عبد الله العروي اخترت لهذه المحاضرة عنوان «المواطنة والمساهمة والمجاورة». وسأحاول أن أبين الفرق بين هذه المفاهيم الثلاثة. في الاستعمال الحالي، لفظة «مواطن» ترادف الكلمة الفرنسية citoyen أو الإنجليزية citizen. لكن المعنى الاشتقاقي مختلف. ولهذا دلالة يجدر بنا أن نقف قليلا عندها. في اللغة العربية، الوطن رقعة أرضية واضح المعالم، مواطنها- أو مستوطنها- ساكنها. والمواطن من يقاسم هذا القاطن الوطن نفسه. أما لفظ citoyen، وكذلك لفظ citizen، فمشتقان من لفظ cité؛ أي مدينة بالمعنى السياسي. يقول روسو إن الفرنسيين -في زمنه- لا يعرفون معنى كلمة citoyen، ولا يفرقون بينها وبين كلمة «بورجوا» (bourgeois). الأولى تطلق على المساهم في الحياة السياسية، فيما تصف الثانية حالة المقيم في المدينة، أي المواطن بالمعنى الاشتقاقي العربي للكلمة. وهنا، وجب التنبيه إلى مفارقة. يقال عادة إن العربي بدوي رحال، وإن الحضري مستقر في مكان واحد. لكن كلمة «وطن» تشير إلى الأرض/القارة. في حين أن كلمة citoyen تعني صفة قانونية مرتبطة بالإنسان، إن حلّ أو ارتحل. في استعمالنا اليومي، نضمن لفظ «مواطن» معنى citoyen، دون التفات إلى ما يوحي به الاشتقاق. فمن الطبيعي أن ينشأ قدر ما من الغموض، كما سنوضح ذلك بعد قليل. لذلك، قلت، في مناسبات عدة، إنه لا يستقيم منهجيا أن ننطلق من الاشتقاق فقط، كما يفعل كثيرون. بالعكس، يجب الانطلاق من الوضع الذي يحتم استعمال هذه الكلمة أو تلك. يجب التحويم حول الموضوع من عدة مراقب، حتى يتبين المقصود من استعمال هذه الكلمة، وليس غيرها. لا نفع البتة دون الانطلاق من المقابلة بين مفهوم ناشئ، دخيل للمواطنة، ومفهوم أصيل، أعني الولاء، ثم استحسان الأول، واستبشاع الثاني. هذه الطريقة المغالية في التبسيط لا تزيد الأمور إلا استشكالا. يشاهد بعضنا، على الشاشة، نقل حفل الولاء. فيقول: هؤلاء المبايعون موالٍ، وليسوا مواطنين. هذا الشعور هو الذي يجب أن ننطلق منه، بحثا عن ظروف نشأته. هل هو طبيعي؟ نعم، بدون أدنى شك. توجد جماعات كثيرة تجربه يوميا. كل عضو في هذه الجماعات يشعر بأنه آفاقي، خارج السرب، أنه مساكن، مجاور، غير مشارك، غير مساهم، لا يتمتع بحقوق، يتمتع بها غيره، الذي يحتل مكانة أعلى من مكانته. يجد أن وضعه ناقص، محتاج إلى تزكية، حتى يتخيل واقعا مناقضا للواقع الذي يعيشه. يحاول أن يكيف، فيعثر على كلمة «مواطنة» بمعناها المستحدث. يتيقن أنها حق لكل إنسان بما هو إنسان. لو لم يجد هذه الكلمة جاهزة، لاستعار لفظة أجنبية، كما استعار من قبل لفظة «ديمقراطية» ولفظة «برلمان». الحاصل هو أن المرء لا يستعير الكلمة، بقدر ما يستحضر المفهوم المعبر عن وضع ما، ناشئ بدوره عن تجربة أليمة. والتجربة التي نتكلم عنها لازمة للمفهوم الذي نبحث فيه. ونستدل على ذلك ببعض المقالات التاريخية. نبدأ باليونان. يقول أرسطو في نص مشهور: المواطن هو المساهم في إقرار القوانين. ومن مجموع هؤلاء المساهمين تتكون المدينة cité، أي الهيئة السياسية. والتعريف ذاته نجده عند سبينوزا. يقول روسو، الذي يفتخر بأنه مواطن بجنيف، إن جان بودان، مؤسس نظرية السيادة، وهو فرنسي، لم يعرف الفرق بين المواطن citoyen والمساكن، وأن دلاومبير وحده أدرك الفرق في المقال الذي خصصه لمدينة جنيف، والذي قسم فيه سكان المدينة إلى أربع طبقات، قليل منهم فقط يساهمون في الحياة السياسة، ويعتبرون إذن مواطنين. نصل إلى التجربة الأساسية، أعني تجربة إنجلترا. نشأ المجتمع الإنجليزي الحديث عن الغزو، حيث ظلت آثار التمييز بين الغالب والمغلوب بادية في الحياة العامة لعدة قرون، كما تدل على ذلك روايات والتر سكوت، واهتمام منظري السياسة، مثل توماس هوبز وجون لوك، بمسألة الغزو، وما يترتب عليه من حقوق. الحقوق المسطرة في المواثيق الإنجليزية، ابتداء من الوثيقة الكبرى لسنة 1215، هي امتيازات أبناء الغزاة المنتزعة بالقوة من الملك، الذي هو واحد منهم، ويحاول باستمرار الانفراد بالسلطة. التاريخ الدستوري الإنجليزي هو تاريخ تثبيت هذه الحقوق وتمتيع جماعات جديدة بها، إما عبر ثورة دموية، مثل ثورة القرن السابع عشر التي عارضها هوبز ونظر لها لوك، وإما عبر تطور سلمي أثناء القرنين التاليين. لهذا السبب، لا نجد تعارضا، كما سيحدث فيما بعد، بين كلمتي citizen وsubject، لأن حقوق الفرد مضمونة في وثيقة تنص على سلطة قضائية مستقلة تحد من سلطة الملك. وبما أن الحق يخص شخصا بعينه، لا توجد علاقة بينية بين الحرية والمساواة، كما هو الحال عند روسو وأتباعه. عند المنظرين الإنجليز، نجد إما مساواة بلا حرية، كما عند هوبز، وإما حرية بلا مساواة، عند لوك. ابتداء من القرن الثامن عشر، تمازجت طبقة النبلاء وطبقة أثرياء التجار. تحولت الطبقة الحاكمة من طبقة أرستقراطية إلى بلوتوقراطية، فأصبح أعضاؤها يتمتعون تلقائيا بالحقوق التي كانت مقصورة على النبلاء. ثم تكاثرت طبقة العامة ونظمت صفوفها، وطالبت بالحقوق ذاتها، ونالت تدريجيا ما أرادت. ألغي الرق. اكتسبت المرأة بعض حقوقها. تحسنت وضعية الفقراء. وأصبحت لكل فرد حقوق مضمونة في إيثار ولاء الجميع للعرش. وجدنا أمام تطور تاريخي، وليس أمام تحليل نظري مسحوب على واقع غريب، كما حصل في فرنسا أيام الثورة الكبرى. تطور يعني الانطلاق من وضع معين يمثل مجموعة من الحقوق منتزعة من الملك، وممنوحة لطبقة محددة مكونة من ورثة الغزاة، ثم رصد تعميم تلك الحقوق في ثورات لاحقة على السكان الساكسونيين الأصليين، دون الكلتيين والولش والسكوتس، فبالأحرى دون اليهود. لما حدث الإصلاح الديني، انقسم المجتمع الإنجليزي إلى أنجليكان وكاثوليك، قبل أن تبرز طبقة البوليتان، أي الغلاة. عندما انتهت ثورة القرن السابع، وعاد النظام الملكي، أقصي الغلاة من المجال السياسي، وصاروا في منزلة الكاثوليك كاليهود. لا تقبل شهادتهم في المحاكم. لا يدرسون في الجامعات العريقة. لا يتقلدون مناصب قيادية في الجيش أو الإدارة. بالطبع، هذا الوضع الذي دام إلى أواسط القرن التاسع عشر، شبيه تماما بوضع الذمة في البلدان الإسلامية. وهنا، نرى بوضوح ارتباط المواطنة بالولاء. الأنجليكاني كامل المواطنة، لأنه مؤتمن، في حين أن غيره متهم في ولائه للعرش وللدولة. وهذه هي النقطة التي سيركز عليها فيما بعد المدافعون عن حق الكاثوليك، كالوزير الأول غلادستون، ثم حق اليهود كاللورد ماكويل، في التمتع بالمواطنة الكاملة. سيقولون إن اختلاف العقيدة لا يتنافى مع صحة الولاء السياسي. فلم يصادق البرلمان الإنجليزي على إعطاء اليهود حقوقهم، بعد أن أعطى الكاثوليك حقوقهم السياسية من قبل، إلا سنة 1958، بمعنى أنه لما جاء إلى المغرب لورد إنجليزي وطالب السلطان محمد الرابع سنة 1864 بأن يعطي اليهود المغاربة الحقوق نفسها، كان يتكلم عن حق لم يلبّ في إنجلترا إلا قبل ست سنوات. نستخلص من هذا العرض أن الوضع الذي كان قائما في إنجلترا مهد النظام الدستوري الحديث، كان يتصف بوجود نوعين من الحقوق: حقوق عامة يتمتع بها كل مقيم، أي كل مجاور، أو مواطن حسب تعبيرنا، نسميها حقوقا إنسانية؛ وحقوق خاصة بفئة صغيرة، وهي الحقوق المعروفة بالحقوق السياسية أو المدنية. وهذه الحقوق المدنية لا تعارض الولاء، بقدر ما تستدعيه. تكلمنا عن الحالة الإنجليزية، لأنها نموذجية في العالم. ما قلناه عن الكاثوليك والبوليتان الغلاة في إنجلترا، نقوله عن الهنود والزنوج والآسيويين في أمريكا، رغم أن الدستور الأمريكي يؤكد أن الآدمي يولد حرا ومساويا لأي آدمي آخر. لا أحد يعيش في عزلة تامة. قد ينعزل المرء، لكن بعد أن يكون قد عاش فترة من الزمن، قصيرة أو طويلة، بين مجموعة بشرية: أسرة، قبيلة، مدينة. وفي كل حال، يوجد تمييز بين وضع الأصيل ووضع الطارئ، وابن الدار المساهم في المدينة والمجاور أو المعاهد الذي قد يكون مملوكا أو مولى أو معاهدا ذميا أو ضيفا عابرا، بل عدوا مهادنا. هل لنا أن نقول إن هذه هي حقوق الإنسان، كما تفهم اليوم، وتلك هي الحقوق المدنية؟ هذا ما توحي به، لأول وهلة، وثيقة حقوق الإنسان والمواطن، التي صادق عليها المجلس التأسيسي الفرنسي سنة 1789. تتعلق الحقوق الإنسانية بالنفس والمال والعرض، وتتعلق الحقوق المدنية بالأنشطة الجماعية كالتصويت والترشح وتقلد مناصب قيادية. لكن عندما نتمعن في الوثيقة المذكورة، وما سبقها من وثائق إنجليزية وأمريكية، نرى أن الأمر ليس كذلك. هل يجب الكلام عن الإنسان أولا، ثم عن المواطن؟ لا تتكلم الوثيقة عن شخصيتين منفصلتين، عن الوافد أولا، ثم عن ابن البلد ثانيا. نتكلم عن شخصية واحدة موصوفة من وجهين. ما تعنيه الوثيقة الفرنسية في الواقع هو أن الحقوق المسجلة تهم كلها المواطن المساهم (citoyen)، ليس المواطن المجاور، وتؤكد في الوقت نفسه أن الحقوق متأصلة في طبيعة الإنسان، أي إنسان، غير الناشئة عن ائتلاف أو تنازل. هي إذن حقوق الإنسان، الذي هو مواطن. هذا عكس ما تقوله الوثائق الإنجليزية التي تعدد الحقوق المنزوعة من يد الملك، والخاصة بمجموعات محددة: رجال الدين، المزارعين الأحرار، الخ. كل فئة تعتقد أن حقوقها معتبرة من طرف كل فئة على حدة، عكس ما يوحي به ظاهر العبارة. الحقوق المضمنة في الوثيقة الفرنسية، والأمريكية كذلك، تخص المواطن، لا غير. أما حقوق المجاور، وهي حقوق إنسانية بالفعل، فهي متولدة عن معاهدة مبرمة بين هيئتين سياسيتين. ونذكر بالمناسبة أن عبارة «الإنسان المواطن» صدرت أول مرة عن الألماني صامويل بوفندورف، أحد مؤسسي القانون الدولي. بعد الحرب العالمية الثانية، حصل تطور -حتى لا نقول قطيعة- في هذا المجال. لا يمكن اعتبار وثيقة سنة 1948، الصادرة عن منظمة الأممالمتحدة، مجرد تعميم لما تضمنته وثائق سابقة. الجديد فيها أنها تتجاهل ضمنيا سيادة الدولة الوطنية. هناك حقوق سياسية كانت محصورة في الوثائق السابقة على أبناء الوطن، وعمم بعضها على كل المواطنين، أو المجاورين، ثم حقوق اقتصادية واجتماعية، كالشغل والتعليم والعناية الصحية والرعاية، ثم حقوق خاصة بفئات مهملة كالنساء والأطفال والمعاقين والعجزة، ثم حقوق ثقافية تهم الأقليات والشعوب الأصيلة. كل مرة تضاف إلى قائمة أصحاب الحقوق جماعة جديدة، وإلى قائمة الحقوق حقوق جديدة، وذلك باسم الاشتراك في الإنسانية، بل وفي الحيوانية. حصل التوسيع بكيفية آلية، دون تنظيم مسبق. لذلك نلاحظ هذه الأيام معارضة قوية، حتى في البلاد الديمقراطية، ضد هذا الاستخفاف المتزايد بالسيادة الوطنية. كان التركيز في الوثائق السابقة على شرعية الثورة ضد الظلم، أي تجاهل حقوق المواطنة. الآن نرى توجها نحو تبرير الثورة على الدولة الوطنية غير الإنسانية، حتى ولو كانت عادلة، خاضعة لقوانين صارمة، لكنها مقصورة على أبناء الوطن. هناك، إذن، تطور جديد، يخلق مشاكل كثيرة لمفهوم المواطنة. إذ لم تعد المواطنة مرتبطة بوطن، بدولة وطنية، بل الاتجاه هو ربطها بالمجموعات الإنسانية. هذه النقطة تنبه إليها، ونبه إليها، الفيلسوف «كانت» أيام الثورة الفرنسية (عندما نقول إن «كانت فيلسوف كبير»، لماذا فيلسوف كبير؟ لأنه أيام الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان، رأى أن هذا الإعلان يتجاوز حدود الدولة الوطنية، مع أنها كانت في بدايتها. ولهذا بالضبط ترون أن هناك اعتمادا كبيرا على تحليلات كانت في كل الأدبيات المتعلقة بالقانون أو بالمواطنة أو بحقوق الإنسان، الخ.) كان مثلا حق التنقل والإقامة والشغل والحماية محصورا في حدود الوطن، لأن الحرية كانت مغيبة. كان الإنسان لا يستطيع التنقل من بلد إلى آخر بحرية. اليوم ما نلاحظه هو أن التوسيع لكل إنسان إنسان، والاعتراف لكل فرد، أينما حل، بأن يتصرف كجميع مواطني العالم. والرفض لهذا التوسيع- مهما يكن حكمنا عليه أخلاقيا- يدل على أن هذا التطور المفهومي، مفهوم الإنسان المواطن، لم يُأصَّل بعد تأصيلا واضحا وصريحا؛ أي لا أحد يقول إن هذا التوسيع لحق من حقوق المواطن المساهم إلى المواطن المجاور يتحدى حدود الدولة الوطنية. لا أحد يقولها صراحة، مع أن هذا الأمر موجود ضمنيا في لائحة الحقوق الدولية. والدليل على ذلك أن إعلان الحقوق الإنسانية للدول الأوربية، أي اعتبار أن كل مواطن، من أي دولة كانت، إذا انتقل من دولة إلى أخرى، تكون له الحقوق نفسها. هذا الإعلان، مع أنه هو الأساس في بناء المنظومة الأوربية، يرفضه عدد لا يستهان به من القادة السياسيين. لا يقولونها صراحة، ولكنهم يتخذون مواقف ويطالبون بكثير من المطالب في هذا الاتجاه. الآن، بعد هذا الكلام عن المواطنة وحقوق الإنسان، نعود إلى ما كنا بصدده، أي المواطنة في إطار الدولة الوطنية. يقول أحدنا: لا أرضى لنفسي أقل من أن أكون مواطنا كامل المواطنة، دون أن يعي أن النظرية، التي يستند إليها، تلغيه مسبقا من المجال السياسي. النظرية، من أرسطو إلى كانت وهيغل، مرورا بروسو، لا تهتم إلا بفرض من له مؤهلات محددة، وهي: أن يكون ذكرا لا أنثى، حرا لا مملوكا، عاقلا لا معتوها، راشدا لا قاصرا، فاضلا لا دنيئا، تقيا لا فاجرا، أمينا لا خائنا. من يتحلى بهذه الصفات، فينعت بالشيخ sénateur أو الأب، أو السيد، هو الفرد المؤسس الذي يملك سهما في الشركة التي تسمى الدولة الوطنية. كل هؤلاء المنظرين، بالخصوص المنظرون الإنجليز، نظروا إلى الدولة على أنها شركة تجارية. بعضهم يستعمل في الغالب stock-holder، صاحب سهم، مساهم. هنا نتكلم عن مفهوم المساهمة. إذن، الفرد المؤسس الذي يملك سهما في الشركة، التي تسمى الدولة الوطنية، هذا هو المواطن المساهم. حقوقه هي مؤهلاته. متى فصلت الحقوق عن المؤهلات، فقدت النظرية تماسكها. أبرز مثال على النظرية السوية المتماسكة نجده في كتاب جان جاك روسو «العقد الاجتماعي». يضع المؤلف نصب عينيه ذلك الفرد الحر، المستقل عن كل ما حوله، ويستدمج المفهوم كل مستتبعاته بطريقة منطقية على شاكلة سبينوزا الرياضية. يتقدم من معادلة إلى أخرى، دون أدنى ميل أو زيغ. من فكرة التجمع يستخرج روسو مفهوم الجمهورية، ومنه الديمقراطية، ثم الأمة، ثم الدولة، ثم الإرادة العامة، ثم إرادة الفرد العاقل، ثم المصلحة، ثم القانون، الخ. كل مفهوم ينعكس في الذي يليه انعكاسا جامعا مانعا، يكشف وجها من أوجه عدة تخص كلها الموضوع، أي الفرد الحر، العاقل، الفاضل، الخ، إلى أن يقف على الأس، أس الأس، وهو وعي الفرد بذاته، بحريته وسلطته المطلقة على نفسه. من لم يعِ هذا الكشف -إذ يتعلق بكشف فعلي- من لم يع هذه الحقيقة الجوهرية، من لم يستشعرها في سر سره، فهو غير معني بكلام روسو. هذه التجربة النظرية يعيشها كل فرد فرد. لا تعارض، إذن، في هذا التحليل بين الحرية والمساواة. والضامن لهذه وتلك العقل القاهر لكل شهوة مضرة، الهادي إلى العفة والفضيلة. كل ناقص عقل لعدم اكتمال كالطفل، أو بسبب وضع عرفي كالمرأة، أو قانون كالمملوك، أو طارئ كالمعتوه أو الشيخ الهرم، أو اعوجاج في الفكر كالزائغ، أو عجز عن العبارة كالأعجم، فهذا لا يدركه نظر روسو. وبصدد وعي الإنسان بطبيعته، نشدد على نقطة مهمة: طبيعة الإنسان عند روسو هي السر والآية، ختم الخالق على وجدان البشر، كما أوضح ذلك في عقيدته. كل التناقضات التي نبه عليها المحللون، تعود إلى هذا التوحيد الذي يجمع روسو بسبينوزا وهيغل. عند هؤلاء المفكرين الثلاثة، لا تعارض بين الروح والمادة، لا ثنائية، ولا تعالٍ. كل الصفات المنسوبة إلى الباري يضيفها روسو للإنسان، منشئ المدينة، أي المؤسسة السياسية. انظروا، مثلا، إلى قوله في الإرادة العامة، كونها لا تفوض، لا تتجزأ -في الكلام القديم يقال إنه لا تتبعض- لا تخطئ، لا تتعارض مع الإرادة الفردية. هذه هي الأصول النظرية لمفهوم المواطن، أن العضو المؤسس لهيئة سياسية هي المدينة (polis، res publica). المواطن المساهم سيد نفسه يحكم نفسه بنفسه بواسطة إرادة جماعية، سلطة ناموس موافقة، طوعا وحكما لإرادة الفرد. وهذا لأنه عاقل، كابح لنزوات نفسه، مستقيم في سلوكه، غير زائغ. هو المشرع. هو المتصرف. هو الحكم. وهو في عين المنظر الإنسان الطبيعي، أي قبل أن يفسده التاريخ، حسب عبارة روسو. لكن هذا الإنسان يبدو لنا نحن غير طبيعي، مناقضا تماما، لم نجربه يوميا في تصرفنا وتصرف غيرنا. من يشرع؟ من يقضي؟ بالتأكيد، ليس الإنسان المستقيم، التقي، الفاضل.