قراءة في تطور سلوك الحزب الجزأالاول بقلم عبد الحميد عماري : لقد أثارت تجربة العدالة و التنمية الكثير من النقاش بين المتخصصين و الباحثين و حتى مراكز الدراسات الأكاديمية الدولية، على اعتبار أنه الفاعل الإسلامي الوحيد في المنطقة العربية الذي استطاع الوصول إلى مركز القرار المتاح بضوء أخضر من النظام الموجود، من غير احتجاجات و لا اضطرابات اجتماعية قوية كانت ستؤدي إلى تغيير النظام القائم أو زعزعة استقراره . و أدى هذا النقاش إلى تكوين أطروحتين أو رؤيتين لتبرير وصول حزب إسلامي إلى قيادة العمل الحكومي و الحصول على السلطة التنفيذية - رغم كل الملاحظات على طبيعة هذه السلطة على المستوى الدستوري حيث تنحصر أهم اختصاصاتها في يد المؤسسة الملكية الغير منتخبة-، في ظل سياق إقليمي تميز بالتعنت و الاصطدام في قبول الإسلاميين : الأطروحة الأولى ترى أن النظام الحاكم ممثلا في المؤسسة الملكية دشن إصلاحا حقيقيا و استبق مآل احتجاجات الربيع العربي ، و أعطى بذلك للإرادة الشعبية الحق في الاختيار، فمنحت هذه الإرادة- رغم ضعفها العددي- للعدالة و التنمية حق قيادة الحكومة. الأطروحة الثانية يرى أصحابها أن العملية ككل مجرد مناورات و التفاف على التغيير الحقيقي الذي طالب به الشارع المغربي ، و وجدت هذه المناورات قوى سياسية انتهازية و أخرى مستسلمة ، اغتنمت الفرصة من أجل الحصول على الامتيازات و إعطاء رسائل الطمأنة للمؤسسة الملكية عبر الانحياز و مباركة كل خطوات عملية هذا الالتفاف و من أبرز هذه القوى حزب العدالة و التنمية الإسلامي المرجعية، فما كان أمام النظام إلا السماح لهذا الحزب بقيادة الحكومة تجاوزا للاحتجاج الشعبي و مناورة له. غير أن ما لاحظه مختلف الفاعلون المتتبعون لسلوك الحزب بعد وصوله إلى السلطة يؤكد أن حزب العدالة و التنمية ناقض بشكل كبير ممارسته التي ميزته عندما كان في المعارضة، حيث أننا أمام حزب استطاع أن يتخلى عن كثير من مواقفه التاريخية و خالف مجموعة من التزاماته السابقة ، وتساهل في عملية تطبيعه مع الفساد و الاستبداد لدرجة أن الملاحظ لا يميز بين سلوكه و مواقفه و بين سلوك و مواقف البنية الاستبدادية القائمة في البلاد . و هذا يعطي قناعة واضحة أن الحزب بعد وصوله إلى الحكومة ليس هو نفسه الحزب الذي كان في المعارضة . و هذا التغير السريع و المفاجئ في سلوك الحزب يستلزم الدراسة و التحليل الدقيقين من أجل معرفة الأسباب التي تجعل الكرة تعاد و بنفس السيناريوهات تقريبا مع قوى سياسية كثيرة و متنوعة و في فترات متباينة ، حيث ينقلب الفاعل السياسي من حالة الوفاء للنضال و للالتزامات التاريخية التي أوجدته و ساهمت في تبلور مشروعه إلى حالة التنكر لهذا النضال ولمختلف الالتزامات و المبادئ المؤسسة (أمثلة حزب الاستقلال ، الاتحاد و الاشتراكي ...) . لهذا يأتي هذا المقال كمحاولة لتسليط الضوء على سلوك يميز الفاعل السياسي داخل الحقل الرسمي. من خلال نموذج تجربة حزب العدالة و التنمية المغربي . و ذلك عبر وصف تجليات هذا السلوك خلال فترتين : فترة المعارضة وفترة الحكم في دولة تمنح صلاحيات محدودة جدا للفاعل المنتخب . يكون الهدف من هذه المحاولة توضيح إشكالية مبدئية لغرض فهم تحرك الفاعل السياسي من داخل اللعبة الرسمية و الإجابة بالتالي عن سؤال أساسي مفاده هل نحن أمام فاعلين سياسيين أرغمتهم الظروف الموضوعية - التي يتحكم في تفاصيلها النظام المخزني - على التنازل عن بعض المواقف أم أننا أمام أحزاب هي في العمق جزء من بنية النظام القائم ؟. للإجابة عن هذا السؤال عمدنا في محاولتنا هذه أن نربط ثلاثة عناصر نعتبرها أساسية بقصد الخروج بخلاصات و نتائج علمية و موضوعية تستطيع فهم الإشكالية قيد الدرس : العنصر الأول متعلق بتاريخ الحزب و مبادئه، و الثاني متعلق بمواقف الحزب خلال فترة الحراك الشعبي الذي قادته حركة 20 فبراير ، العنصر الثالث آنية سلوك الحزب بعد قيادته للتحالف الحكومي. ثم نخلص في الأخير إلى تفسير علاقة النظام الحاكم بالفاعل الحزبي من خلال نموذج حزب العدالة و التنمية . 1 – حزب العدالة و التنمية قبل أحداث الربيع العربي و ولاءه لدولة المخزن : مع انتهاء الشبيبة الإسلامية و حلها أواخر السبعينيات. ظهرت مجموعات منحدرة منها ، حاولت أن تجدد الخطاب و تتبرأ من كل الاتهامات التي ألصقت بالحركة الأم. هاته المجموعات ستحمل على عاتقها محاولة إعادة ثقة النظام القائم تجاه الإسلاميين. تبلورت إرادة تعميق هذه الثقة بين النظام و هؤلاء الإسلاميين من خلال مجموعة من الإجراءات المتبادلة أهمها فتح "الجماعة الإسلامية" حوارا مع وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية و كذلك الموقف الإيجابي الذي أعلنته من التعديلات الدستورية في بداية التسعينات ، و قد رد النظام بدوره على هذه المبادرات بدعوة هؤلاء الإسلاميين إلى دورات الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية كإشارة لتغير نظرة القصر في قبول هذا التيار. توحدت بعض هذه المجموعات في قوى إسلامية أكثر تنظيما و حضورا ك"منظمة العمل الإسلامي" و "حركة الإصلاح و التجديد" ، و أبانت هاتين القوتين الإسلاميتين بالضبط عن رغبتهما في الانضمام إلى الحياة السياسية الرسمية بعد ما أسماه قادة الحركتين مراجعات للاختيارات و المواقف من آليات التغيير و الإصلاح . ابتدأت هذه الرغبة بطلب ترخيص بتأسيس حزب رسمي ، قوبل هذا الطلب بالرفض من الدولة . تلت ذلك محاولات الانضمام إلى أحزاب مؤسَّسة من قبل، كحزب "الاستقلال" و "حزب الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية" الذي كان شبه متوقف يقوده عبد الكريم الخطيب رجل القصر. نجح هذا الأخير في فتح أبوابه بشروط أهمها القبول بالملكية الدستورية و بإمارة المؤمنين. و توِّج ذلك بإدخال بعض قيادة الحركتين إلى الأمانة العامة للحزب في المؤتمر الاستثنائي المنعقد سنة 1996 . تطور أداء الحزب فيما بعد الانتخابات التشريعية لسنة 1997، حيث سيحصد في انتخابات 2002 على 42 مقعد في البرلمان بعد تغييره للاسم إلى العدالة و التنمية . هذه النتائج أعطت مؤشرا على الاكتساح الذي صار يتهدد المؤسسة البرلمانية من طرف هذا الحزب، و الذي حدا بالدولة إلى نهج جديد أكثر اصطداما مع الحزب خوفا من هيمنة العدالة و التنمية على مفاصل الدولة المنتخبة، خصوصا بعد التوجه الذي بنا عليه مواقفه انطلاقا من كونه مدافعا عن الشرعية الدينية ، ثم من خلال مواقفه الآنية التي واجه بها كثيرا من القضايا و التي عبر عن بعضها سواء في الوثائق المقدمة إلى المؤتمر الاستثنائي أو من خلال البرنامج الانتخابي للحزب خلال انتخابات 2002 أو من خلال موقفه من "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية". بدت هذه الحملة واضحة على الحزب بعد تحميله للمسؤولية المعنوية عن تفجيرات 16 ماي 2003 ، تجذرت هذه الحملة بفتح نقاش على مستوى الدولة بحل الحزب لدرجة أنه عرض كنقطة على جدول أعمال لقاء حكومي . بعد ذلك صارت الحملة المغرضة وسيلة للضغط على الحزب و جناحه الدعوي التوحيد و الإصلاح من أجل تقديم تنازلات على مستوى الخطاب و الممارسة . و قد تم ذلك عبر إزاحة الدكتور أحمد الريسوني من قيادة الجناح الدعوي و تنازل الحزب عن تقديم مرشحين للانتخابات التشريعية في كثير من المدن و القرى سواء في الانتخابات الجماعية أو التشريعية لسنة 2007 ، مما سمح بكبح اكتساح الحزب للانتخابات التشريعية ، أو من خلال التصورات التي بلورها الحزب خصوصا بعد مؤتمره الرابع سنة 2004 و التي حاول من خلالها التملص أكثر من المرجعية الإسلامية. في الانتخابات الجماعية لسنة 2009 استطاع حزب الدولة الذي أسس قبيل هذه الانتخابات بسنة تقريبا أن يحصل على نتائج خيالية عبر آليات التزوير و الابتزاز و شراء الذمم و كذلك من خلال دعم الدولة ، زعزعت هذه النتائج قناعات كثير ممن راهن على وعود العهد الجديد ، حاولت هذه النتائج التمهيد لرغبة المخزن في السيطرة على مفاصل الدولة و سد الطريق أمام أي فاعل قد يشكل تهديدا لمصالح المخزن ، و قد صاحب هذا التوسع لحزب الدولة حملة تشهير و ضغط كبيرة تعرض لها حزب العدالة و التنمية ختمت بحملة الاعتقالات التي طالت قيادات و كوادر للحزب قبيل نهاية 2010 ، دون أن ننسى السياق العام الذي تميز بمحاربة الفاعل الإسلامي بصفة عامة داخل المغرب (حل حزب البديل الحضاري ، حملة التضييق على جماعة العدل و الإحسان، اعتقال قيادات إسلامية كالمرواني و المعتصم وغيرهم).... لكن في كل الأحداث التي جرت للحزب في مرحلة التأسيس و البناء و التوسع ، ينبغي أن نشير إلى أن مواقف الحزب و دراعه الدعوي من كل ما تعرض له كانت مواقف لا ترقى إلى مستوى الفاعل السياسي المستقل و الصامد ، و عوض ذلك قدم تنازلات أضرت بموقع الحزب و رؤيته و تعاقده . فإن سلمنا بأن مرحلة التأسيس مرحلة بالضرورة تراكم أخطاء، و تتجاوزها التجربة بالمراجعة و الاستدراك، و تشفع فيها الإرادة و الغاية، فإن مرحلة البناء و التوسع تميزت بوضوح الخط و نضج الفكر مما يجعل المواقف نابعة عن تصورات و قناعات مبدئية يمكن من خلالها قراءة التوجهات العامة للحزب و رؤيته لمختلف القضايا و الأحداث و حتى للفاعلين . و من خلال ما سبق نميز في هذا الصدد أن حزب العدالة و التنمية بتاريخ قيادته وتجربة كوادره و كثرة تنازله يؤكد أنه حزب استطاع المخزن أن يضمن احتواءه، و حتى في اختيار الحزب لمواقفه فإن الحزب يعطي قاعدة لازمة له أنه بطبيعته مساير لإرادة النظام، و مبارك لخطواته، و مستسلم لضغطه و ابتزازه ، ير قادر على تجاوز المسموح به . و يؤكد قاعدة ثانية مبدأها أن الاستبداد لا يفرق في استبداده بين الموالي له و المعارض له و ذلك ما قد يفسر تقلبات النظام في مواقفه من حزب العدالة و التنمية عبر مختلف الفترات. إننا أمام خلاصة تستلزم القول بأن حزب العدالة و التنمية أعطى ولاءه خلال مختلف مراحل تأسيسه و تطوره لدولة المخزن. ( يتبع...) في 14/03/2014