بعيدا عن ضوضاء المدينة،إرتأيت بعد عناء الحياة ومطباتها،أن أهدي لنفسي وقتا يسيرا من راحة الفؤاد والعقل،وإخترت لذلك مكانا قصيا وسط مشاهد طبيعية تسلب الألباب، وكانت جنبات واد أم الربيع بأزمور مقصدي الروحاني للتأمل الفلسفي،والتبحر في أعماق الذات التي عصيت عن الراحة والاستجمام فترة ليست باليسيرة. وفي لحظات التركيز الوجداني هاته،ارتأيت نبش ذاكرتي وتخطيطها عبر ورقة بيضاء كانت هي ملكي ومملكتي،وددت خلالها إستخلاص فكرة ما، قد توحي لي ببعض من عبارات وجدانية أنسج خلالها مقال لهذا المقام. لكن شيء ما زعزع خيالي،وخرج بي من روحانية الخشوع في عالمي الخيالي الجميل،لعالم واقعي هاجرته لكنه أبى أن يفارقني،صوت إنساني أعادني لضوضاء مدينتي،التقيت مصدر الصوت فوجدته لشاب في مقتبل العمر،يبحث بين ثنايا مياه النهر عن لقمة عيش في سمكة يقودها القدر لصنارته اليتيمة، ألقيت عليه التحية،فرد علي بأحسن منها، حاولت الغوص داخل أعماقه علني أجد مادة دسمة لكتابة مقال إجتماعي إقتصادي سياسي… سألته عن أحوال صنارته وهل هي كريمة معه أم أصبح البخل ديدنها كسائر معظم البشر… رمقني بنظرة توحي بأن صاحبها يخفي داخل كيانه الضعيف آهات لو رسمت في أرض الواقع لزلزلت العروش ولأدمت القلوب… طمأنته بأني مستعد لتلقي ضربات آهات قلبه، ومستعد للمسير معه إلى نهاية قصته الحياتية اللاأسطورية،فأجابني بلكنة سيدنا الخضر للنبي موسى”بأنك لن تستطيع معي صبرا”، فكان ردي مثل ردي سيدنا موسى حين قال”ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا”… فقفز الشاب أمامي كنسر عثر على فريسته، وبدأ في سرد حكايته التي صورته أمامي كعجوز عمر في الأرض طويلا،لا شاب مازال يبحث عن مكان تحت شمس هذا البلد،جلس ووجهه قبالتي، ليبدأ في سرد رواية حياته. في قصته المسرودة،أخبرني بأنه ولد ذات صباح ممطر بمدينة صغيرة تحيطها أسوار برتغالية، تمنحك الاحساس بأنها كانت ذات يوم مستعمرة، وبأن الأجداد بدلوا الغالي والنفيس للحصول على استقلاليتها،مدينة رغم قساوة بعض من تقلدوا مناصب تسييرها تبقى عصية عن أن يكرهها أبناؤها،مدينة قيل عنها الكثير والكثير،وكان الراحل الحسن الثاني ممن تغزلوا بها،وربطها برابط الوطن. سار صديقي الجديد في طريق سرد قصته،والتي إبتدأت بولادته بغير إذنه،وكيف عاش في كنف أسرة فقيرة تحاول أن تضمن مكانا كريما داخل المدينة الصغيرة،ورغم المعاناة داخل بيت صغير لا يحوي سوى غرفة ومطبخا مشتركا مع جيران طيبون،إلا أن راوينا استطاع الحصول على مرتبة عالية في ميدان العلم والاجتهاد،وحصل على شهادة جامعية زين بها جدران منزل والديه”أو البيت اليتيم الذي يشاركه فيه والديه المريضين وأخيه العاطل”. يكمل ضيفنا إستكمال سرد حكاياته مع صراعه المستميث والمستمر مع ظروف عيش قاسية زادتها لا مبالاة مسؤولينا إنتكاسا،والذان خانتهما وخانهما شعار الوزارة المعنية بالصحة، فالبيضة سقطت وكسرت زواياها ،مستشفى محلي لا يحمل من إسم الإستشفاء إلا اللقب المنسي…أخ عاطل عن العمل تاه بين دروب الادمان والتخدير… مدينة صاحبنا تعيش بين براثين التهميش والفقر بعد أن تخلى شباب “كانت الساكنة تأمل فيهم حمل شعار النماء والازدهار وأعطتهم لقب شباب التغيير” عن السير في طريق إعادة مجد مدينة ضاعت وتاهت بين أسوار برتغالية وواد يئن في صمت.. هي حكايات ألف ليلة وليلة بطعم أزموري مغربي، لن تستطيع مجلدات الكون تحمل تبعاتها، فقد اقتربت الشمس من المغيب وراوي حكاية الليلة ما زالت في جعبته الكثير من السرد،لكن تململي بين الفينة والأخرى، أعطى لصديقي الحالي إحساسا لحظيا بأن بداية إفتراقنا قد آنت،فقذف لي بكرة جوابية عن سؤالي له الأول،وأخبرني بأن الوادي الآن لم يعد يجيد معه بالكرم،فقد تلوثت مياهه ونفقت معظم أسماكه وأحيائه،خاصة بعد توقف جرف رمال الوادي عند المصب،حيث توقفت معه حياة الكثير من أحياء الوادي،وربما ستتوقف معه حياة الكثير من أمثاله ممن عولوا على كرم الواد ليلبي لهم نفقة الاولاد،توقف جرف رمال الوادي، فالاصطياد في الماء العكر شكل من أشكال الاستثمار في ظروف لا آمنة. ومسؤولي المنطقة مازالوا في سبات عميق، وربما بعد فوات الآوان وتجمد الكائنات بالوادي وإنتشار الروائح الكريهة،حينها قد يستيقظ أهل الكهف ويبحثون عن ضوء يسير يركبونه في رحلاتهم الاستكشافية. ودعت صاحبي وأخبرته بأن حكاياته سوف تكون لي نبراسا لمقال قد يكون هو بطلها المناضل، قبل أن أغيب عن ناظريه،ناداني من بعيد وقال لي: – كنت أود أن أخبرك عن الأمن في مدينتي الذي تاه بين براثين الدروب والأحياء،وعن مجلس جماعتي الذي فقد بوصلته،وعن البطالة التي تنخر شباب مدينتي… فأجبته: -لا تحزن صديقي فربما يكون لنا موعدا قريبا نقص في حكاياتنا للنهر والشجر فهما أفضل منصت لآهاتنا..فالليل الأكثر ظلمة هو الذي يسبق الفجر بهنيهات..