من أكثر المفاهيم التي وظفت من قبل قيادة العدالة والتنمية لتبرير القبول بإعفاء عبد الإله بنكيران من مهام تشكيل الحكومة، والقبول بالتشكيلة الحكومية بالكيفية التي خرجت بها، هو مفهوم السياق الدولي، بل إن هذا المفهوم وظف حتى في سياق النقاش الداخلي حول التمديد لبنكيران من عدمه على رأس الحزب. فما هو السياق الدولي؟ وما هي حقيقته وحدوده؟ ما المقصود بالسياق الدولي؟ يقصد بالسياق الدولي مجموع العلاقات والتفاعلات التي تحكم علاقات الدول فيما بينها، وتتأثر تلك الدول تبعا بهذه التفاعلات والعلاقات، بحيث تتأثر السياسات الداخلية والخارجية للدولة تبعا لموقعها الدولي وعلاقاتها الدولية، وتلجأ الدول لتكييف سياساتها وفقا لمصالحها الوطنية، أو تحت ضغط القوى الدولية الفاعلة من دول ومنظمات. فقد تجد دولة ما على سبيل المثال نفسها مضطرة حفاظا على مصالحها الخارجية أو تحت ضغط قوى دولية إلى نهج سياسية داخلية أو خارجية قد لا يكون صانع القرار السياسي الوطني متفق معها بالضرورة، لكنه حفاظا على مصالح الدولة يلجأ إلى انتهاجها. وفي حالتنا فقد كان المفروض –وفقا لأطروحة قيادة الحزب- التخلي عن بنكيران والقبول بحكومة سعد الدين العثماني، وذلك بحكم الواقع الدولي والإقليمي المعارض أو المتحفظ على استمرار الإسلاميين في تدبير شؤون دول المنطقة، ومنها المغرب. ويحاجج أنصار هذا الطرح بأن القبول بإعفاء بنكيران ومخرجاته هو أفضل خيار ممكن في ظل سياسة اجتثاث كل ما له علاقة بالحركة الإسلامية في الدول العربية، عوض ترك مستقبل العدالة والتنمية مفتوحا على المجهول في حال التمسك ببنكيران ورفض الحكومة بالكيفية التي شكلت بها. حقيقة وحدود السياق الدولي؟ لا أحد يمكنه المجادلة في حقيقة تأثير السياق الدولي على سياسات الدول سواء الداخلية والخارجية، وهو تأثير يختلف من بلد لآخر، تبعا لقوة البلد ومكانته الدولية، ببساطة لأن عالم اليوم أصبح عالما متشابك المصالح ومتشعب العلاقات، و لا يمكن لدولة أن تعيش في معزل عن بقية العالم؛ فنظرية السيادة المطلقة التي حكمت العلاقات بين الدول منذ معاهدة ويستفاليا سنة 1648 انتهت وتم تجاوزها، وأصبح التشبث بها اليوم صعب المنال. وتأثير السياق الدولي على سياسات الدول لا يمكن إنكاره، ولم تسلم منه حتى الدول الكبرى وذات الأنظمة الديمقراطية العريقة، فعلى سبيل المثال قام الرئيس الفرنسي الأسبق “فرانسوا ميتران” سنة 1991 تحت ضغط إيراني قوي بالعفو عن “أنيس النقاش” ومجموعة من المعتقلين معه، بالرغم من أن “النقاش” اعتقل وحكم بالمؤبد لمشاركته سنة 1980 في محاولة اغتيال رئيس وزراء إيران في عهد الشاه “شهبور بختيار”؛ وفي سويسرا قام القضاء سنة 2008 بالإفراج عن نجل القذافي “هنيبعل” وزوجته، بعد القبض عليهما بتهمة الاعتداء على خادميهما، وقد جاء الإفراج نتيجة للضغط الليبي الذي وصل حد التهديد بوقف إمدادات النفط الليبي عن سويسرا. وفي سنة 2006 قام المدعي العام البريطاني بإغلاق التحقيق في تلقي المسؤولين السعوديين لرشاوى مالية كبيرة، فيما عرف إعلاميا “بصفقة اليمامة”. وقبل أشهر قامت تركيا بإطلاق سراح قس أمريكي كان معتقلا لديها منذ محاولة الإنقلاب العسكري، نتيجة لضغوط الرئيس الأمريكي ترمب. وبالرغم من مكانة الصين الدولية إلا أنها أوقفت استيراد النفط الإيراني خوفا من العقوبات الأمريكية، والشيء نفسه فعلته اليابان والهند والعديد من الدول. فالشواهد الدولية في هذا الباب كثيرة ومتعددة، ولم تسلم منها حتى الدول الكبرى، التي تضطر إلى انتهاج سياسات معينة تنتقص من سيادتها حفاظا على مصالحها الوطنية؛ لكن الإشكال المطروح يتمثل في حدود تأثير السياق الدولي على القرار السياسي الوطني وصانعه من أنظمة وأحزاب …؛ بل إن السياق الدولي يتحول في لحظات كثيرة إلى فزاعة لتبرير مجموعة من السياسات والقرارات والتنازلات. إن أخطر خلاصة قد تستنتج من الاستحضار المكثف للسياق الدولي في النقاش حول إعفاء بنكيران من رئاسة الحكومة، وتشكيلة حكومة العثماني، وعدم التمديد لبنكيران على رأس الحزب، هو تصوير المغرب بالبلد الفاقد لاستقلاليته في اتخاذه لقراراته الوطنية، وإظهاره بمظهر الخاضع لإملاءات دول الثورة المضادة في حربها على الحركات الديمقراطية بالوطن العربي ومنها الحركات الإسلامية. وهو طرح فضلا عن خلاصاته الخطيرة، إلا أنه لا يصمد أمام أي قراءة متفحصة للتاريخ القريب للمغرب، سواء في علاقة الدولة مع القوى الديمقراطية ومن بينها الحركة الإسلامية، أو في المنهج الذي يحكم علاقات المغرب الخارجية. ففي قضية الصحراء مثلا لا يتردد المغرب في مواجهة أي خطوات تهدف لخدمة خصوم الوحدة الترابية حتى لو صدرت عن دول قوية وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية، والكل يتذكر الإجراءات التي اتخذها المغرب بعد محاولة الولاياتالمتحدة خلال عهد الرئيس أوباما توسيع مهام بعثة المينورسو لتشمل مراقبة أوضاع حقوق الإنسان بالأقاليم الجنوبية للمملكة، بوقفه تداريب أسد الصحراء المشتركة بين قوات المارينز الأمريكية والقوات المسلحة الملكية. كما انتفض المغرب في وجه فرنسا بعد توجيه مذكرة استدعاء لعبد اللطيف الحموشي من طرف القضاء الفرنسي، وهو الغضب المغربي الذي ترجم في عدة إجراءات منها وقف التعاون القضائي مع فرنسا. وتمر العلاقات المغربية بدول الثورة المضادة ممثلة في كل من الإمارات والسعودية بفتور غير مسبوق، وصل حد سحب السفراء من الرياض وأبو ظبي، ووقف مشاركة المغرب في حرب اليمن، ورفض استقبال ولي العهد السعودي، بعد تحرش البلدين بالمغرب في قضية الصحراء، ورفضه دعم حصار قطر؛ وهذا ما يضعف من حجة المستحضرين للسياق الدولي لتبرير سلسلة من الإجراءات والتنازلات التي أقدمت عليها قيادة العدالة والتنمية، ذلك أن السياق الدولي يعني فيما يعني في جزء كبير منه الضغوط السعودية الإماراتية على المغرب لوقف تجربة العدالة والتنمية. كما أن توظيف السياق الدولي بشكل مكثف واختزالي يناقض أطروحة الحزب “الخيار في ظل الاستقرار” القائمة على فرادة التجربة المغربية في التعامل مع الفاعل الإسلامي، وفي مقدمته حزب العدالة والتنمية. وقد أبان استحضار قيادة العدالة والتنمية للسياق الدولي بشكل مكثف عن قراءة سطحية وغير موضوعية لحقيقة هذا السياق، والتناقضات الرئيسية بين فاعليه الدوليين، وكمثال على ذلك نستحضر التجربة الليبيية والصراع الدائر بين أطرافها المحليين والدوليين، ففي حين تساند فرنسا خليفة حفتر وميلشياته في حربه على القوى الوطنية الديمقراطية ومن بينها القوى الإسلامية، نجد إيطاليا وألمانيا تدعم حكومة الوفاق الوطني المسنودة من قبل القوى الإسلامية. كما نستحضر تجربة قطر في تفاعلها مع الحصار الرباعي المسنود أمريكيا في بدايته، والذي كان قاب قوسين من أن يتحول لهجوم عسكري ضد الدوحة، فقد أبان السياق الدولي في هذه الأزمة عن تناقضات رئيسية بين الفاعلين الدوليين، وهو التناقض الذي مكن الدوحة من تجاوز الأزمة دون التفريط في سيادتها الوطنية والاستجابة لشروط محاصريها. ويضاف لهذا أن قراءة قيادة العدالة والتنمية ومعها أوساط كثيرة للغرب هي قراءة مختزلة، تنظر لهذا الغرب بمظهر الوحدة المتجاسنة، بالرغم من التناقضات البينة التي يحتضنها، فالغرب ليس مجرد مؤسسات رسمية وكفى، بل هو أكبر من ذلك، عبارة عن خليط متشعب من الجماعات والمؤسسات والهيآت المختلفة والمتشعبة المصالح تؤثر في صناعة القرار السياسي بالدول الغربية. ولنفترض صحة وجهة نظر قيادة العدالة والتنمية في قراءة السياق الدولي، فلماذا تأخرت تلك القيادة في فهم ذلك السياق حتى لحظة إعفاء بنكيران ونقاش الولاية الثالثة؟ فهذا التساؤل يدين تلك القيادة لفشلها في استيعاب وقراءة ذلك السياق بشكل قبلي، والتفاعل معه وفق ما يجب في لحظة 7أكتوبر 2016، عبر الاستجابة لبعض القراءات التي حذرت من تصدر الحزب لتلك الانتخابات، أو عبر استحضاره إبان فترة تعثر تشكيل حكومة بنكيران، من خلال الاستجابة لمطالب حلفاء الحزب المفترضين، عوض رفض التفاعل مع مطالبهم. وهنا لا يقبل التذرع بتحميل بنكيران المسؤولية عن تلك الفترة، ذلك أن المسؤولية هي مسؤولية قيادة الحزب بأكملها وعلى رأسها الأمانة العامة، التي كانت تجتمع بشكل شبه أسبوعي لتتبع المشاورات مع الأحزاب واتخاذ الخطوات اللازمة؛ فإما أن تلك القيادة لم تكن قادرة عن التعبير عن رأيها أمام بنكيران، وفرض توجهات مخالفة له، أو أنها كانت عاجزة عن قراءة المرحلة داخليا وخارجيا. والأمر في كلا الحالتين إدانة صريحة لتلك القيادة.