مع تنامي الاهتمام بالأفكار الأناركية على المستوى الوطني مؤخرا وخصوصاً لدى الشباب، يتم بين الفينة والأخرى الزج بالصراع الفكري القديم بين الأناركية والماركسية وتصويره كصراع جذري لا يمكنُ معه ماركسي وأناركي إلا أن يتناطحان! والحال أن نقاط الخلاف بين الأناركيين والماركسيين واضحة جدا ولا تعدو أن تكون خلافاً حول المنهجية. لكن العلاقة بينهما عقّدتها التصادمات التاريخية الدموية بين الطرفين. الأناركيون يقرّون بأن ماركس قارئ جيد للتاريخ وليست لديهم أي مشكلة مع المادية التاريخية والجدلية بل هناك أناركيون يؤمنون بها كقراءة تفسيرية لتطور التاريخ. المشكل الكبير بين الفلسفتين هو موقف الماركسية المتذبذب من مؤسسة “الدولة” وشرعنة “السلطة”. ففي بدايات ماركس وانجلزكان موقفهما من الدولة والسلطة سلبيا وراديكالياً حيث وصفت الأدبيات الماركسية الدولة بالمؤسسة البورجوازية التي يجب تحطيمها لأنها ليست سوى نتاج فوقي(ضمن البنية الفوقية) لوسائل الإنتاج السائدة وترجمة لعلاقات الإستغلال القائمة بين ملاكي الرأسمال من جهة والعمّال والفلاحون من جهة أخرى. أي أن الدولة تخدم مصالح الطبقة الحاكمة والمُستغِلة فقط. حتى أن إنجلز قال في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” (الصفحة 177 من الطبعة السادسة) أن “الدولة ليست تجسيدا للفكرة الأخلاقية ولا هي صورة حقيقة العقل”وأضاف أن “الدولة قد نشأت من الحاجة لكبح جماح تضاد الطبقات وهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصاديا والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقية هي السائدة سياسيا أيضا والمالكة لأدوات قمع الطبقة المُستغَّلة”.وفقَ هذا الموقف لا يمكن للأناركيين إلا أن يكونوا “سمن على عسل” مع الماركسيين، بما أن جوهر الفلسفة الأناركية هو تحطيم السلطة والدولة والمؤسسات الهرمية السلطوية، وكانوا مُتفقين على أن السبيل الحقيقي للعدالة هو التعاونيات والكمونات والتنظيمات الأفقية (بغض النظر عن الصراع المرحلي بين كارل ماركس وجوزيف برودون مؤسس الأناركية خلال كمونة باريس الأولى). لكن الحسابات السياسية، خصوصاً بعد فشل كمونة باريس الأولى سنة 1871،وبراغماتية ماركسوانجلز وبعدهم لينين،جعلت الماركسيين يتسامحون مع مؤسسة الدولة عندما تحدثوا عن مرحلة إنتقاليةبين الرأسمالية والشيوعية لابد أن تبقى فيها الدولة بعد الثورة! وأن السلطة ضرورية لقيادة طليعة الثورة! وأن ديكتاتورية البروليتاريا هي السبيل لتحطيم البورجوازية. هنا جاءت صرخة “جوزيف برودون” إذ قال “أن يكون إنسان حَاكِماً على إنسان آخر وإن تنكر في أي صفة، لن يكون سوى قمع، وأن الإشتراكية بلا حرية ليست سوى عبودية ووحشية” (كتاب المِلكية هي سرقة) وأوضح أناركيون من أمثال “ميخائيل باكونين”و”بييتركروبوتكين و”أرنست ماخنو” وآخرون أن بقاء الدولة سيحول الثوار إلى سلطويين مستبدين سيؤسسون لدولة شمولية مُستبدة ولا يُعقل لثوار اشتراكيين او شيوعيين أن يؤسسوا ويحموا ثورة البروليتاريا من خلال مؤسسة بورجوازية صنيعة الرأسمال بالأساس. وفعلا هذا ما أثبتهُ التاريخ عندما تحولت كل الثورات الاشتراكية إلى السلطوية والاستبداد والأنظمة الشمولية في الصين والاتحاد السوفيتي وكوبا ويوغوسلافيا والفيتناموتحول الماركسيون فيما بعد إلى رُواد انتخابات بورجوازيةومتهافتين على مقاعد البرلمانات والحكومات الرأسمالية (ليتحولوا من ثوار إلى إصلاحيين في أفضل الأحوال). لذلك تُسمى الإشتراكية الماركسية بالإشتراكية السلطوية في أدبيات الأناركيين وتسمى الأناركيةفي الأدبيات الماركسية بالفوضوية أو الطوباوية (الأناركية تُسمى أيضاً من لدن روادِها باللاسلطوية أو الليبرتارية). أما تعقيدات التاريخ الدموي بين الطرفين فتتجلى في مُشاركة الشيوعيين في إبادة التجربة الأناركية أيام الحرب الأهلية الاسبانية سنة 1939، خوفاً من نجاحها في أقاليم برشلونة والأراكون وفالنسيا(شهادة الكاتب البريطاني”جورج أورويل” الذي عاين التجربة الأناركية عن كثبفي كتابه Hommage à Barcelone قيّمة في هذا الصدد)، جنبا الى جنب النازية التي دعمت الجنرال فرانكو ضد الأناركيين أيضا. دون أن ننسى كيف قام قبلها تروتسكي بقيادة الجيش الأحمر السوفييتي لإبادة الثورة الماخنويةالأناركية في أوكرانيا سنة 1920 مع العلم أن الأناركيين هم من أنقذوا البلاشفة(الماركسييناللينينيين) من خسارة الحرب ضد الجيش الأبيض للمناشفة في سنة 1917، بل أكثر من ذلك كانالأناركيون أول من أسس التعاونيات الروسية (السوفييات) سنة 1905 ليسرق البلاشفة عملهم وجُهدهم في الثورة الروسية 1914 ويقوم لينين بإبادة واعتقال الأناركيين بعد حين. * كاتب وروائي مغربي