواءه، أو أن يجري كشفا بالسكانير، في عيادة خاصة، بعد أن صار من المستحيلات تحقيق ذلك في المستشفيات العمومية، إلا بعد أشهر من انتظار الموعد؟ أصارحكم القول أنني و منذ تاريخ التوقيع على “الاتفاق الاجتماعي”، ظللت عاجزا عن كتابة كل ما تفاعل في دواخلي من أراء و تساؤلات واستنتاجات بشأنه. فآثرت أخذ مساحة من الزمن، لمعاودة قراءة بنوده و محاولة استيعاب معاني تلك “الأرقام الفلكية”، و الإطلاع على ما سيقوله المعنيون و المتخصصون، لعلي أجد تعليلات منطقية و تحاليل رصينة، أستند إليها كي أبرر لنفسي الانضمام إلى “جوقة المهللين لهذا الإنجاز التاريخي الكبير”. والله كان بودي ذلك، و لو من باب نزوعي الإنساني الذي يُلزمني بعدم إفساد الفرحة على أصحابها. لكن، و بعد مضي أسبوع كامل، لم أصادف ما من شأنه إقناعي بأن ما تم يوم 25 أبريل 2019، بين الحكومة و “حلفاءها” النقابيين، يستحق أن يسجله تاريخ الحوارات الاجتماعية ببلادنا. كيف يمكن الحديث عن “إنجاز” يحقق “السلم الاجتماعي”، من خلال اتفاق لا يشمل العاملين في القطاع غير المهيكل، في الحواضر و البوادي، و عددهم بالملايين، ناهيك عن جسش العاطلين عن العمل و الذين سيظلون على حالهم البئيس من بعد الاتفاق كما كانوا قبله ؟ هل يدري الفاعل الحكومي ما معنى “السلم الاجتماعي” وما هي شروطه تحقيقه ؟ هل هنالط عاقل يظن أنه يكفي أن تكون النقابات مُهادنة للحكومة، لا تدعو إلى إضرابات، و لا تزكي الدعوة إليها، و لا تحمي الداعين إليها، لكي يتحقق “السلم الاجتماعي” ؟ لو كان أمر السلم الاجتماعي، حالة مجتمعية تتحقق عبر منح 100 أو 200 درهم كزيادة راتب شهري، على سنتين، و على فئات من الأجراء و الموظفين، إذن لهان كل شيء، ولأمكن معالجة كل المشاكل في كل بقاع العالم و ليس فقط عندنا. لكن الأمر أكبر من ذلك بكثير. كيف أمكن للعقل الحكومي، و لضمير أغلبيته السياسية، اختزال “السلم الاجتماعي” في زيادات هزيلة في الأجور، بينما واقعنا مليء بأسباب الغضب من سياسات الحكومة و من سوء تدبيرها للشأن العام الوطني، و من حرصها على استفزاز كل شركاءها، و سوء إدارتها لمختلف الحوارات التي انخرطت فيها ؟ ألسنا في واقع موسوم بانتشار مخيف لمعاناة الشباب جراء شيوع البطالة في صفوفهم، و ازدياد الوقع النفسي المزلزل للفوارق الاجتماعية، وارتفاع منسوب العنف المجاني والجريمة و التسول في الفضاء العام، و انسداد الأفق الاقتصادي أمام المواطنين، سواء منهم العاملين أو غير العاملين، و هم بمئات الألاف؟ هل بكل تجليات ذلك الواقع سيتحقق السلم الاجتماعي ؟ بالأمس و قبل أيام فقط، فُجعت أسر كثيرة، في بادية أقاليم القنيطرة و أكادير و العرائش وغيرها، بحوادث سير عبثية ذهبت ضحيتها نساء أمهات عاملات من فقراء القوم، جراء اضطرارهن للتنقل في ظروف غير لائقة لا تراعي القوانين. فهل سيشفع لهن سعيهن لكسب قوت يومهن بما يرضي الله، لدى الحكومة الموقرة لتصرف لأيتامهن تأمينات تؤمن للباقين على قيد الحياة إمكانية العيش الكريم؟ ألم تكن تلك الضحايا عاملات فلاحيات، أو عاملات في معامل الصناعات الغذائية؟ أليس في اتفاق “الحكومة و نقاباتها” تنصيص على ضرورة مراقبة ظروف النقل المهني للمستخدمين، و احترام معايير السلامة؟ و في أي خانة نضع واقعا مؤلما تقر به الحكومة، من خلال وزيرها في التربية و التكوين و التعليم العالي و التكوين المهني، بأن بيننا قرابة 2.5 مليون شاب بين 15 و 25 سنة، لا يدرسون و لم يسبق أن درسوا، و لا يعملون ؟ هؤلاء بكل بساطة شباب لا أفق اجتماعي أو اقتصادي لهم، ولا يبدو أن قطاعا حكوميا معينا يهتم لحالهم إلى حدود الساعة. و رغم كل الطاقة الإيجابية والتفاؤل الذي أحاول دائما نشره، لا أظن أن أولائك الشباب سيكونون، يوما ما، أعضاء فاعلين لتعزيز “السلم الاجتماعي” الموعود من طرف الحكومة. نفس التحليل ينطبق على أمور أخرى، لعل أكثرها مدعاة للقلق حالات متكررة للانتحار، تم تسجيلها لشباب و نساء، ببعض الأقاليم (حالة إقليمشفشاون نموذجا)، من جراء البؤس والفقر و الاضطرابات الناتجة عن الضغط المادي الذي يئن تحت وطئته الناس. ولا أظن أن عدم مبادرة الفاعل الحكومي، لحدود الساعة، إلى التدخل لتشخيص وفهم ومعالجة أسباب هذه الظاهرة، و ظواهر أخرى مجتمعية مقيتة و مقززة، سيعزز انخراط ضحايا التهميش في تعزيز “السلم الاجتماعي”. مرة أخرى إذن، تلجأ الحكومة إلى “فدلكة” جديدة، لكن هذه المرة بمساعدة “فاعلين نقابيين” كنا نعتقد أنهم يقفون إلى جانب المواطنين في معاناتهم اليومية من جراء السياسات النيوليبرالية المتوحشة التي تنهجها الحكومة الحالية، في امتداد لما قامت به سابقتها، والتي تسعى إلى هدم كل مكتسبات الحماية الاجتماعية التي ضمنتها الدولة المغربية لمواطنيها، منذ الاستقلال. وليس مثال “صندوق المقاصة”، الذي عطلته الحكومة دون أن تستطيع تهييء واعتماد إصلاح شمولي يحقق الإنصاف وحسن تدبير الدعم العمومي للأسر المعوزة و ذات الدخل المحدود على الأقل، إلا مثالا على ذلك. في رأيي أن الحكمة كانت تقتضي من النقابات الموقعة، ألا تهرول إلى منح الحكومة “هدية غير مُستحقة” ستسوقها انتخابيا ليس إلا. اللهم إذا كان “بين القوم” تفاهمات ليستمر الوضع على ما هو عليه بعد 2021. كنت أتمنى أن تستوعب أحزاب الأغلبية، أن المنطق التاريخي الاستثنائي يفرض تصحيح المسار و معالجة كل أسباب التوجس و الشك و التشكيك، التي زرعتها الخطابات التحريضية ضد الإدارة و ضد المؤسسات و ضد القضاء، والتي انخرط فيها “البعض”، مباشرة بعد انتخابات 2011، و استمروا فيها إلى حدود أسابيع قليلة خلت. وليس تصحيح المسار ممكنا سوى عبر فتح الحكومة الباب أمام حوار حكماء، يكون شاملا و تشاركيا مع كل الفاعلين السياسيين و الاجتماعيين، بدون استثناء، في إطار تصور جديد يسعى إلى تحصين البيت المغربي ضد كل رياح الفتنة، و ضد أطماع المغرضين و خصوم النموذج المغربي، و العمل على وضع أسس عقد اجتماعي جديد، و الاشتغال بمنهجية مُبتكرة تكون فيها حكامة الحوار الاجتماعي غير خاضعة للحسابات السياسوية و لا للمزايدات. في رأيي، إن اختيار منهج حكيم كهذا، هو الذي بإمكانه أن يطلق مسار التعاطي مع قضايا تدبير الشأن العام، في كل القطاعات، على أساس سيادة القانون أولا، و ضمان شفافية تدبير المال العام، و اعتماد الكفاءة في التعيينات، و ابتكار الحلول الملائمة، و استنباط أفضل نماذج التدبير و التدخل، و تحقيق التقائية السياسات العمومية، و إعادة صياغة نموذج الاستثمار العمومي من أجل تحقيق العدالة المجالية. حينها سيكون الطريق إلى سلم اجتماعي حقيقي سالكا، لأنه سيكون مُؤسسا على ديناميكية إيجابية لحل المشاكل و ليس غض الطرف عنها، أو تسفيه أصحابها، أو الاعتقاد أن همهم هو الحصول على 200 درهم زيادة في الأجر بعد سنة، أواعتماد قاعدة “كم حاجة قضيناها بتركها” و ترك الاحتقان يتمدد و يتقوى. وفي انتظار ذلك لكل الطبقة العاملة ألف تحية و تضامن و أمل في اتفاق اجتماعي تاريخي يتم توقيعه من طرف جميع الفاعلين، و يكون امتدادا لنموذج تنموي مغربي جديد، يُعزز التنمية و يضمن شروطها في وطن يسع الجميع.