- تجربة المغرب "" إذا جاز لنا توصيف العلاقة بين الإسلاميين واليسار في المغرب، يمكننا القول إنها مرت بثلاث مراحل أساسية: مرحلة التصادم والمواجهة، مرحلة التعايش وتراجع اللجوء إلى العنف، ومرحلة العمل المشترك. I مرحلة التصادم والمواجهة : لقد اتسمت هذه المرحلة بالصراع والمواجهة، حيث ظهر الإسلاميون كقوة صاعدة في مواجهة اليسار، الذي كان في ذلك الوقت يقود صراعا مفتوحا مع النظام، كما كان يهيمن على مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية المحسوبة على ما يعرف ب"الحقل السياسي المضاد". • ولذلك، فقد بدت مواجهة القوى الإسلامية لليسار، وكأنها تجسيد لتواطؤ مع النظام، أو لنقل أنها كانت تخوض حربا بالوكالة لصالحه. وقد برز هذا المعطى بشكل واضح في قضية اغتيال القيادي الاتحادي عمر بنجلون سنة 1975، الذي كان من أشد المعارضين للنظام، وليس للإسلاميين، ومع ذلك كانت "أيدي إسلامية"، ممثلة في عناصر من "الشبيبة الإسلامية"، هي من نفذت الجريمة في حقه. • ولست في حاجة هنا إلى القول أن مثل هذه التجربة شهدتها بلدان عربية وإسلامية أخرى، حيث تواطؤ الإسلاميون مع الأنظمة الحاكمة ضد قوى اليسار. وربما كان الاستثناء الوحيد، الذي يثبت العكس، هو الذي مثلته التجربة التونسية، حين اصطف اليسار بجانب النظام ضد الإسلاميين خلال الفترة التي أعقبت ما يعرف في تونس ب"انقلاب الشهادة الطبية". II مرحلة التعايش وتراجع اللجوء إلى العنف : بعد مرحلة التصادم، التي امتدت إلى أواسط التسعينيات، ووجدت في الحقل الجامعي ساحتها الرئيسية، دشنت علاقة الإسلاميين باليسار مرحلة جديدة في مسارهما. هي التي يمكن تسميتها ب"مرحلة التعايش"، حيث أخذت تظهر بعض معالم التقارب بين الطرفين. وقد ارتبط ذلك بعدد من العوامل يمكن حصرها في ما يلي: • ظهور مراجعات فكرية وإيديولوجية في صفوف بعض التنظيمات الإسلامية. والمقصود هنا بالتحديد "البديل الحضاري" و"الحركة من أجل الأمة". حيث ظهرت تحليلات من داخل اليسار نفسه تتحدث عن "اليسار الإسلامي"، مستلهمة في ذلك بعض المفاهيم التي تبلورت في المشرق العربي، وتحديدا في مصر. • سعي بعض التنظيمات الإسلامية إلى الخروج من دائرة العمل السري إلى دائرة العمل العلني. والخروج بالتالي من "الحقل السياسي المضاد" إلى "الحقل السياسي الشرعي". كما تجلى ذلك في بداية التسعينيات من خلال محاولتين فاشلتين لتأسيس "حزب إسلامي". الأولى، كانت بمبادرة من عبد الإله بنكيران، أحد الأعضاء السابقين بتنظيم "الشبيبة الإسلامية" والأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية، الذي تقدم بطلب تأسيس حزب "التجديد الوطني". والثانية كانت بمبادرة من لحسن الداودي، عضو الأمانة العامة للعداة والتنمية في الوقت الحاضر، الذي تقدم بطلب تأسيس حزب "الوحدة والتنمية". وهو المطلب الذي سيتحقق انطلاقا من سنة 1996، حين تمكن الإسلاميون من تأسيس أول حزب لهم بعد الاندماج في حزب قديم هو"الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية" بزعامة الدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي سيغير اسمه بعد ذلك إلى "العدالة والتنمية". • بروز مراجعات فكرية وإيديولوجية في صفوف اليسار أيضا، خاصة بعد أن عادت برلين إلى برين وألمانيا إلى ألمانيا. وظهر ذلك، بصفة خاصة، في صفوف بعض المعتقلين السابقين من قيادات ما كان يعرف في المغرب ب"اليسار الجديد" أو "اليسار الماركسي". وهذه المراجعات، إذا كانت قد مست جوانب متعددة من أطروحات اليسار السابقة، فإنها حاولت إعادة النظر في رؤية هذا اليسار للمسألة الدينية ودورها في المجتمع. سيما بعد أن ظل اليسار، وتحديدا الجدري منه، يناهض كل ما هو ديني ويعتبره رجعيا وظلاميا، متأثرا في ذلك بالنموذج العلماني الفرنسي. إذ في محاججة الإسلاميين احتاج اليسار هو الآخر لتوظيف المرجعية الدينية نفسها ليقدم منها ما يعتبره دينا متنورا ومناضلا. باختصار، فإن "اليسار لم يعد منشغلا بقتل الله"، كما يقول أحد الباحثين. • الانفتاح النسبي الذي بدأت تعرفه الحياة السياسية المغربية انطلاقا من بداية التسعينيات. حيث أخذ النظام، المطوق بالتغيرات التي حصلت على المستوى العالمي، والمهدد ب"السكتة القلبية" على المستوى الاقتصادي، والمنشغل بمرض قائد سفينته (الملك الحسن الثاني)، وما يفرضه ذلك من ضرورات تهيئ الظروف لانتقال سلسل للعرش، يهتم أكثر بأولية إشراك المعارضة، وخاصة اليسارية منها، في تدبير شؤون البلاد. • وقد تجسد هذا التعايش بين الإسلاميين واليسار في عدد من المجالات، يمكن تحديدها كالتالي: حوارات ثنائية وجماعية بين إسلاميين ويساريين، بعضها كانت الصحافة فضاء له وبعضها الآخر برز في فضاءات أخرى. وهنا يمكن أن نستحضر سلسلة الحوارات التي جرت في مستهل التسعينيات من القرن الماضي بين أحد المعتقلين الإسلاميين وبين الكاتب العام للشبيبة الاتحادية (منظمة شبابية تابعة للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) في ذلك الوقت . كما يمكن أن نستحضر سلسلة الحوارات التي تمت في منتصف التسعينيات بين الطلبة الاتحاديون (طلبة الاتحاد الاشتراكي) وطلبة جماعة العدل والإحسان واحتضنها المقر الوطني للشبيبة الاتحادية بالرباط. دعوات صريحة من إسلاميين ويساريين لمباشرة حوار بين الطرفين. وهنا نستحضر فكرة "القطب الديمقراطي" التي حاول تجسيدها بعض قدامى "اليسار الماركسي"، وبصفة خاصة الرئيس الحالي للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان أحمد حرزني، مع "اليسار الإسلامي"، ممثلا في "البديل الحضاري" و"الحركة من أجل الأمة". كما يمكن استحضار مواقف منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي تعد امتدادا لمنظمة 23 مارس الماركسية ، في غيرها. فضلا عن الدعوات المفتوحة للحوار التي أخذت تطلقها جماعة العدل والإحسان في السنوات الأخيرة، وإن كانت في كل مرة تجابه بمقاطعة من وجهت إليهم. III مرحلة العمل المشترك : خلال هذه المرحلة، التي يمكن تحديدها زمنيا من 1998 إلى 2007، انتقلت العلاقة بين اليساريين والإسلاميين إلى مرحلة جديدة أخذت تبرز فيها بعض المبادرات المشتركة. تجسدت، على الخصوص، فيما يلي: • مواقف سياسية إسلامية مساندة لليسار. وهنا يحضر موقف "المساندة النقدية" الذي عبر عنه حزب العدالة والتنمية لحكومة الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي في نهاية التسعينيات. وهي المساندة التي دامت أزيد من سنتين. * مواقف يسارية مساندة للإسلاميين. وهنا تحضر أربعة قضايا أساسية: - الأولى، تتجلى في الدعم الذي لقيه كل من "حزب البديل الحضاري" و"الحركة من أجل الأمة" في معركتهما من أجل اكتساب الشرعية القانونية. ولا أدل على ذلك من أن الحزبين معا عقدا مؤتمريهما بمقر حزب يساري (الحزب الاشتراكي الموحد) بعد أن رفضت وزارة الداخلية الترخيص لهما باستعمال إحدى القاعات العمومية. كما أن لجنة مساندتهما كانت تتكون في أغلبيتها من نشطاء يساريين. - الثانية، تتمثل في المساندة التي لقيها حزب العدالة والتنمية، ضد الدعوات المطالبة بحله بعد تفجيرات الدارالبيضاء في 16 ماي 2003. حيث عبرت تنظيمات يسارية ومنظمات حقوقية قريبة من اليسار عن مواقف مناهضة لهذا الحل ، ولمختلف التجاوزات التي ارتكبت ضد الإسلاميين بعد هذه الأحداث. - الثالثة، تتحدد في وجود يساريين ضمن لجنة المطالبة بإطلاق سراج بعض المعتقلين المحسوبين على "السلفية الجهادية"، وبصفة خاصة أولئك الذين لم تقدم ضدهم أدلة ثابتة على تورطهم في أعمال إرهابية أو في التحريض على مثل هذه الأعمال . - الرابعة، تهم المساندة التي لقيها "حزب الأمة" وحزب "البديل الحضاري"، بعد أن تم اللجوء إلى حلهما واعتقال قياديين بهما بدعوى انتمائهم إلى خلية إرهابية كانت تخطط للقيام بأعمال تخريبية في المغرب (خلية بلعيرج). وهي القضية التي لا تزال تفاعلاتها جارية في المغرب حتى يومنا هذا. ذلك أن منسق أعمال لجنة التضامن ينتمي لصفوف اليسار، وكذلك الأمر بالنسبة لمنسق هيأة الدفاع. • مبادرات وتنسيقات مشتركة، كما يتجلى ذلك بصفة أساسية في التضامن مع القضايا القومية، يحث يوجد اليسار جنبا إلى جنب مع الإسلاميين في إطارات مشتركة، كمجموعة العمل الوطنية لدعم فلسطين والعراق، والمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي. • غير أن هذه المبادرات المشتركة لم تمنع من وجود صدام بين الطرفين، برز، بصفة خاصة، في محطتين أساسيتين: المحطة الأولى، ارتبطت بطرح الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية. إذ عندما طرحت هذه الخطة من طرف حكومة الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي وجدت معارضة شديدة من طرف الإسلاميين، وبدرجة أكبر حزب العدالة والتنمية. وأدت هذه المعارضة إلى مواجهة مفتوحة بين الطرفين حاول خلالها كل منهما توظيف الشارع لصالحه. فنظمت مسيرة مؤيدة للخطة يوم 10 مارس 2000 بالرباط بينما نظمت مسيرة مناهضة لها يوم 12 مارس من نفس السنة بالدارالبيضاء. ولم يحسم هذا الصراع إلا بتدخل الملك، الذي سحب البساط من الجميع حين أعلن عن تشكيل لجنة خاصة أنيطت بها مهمة تعديل مدونة الأحوال الشخصية. وهي اللجنة التي تمت المصادقة بالإجماع على نتائجها من طرف جميع مكونات البرلمان. أما المحطة الثانية، فقد ارتبطت بالتفجيرات التي كانت الدارالبيضاء مسرحا لها يوم 16 ماي 2003. حيث أصطف بعض اليساريين، ومنهم وزراء يمثلون حزب الاتحاد الاشتراكي، جهات داخل النظام في المطالبة بحل حزب العدالة والتنمية بدعوى أنه "يتحمل المسؤوية المعنوية" فيما حصل. ولم تهدأ هذه الحملة المضادة للحزب المذكور إلا بعد أن اضطر هذا الأخير إلى تقديم بعض التنازلات السياسية. • لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن يتعلق بما إذا كان من الممكن تصور أن ينتقل هذا العمل المشترك إلى مرحلة أخرى جد متقدمة. ما يعطي لهذا السؤال مشروعية طرحه هو هذه الدعوات التي ارتفعت في الفترة الأخيرة مبشرة بإمكانية التحالف بين الاتحاد الاشتراكي (حزب يساري) والعدالة والتنمية (حزب إسلامي) • وفي تقديري أن مثل هذه الإمكانية لا تزال متعذرة، على الأقل في الوقت الراهن، وهناك أكثر من سبب يوضح ذلك: - أن دعوات التحالف بين العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي سرعان ما فترت وظهر أنها كانت مجرد دعوات ظرفية ارتبطت بصفة خاصة بنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث كان الحزبين معا من أكبر الخاسرين فيها. فالعدالة والتنمية لم يستطع احتلال الرتبة الأولى التي كانت تتنبأ بها مختلف استطلاعات الرأي الدولية التي أنجزت قبل الانتخابات. واستثني من المشاركة في الحكومة التي ضمت تحالفا من الأحزاب بقيادة حزب الاستقلال ومشاركة حزب الاتحاد الاشتراكي. أما هذا الأخير، الذي قاد ما يعرف بتجربة "التناوب" منذ انطلاقتها في 14 مارس 1998 وظل منذ 1993 يتصدر قائمة الأحزاب السياسية من حيث عدد المقاعد في الانتخابات التشريعية المباشرة، فقد قذفت به نتائج انتخابات 7 شتنبر 2007 إلى المرتبة الخامسة. ولذلك، فقد ظهرت تلك الدعوات كرد فعل أكثر منها تعبيرا عن قناعة و"نضج" في المواقف السياسية، فضلا عن أنها لم تكن، على الأقل بالنسبة للاتحاد الاشتراكي، صادرة عن موقف رسمي لقيادة الحزب وإنما عن بعض القياديين به، الذين لم يتمكنوا من الفوز في الانتخابات أو لم يتم اختيارهم ضمن قائمة المستوزرين باسم جزبهم. - أن الإسلامين هم أنفسهم ليسوا كتلة واحدة، بل لهم تصورات ورؤى ومواقف مختلفة من عدد من القضايا. فهناك المشارك في اللعبة السياسية وهناك الموجود على هامشها. وهناك من يدافع عن إمارة المؤمنين وهناك من يناهضها. وهناك من يدعو إلى "السلم السياسي" مع الدولة وهناك من يطالب بالتصعيد. - وكذلك الأمر، فإن اليسار ليس واحدا. بل تتجاذبه تيارات وتنظيمات عديدة. بعضها يشارك في الحكومة وبعضها الآخر يعمل من خارجها. بعضها يقبل الحوار مع الإسلاميين وبعضها يرفضه... -التخوف من رد الفعل الذي يمكن أن يكون للنظام في حالة قيام هذا التحالف. إذ هناك ما يشبه الحرص المشترك لبعض الإسلاميين ولبعض اليساريين، على حد سواء، على عد الإقدام على أية مبادرة من شأنها أن تزعج الملك. بل إنهما يلتقيان أحيانا في بعض مواقفهما وسلوكاتهما السياسية في تعضيد سلطات الملكية. كما يدل على ذلك سعيهما معا لتكريس سلطاتها المطلقة عبر دعم "مؤسسة إمارة المؤمنين. - وجود بعض اليساريين الذين يؤمنون بأن الإسلاميين هم النقيض الرئيسي الذي تجب مواجهته. ولذلك فقد تحمس بعضهم للفكرة التي تم الترويج لها في محيط النظام حول إمكانية خلق "جبهة مقدسة" ضد الإسلاميين. ولا أظن أن تأسيس "حزب الأصالة والمعاصرة"، بزعامة أحد أقرب المقربين للملك محمد السادس، وبمشاركة يساريين سابقين، يخرج عن هذه الفكرة. - وجود قضايا خلافية كبرى غير محسومة في ساحة النقاش بين الطرفين. من قبيل علاقة الدين بالسياسة ومفهوم الديمقراطية، وقضايا المرأة والفن... أستاذ جامعي وصحفي