انطلق ”ولسن” في كتابه ” الحكومة الدستورية في الولاياتالمتحدة ” محاولا تعريف الحكومة الدستورية من اعتبار أن الحكومة لا تعتبر دستورية بمنطق أنها تدار حسب مواد دستورية مقررة ومعروفة، فدستور روسيا حتى بداية القرن العشرين كان مكتوبا ومع ذلك لم يغير شيئا من الصفات الجوهرية لسلطة القيصر غير المحددة، ولذا فالمقصود بالحكومة الدستورية أن تكون سلطتها موافقة لمصالح رعيتها والمحافظة على حرية الفرد … ”. وظهرت ” الحكومة الدستورية المقيدة ” بهذا المعنى، لأول مرة في 15 يونيو 1205 في ” رانيميد ”، عندما قام أشراف انجلترا بالاحتجاج والتمرد وتهديد الملك ”جون” بشق عصا الطاعة عليه إن لم يمتثل لمطالبهم. وما كان للملك آنذاك إلا أن يمتثل ويوقع أول وأعظم قانون في تاريخ انجلترا الدستوري، ويمكن اعتبار هذه الحادثة المشهودة في ” اتفاق ماغنا كارتا ” بأنها جمعت بين الوجهتين النظرية والعملية التي ينشدها المحتجين في تلك المرحلة. كان هذا ابتداء ” ظاهرة الاحتجاج في التأسيس للحكومة الدستورية المقيدة ”، وهذه الحادثة تظهر طبيعة تلك الحكومة في أبسط تكوين لها، فهناك في ” رانيميد ” الانجليزية وصل أناس، والذين لم يعرفوا يوما معنى الحرية السياسية، إلى تفاهم مقرر رسمي مع حكامهم وأسسوا على أساس راسخ هذا النوع المحبوب من الحكومة الذي نطلق عليه اليوم كلمة ” دستوري ”، وذلك لجعل هذه الحكومة آلة لجلب الخير العام بدلا من مولى مستبد جائر يفعل كما يتراءى له، وعلى الأخص لغرض صيانة حرية الفرد. ولتجارب الدول والشعوب الأوربية الأخرى، وللنظم المتولدة عن الثورة الفرنسية أو عن الوحدة الألمانية أو عن حركة التحرر والتوحيد الايطالية، مما جرى كله من نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر…. خير دليل على مساهمة ظاهرة الاحتجاج في التأسيس للحكومات الدستورية. وفيما ذكر Woodrow Wilson في كتابه الشهير ”Constitutional Government in the United States ” أنه في الجيل نفسه الذي ظهر فيه الميثاق الأعظم ”ماغنا كارتا” في انكلترا، كانت تجري عملية أخرى مماثلة له في بلاد المجر تدعى ب”الثور الذهبي” أو Golden Bull”. ولكن يوجد بين ” المانغا كارتا ” و ” الثور الذهبي” اختلافان يستحقان الاعتبار لأهميتهما بالنسبة لمسالة ترجمة الاحتجاج والتمرد على أرض الواقع. فمع أن بلاد المجر ابتدأت مع انجلترا تقريبا في نفس الوقت نفسه في الحصول على حكومة مقيدة، إلا أنها لم تحصل عليها بينما نالت انجلترا ذلك النوع المحبوب من الحكومات. و لا نزاع في أن أهم سبب لهذا الفارق هو أن أشراف المجر اكتفوا بالحصول على امتيازات لطبقتهم التي إن هي إلا واحدة من طبقات الأمة، بينما طالب أشراف انجلترا بحقوق الأمة كلها، و سعوا لا في سن قوانين جديدة أو طلب امتيازات جديدة، و لكن ليعيدوا ثانية ما كان لهم و خافوا أن يفقدوه. وهناك سبب آخر قد لا يقل عن الأول أهمية، وهو أن الانجليز جهزوا أداة -هي البرلمان- للمحافظة على اتفاق ”مانغا كارتا” بينما لم يفعل المجريون شيئا من هذا. وفي سياق آخر، ذهب حسن أوريد في كتابه الأخير ”أفول الغرب”، عندما تكلم عن السيادة الشعبية وتعبيرها عن الإرادة الشعبية كما قال بذلك روسو، إلى اعتبار أن التعبير عن الإرادة العامة يمكن أن يأخذ ثلاث مظاهر: التعبير عن الإرادة العامة مباشرة من قبل الشعب كما يزال ساريا في الاقتراع العام المباشر أو في الاستفتاء، ويمكن أن يعبر عنها من خلال ممثلين لها (الديمقراطية الغير المباشرة)، وأيضا اعتبرت المظاهرات والاحتجاجات في سلوك وثقافته السياسية إحدى أهم وسائل التعبير عن الإرادة العامة وتجسيدا لسيادة الشعب. وهو الأمر الذي أكده الكاتب حين تكلم عن انتفاضة باريس 1832 حيث سالت الدماء في ذلك المشهد الرائع الذي صوره فيكتور هوغو في رائعته البؤساء، حيث اعتبر أنه ” حينما تستهوي إرادة الاستبداد حاكما أو أسرة تنهض إرادة الشعوب ثانية ”. بمعنى أنه لا ديمقراطية بدون تضحية، فالديمقراطية ”هي ضمير متجدد وتضحية لأنها كانت معرضة دوما للمصادرة ”. كانت الديمقراطية في أوربا وفي الولاياتالمتحدة ثورة، ثورة متجددة. كانت تعبيرا عن سيادة الشعب. وكان مما ارتبط بهذه الاحتجاجات والمظاهرات والثورات شيوع التعليم والمعرفة وزيادة نسبة الوعي. تقتضي ظاهرة الاحتجاج، بهذا المعنى، الوصول إلى ” حكومة الحرية ”، ” حكومة دستورية مقيدة ”، حكومة لا يكون فيها احتكاك أو تناقض بين سلطتها وبين امتيازات الفرد المواطن فيها، إلا في اقل الحدود، ومن ثم يرتبط الحكم الدستوري الصحيح لديه بحرية الوطن، أي: باستقلاله، وكذاك بحرية المواطن. ….يتبع * دكتور في القانون العام: باحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية