لا شيء يعكر صفو الطبيعة هنا.. جبال شامخة تعلوها زرقة، وهضاب تخترقها الشعاب لتصب في نهر جميل مستمر الجريان، تحفه أشجار اللوز والجوز والتين، وعلى بعد عشرات الأمتار التصقت المنازل الطينية بالهضاب لتطل على النهر كمن يطل من شرفة، فيما تماهت جدرانها الطينية مع الأرض والتراب. أما الألسن فتلوك أمازيغية سريعة، بينما تجري الرياح لتعزف حفيفا على أوتار أوراق الشجر.. هنا قرية “نايت مراو” ضواحي مدينة بومالن دادس. العذاب المزدوج والنقل المزدحم عند سؤال أحد أبناء المنطقة، كان يقف في محطة سيارات الأجرة داخل سوق الأربعاء ببومالن دادس، عن موقع مدشر “أيت مراو” من الخريطة، وكيف السبيل إلى الذهاب إليه، قال ضاحكا بعامية مغلفة بنبرة أمازيغية “نايت مراو كاين من مور الشمس”، في إشارة منه إلى أن الذهاب إلى المدشر يتطلب مجهودا جبارا. للوصول إلى قرية “أيت مراو” لا بد من تكبد وعثاء السفر، فلا مفر من المرور عبر مدينة بومالن دادس، حيث توجد وسيلة النقل الوحيدة في اتجاه القرية؛ إنها سيارات “مرسيديس 307” أو ما يطلق عليه النقل المزدوج، التي لا تنطلق إلا على الساعة الثالثة مساء من كل يوم. بعد أن تكدست إحدى السيارات بحوالي ثلاثين شخصا، بعضهم اعتلى سطحها، أدار السائق المحرك، وانطلق عبر شريط اسفلتي سرعان ما انسحب من تحت العجلات، لتبدأ رحلة شاقة عبر طريق غير معبدة رسمت بين الوديان والجبال. بعد حوالي ساعتين أطلت من بين الجبال واحة خضراء، قال أحد الركاب إنه مدشر “نايت مراو”. في هذا المدشر تطغى البساطة والعفوية. كل شيء هنا على سجيته، فهذا النهر يستمر في جريانه مصدرا خريرا غير عابئ بما حوله، وهذه منازل طينية بنيت فوق الصخور، فيما تشكلت سقوفها من أغصان الأشجار والقصب. أما السكان فكلما رأو غريبا عزموه لشرب كأس شاي قائلين “يالا أنعمر أتاي”. الحاج محمد بوساين رجل سبعيني، يستقبل كل “براني” بوجه بشوش وكرم حاتمي، يحكي بلسان عامي تتخلله كلمات أمازيغية، “هنا لقينا جدودنا وهنا إن شاء الله غانخليو ولادنا، ولكن بغينا البلاد تقاد وتزيد القدام”. ويضيف الشيخ السبعيني أن اسم الدوار “أيت مراو”، تفسره حكاية شعبية تتناقلها الأجيال هنا. تقول الحكاية إن هذه الواحة كانت غير مأهولة بالسكان، قبل أن يأتي إليها عشرة أشخاص من منطقة سوس ليستقروا بها، وعشرة بالأمازيغية تعني “مراو”، ومنها اشتق اسم “أيت مراو”. مطالب بسيطة بعد لقاء جريدة “العمق” ببعض سكان المدشر، وسؤالهم عن أحوالهم وظروف عيشهم، تبين أن لهم ثلاثة مطالب بسيطة فقط، أولها طريق معبدة تصلهم بالعالم الخارجي ،وثانيها حماية حقولهم الصغيرة من فيضانات النهر، ثم مساعدتهم على إعادة إحياء عين ماء نضب معينها. هذا النهر الجميل الذي يخترق المدشر طولا، لا يبدو لجيرانه بهذا الجمال في أيام الشتاء، فكلما جادت السماء امتلأ وفاض وجرف بعض الأراضي الزراعية الصغيرة، تاركا وراءه أكواما من الحجر. وفي جولة على جنبات النهر، أشار إبراهيم في عقده الخامس، وهو أحد سكان المدشر، إلى متاريس إسمنتية قليلة بينها فراغات كبيرة، قائلا إنها هنا منذ أكثر من عشرين سنة، موضحا أن السكان هم من بنوها بعدما منحهم المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي أكياس الإسمنت. وأشار إلى أن هذه المتاريس تساعد في حماية الأراضي الفلاحية من الانجراف، مستدركا أنها لا تكفي، فالفراغات الكبيرة بينها كفيلة بتدمير الكثير من الحقول. أما الطريق التي شكل إصلاحها أحد مطالب السكان هنا، فإنها غير معبدة، وبالكاد تستطيع سيارات النقل المزدوج السير فوقها، ويؤكد السكان أنها وجدت بفعل مجهوداتهم الذاتية، موضحين أنهم يصلحونها بأيديهم كلما خربتها التساقطات. ومن أعلى صخرة مطلة على النهر، وقف أحد السكان موليا ظهره للنهر، وأشار بسبابته تجاه الجبل قائلا: “من هنا كان كيجينا الما د العين”، وما هي إلا خطوات في الاتجاه الذي أشار إليه حتى ظهر ثقب في الجبل يشبه النفق، ينتهي الداخل إليه، بعدما يقطع حوالي أربعة أمتار، إلى عين صبيبها ضعيف جدا، يقول أحد أبناء المنطقة، إنها “تخنقات”. يقول أبناء المدشر إن الماء فيما قبل كان يتدفق من الجبل، ليستعمله السكان في الشرب وفي مآرب أخرى، موضحين أن هذا النفق هم من أحدثوه في سبيل سعيهم لإعادة إحياء العين، وعن أسباب توقفهم عن ذلك يقول أحدهم ويدعى “محماد” في عقده السادس، إن خلافا دب بينهم حال دون ذلك. موسم الجني زيارة “العمق” ل”أيت مراو” كانت في النصف الأول من شهر شتنبر، وهو الوقت الذي يجني فيه أهل الدوار ثمارهم من الجوز والتين، قبل أن يوجه جزء منها إلى أسواق بومالن دادس وقلعة مكونة القريبة. فثمار التين تجنى في الصباح الباكر، إذ غالبا ما تجمعها المرأة في لحاف وتضعه على ظهرها بعدما تجمع أطرافه، وبعد نقلها إلى المنزل تفرش على الأرض في مكان مشمس لتجف، وعندما تحولها الطبيعة إلى “شريحة” (تين مجفف) تصبح جاهزة للأكل والتخزين وحتى البيع. أما الجوز فيجنيه الرجال والصبية، حيث يتسلقون الأشجار وفي أيديهم العصي، وكلما ظهرت لأحدهم حبة جوز ضربها بعصاه لتسقط أرضا، بعد ذلك يتم تجميعه في أكياس كبيره ويتم بيعه في الحال. بعد صلاة العصر في مسجد المدشر، اجتمع الناس حول محل وقفت أمامه سيارة للنقل المزدوج، أخرج صاحب المحل، الذي يعمل في تجارة الجوز خلال هذه الفترة، أكياس كبيرة من الجوز. وفي حديث مع جريدة “العمق” قال “موح” إنه يشتري الجوز قبل جنيه، فيجنيه بنفسه، ثم يجمعه في أكياس. واستطرد قائلا أنه يبيعه لتجار من خارج المدشر بعشرين سنتيما مقابل كل حبة جوز. محطة للرحل كل عائلة في هذا المدشر لها أقاربها في جبل “أوزيغيمت” حيث يرعون الماشية، إذ أن أغلب الناس يعيشون في عائلات ممتدة تتكون من أسرتين أو أكثر. ففي الوقت الذي يسهر أحد الإخوة رفقة أبنائه على العمل في الحقول مستقرا بالدوار، يعش الآخر رفقة أسرته متنقلا في الجبال بحثا عن الكلأ لرعي القطيع، هكذا شرح الحاج محمد بوساين ل”العمق”. بوساين رجل في عقده السابع، يعيش وحيدا في بيته خلال هذه الفترة التي يجني فيها ثمار التين. بينما إحدى زوجاته رفقة ابنه وأسرته يعيشون في مدينة بومالن دادس، أما الزوجة الثانية رفقة أبنائها فإنهم يعيشون حياة الترحال، يجوبون الجبال وراء القطيع، في حين يضطر بوساين إلى التنقل بين ثلاث محطات طوال السنة. كان بالإمكان أن تتحول واحة “أيت مراو” إلى وجهة سياحية، لكن الطريق غير المعبدة تحول دون ذلك، فكل الظروف مواتية هنا عدا الطريق. هي الظروف نفسها التي شجعت أحد المستثمرين على بناء فندق “أوبيرج” بالقرية، لكن المشروع فشل وصاحبه أغلق الفندق وغادر القرية.