هل توجد فعلا دولة عميقة إلى جانب الحكومة السياسية أو فوقها؟ هل هو جهاز عادي أم يعمل في مواجهة الحكومة السياسية؟ مما تتكون الدولة العميقة؟ وكيف تشتغل؟ وهل لها أجهزة أخرى تشتغل لصالحها؟ وما هو موقف السياسيين منها؟ وكيف يتعاملون معها؟ تعريف الدولة العميقة: الدولة العميقة هي جهاز غير مرئي يمارس تأثيرا ونفوذا قويا على الحكومة السياسية، وقد تعمل هذه الأخيرة تحت إمرته أو بتعاون معه، وأحيانا يختلفان ويتصارعان. لا يخضع جهاز الدولة العميقة أو رجالاتها لأي رقابة برلمانية أو مساءلة قانونية أو متابعة قضائية، لأن الجهاز لم يؤسس وفق القانون، ورجالاتها لا يتحملون أي مسؤولية واضحة أو تابعة لمؤسسة قانونية.. تعمل لفائدة الدولة العميقة مجموعة من الأذرع المؤثرة في المجتمع، أهمها القوة المالية التي تستثمر في القطاعات الاقتصادية الحيوية، والدراع الإعلامي بجميع أشكاله، والذراع الأمني، مع التحكم في مفاصل الإدارة القريبة من المواطنين ومصالحهم، وقد يكون ضمن هذه التشكيلة وحسب الضرورة بعض جمعيات المجتمع المدني وبعض المثقفين والفنانين والزوايا الصوفية مثل المغرب والكنيسة المرتبطة بالمسيحية العالمية مثل مصر وغير ذلك… وقد يغلب على الدولة العميقة الطابع المدني كما هو الشأن بالنسبة للمغرب وتونس وفرنسا، وقد يغلب عليها الطابع العسكري مثل الجزائر ومصر وكوبا … وقد تتكون من جانب مدني وآخر عسكري مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد تكون الدولة العميقة تحت نفوذ طائفة دينية مثل سوريا، أو تحت سيطرة رجال الدين كما هو الشأن بالنسبة لنظام ولاية الفقيه في إيران. إن الدولة العميقة واقع موضوعي متجذر في شرايين ومفاصيل معظم الدول، حتى الدول المتقدمة والعريقة في الديمقراطية مثل الجمهورية الفرنسية والولاياتالمتحدةالأمريكية. كيف تشتغل الدولة العميقة؟ 1/ الإدارة: من أجل تنفيذ مشاريعها ومخططاتها تقوم الدولة العميقة بزرع موالين لها والطامعين في الاستفادة من ريعها في مختلف الأجهزة الإدارية من أدنى سلم إداري إلى أعلاه، مع توالي نقل هذه العملية من السلف إلى الخلف بشكل يحفظ هذا الولاء وتلك التبعية القائمة على المصلحة، وأهم جهاز هو جهاز الداخلية (مصر، المغرب، تونس ..). يأتي بعد ذلك التحكم في الانتخابات بجميع مراحلها وأنواعها، من أجل تشكيل حكومة سياسية متحكم فيها، خاضعة لأوامر الدولة العميقة أو تابعة لها … لأن الحكومة السياسية هي الواجهة القانونية لتمرير مشاريع ومخططات الدولة العميقة التي تبقى بعيدة عن أي محاسبة أو مساءلة. علما أن باقي الوزارات لا تخلو من موالين لها حسب الدور والأهمية، منها مثلا وزارة المالية ووزارة الثقافة ووزارة الإعلام … 2/ النفوذ المالي: معظم رجالات الدولة العميقة لهم استثمارات مالية قوية، أو يصنعون نخبة اقتصادية ريعية تعمل وفق أجندة وضعتها لهم الدولة العميقة. وأهم القطاعات الاقتصادية الحيوية التي تسيطر عليها الدولة العميقة هي: قطاع الصناعات الثقيلة (الحديد والصلب) والصناعات التحويلية والغذائية، وقطاع الطاقة بجميع أنواعه، وحسب أهميته لدى الدولة، وقطاع البناء وما يرتبط به، وعلى رأسه الإسمنت والحديد، الصناعات الحربية والتجارة المرتبطة بها .. ويكون لهذه الشركات العملاقة نفوذ مالي قوي يمتد تأثيره إلى البرلمانات من أجل التحكم في دورها التشريعي (وضع القوانين وفق مصالحها) أو الرقابي .. وأبرز مثال على ذلك هو تدخل كبرى شركات السلاح في الكونجريس الأمريكي من أجل سن تشريعات تخدم مصالح هذه الشركات، كما يصل هذا النفوذ إلى الحكومات – خاصة الضعيفة منها – من أجل تمرير مشاريعها ومخططاتها في البرامج الحكومية. ففي مصر والجزائر نجد أن الدولة العميقة المتمثلة في الجيش تسيطر على قطاعات اقتصادية واسعة وضخمة في تلك الدولتين ولا تترك للمدنيين إلا قطاعات اقتصادية في غالبيتها غير مؤثرة أو تأتي دون القدرة التنافسية لتلك التي تتحكم فيها الدولة العميقة. 3/ القوة الإعلامية: هي من القوة الضاربة التي تستعملها الدولة العميقة من أجل تلميع صورتها أو الإجهاز على معارضيها والتأثير الفكري والنفسي على الجماهير، وذلك بتشكيل صورة نمطية في ذهنه وفق رؤية الدولة العميقة. هذا الذراع استعملته الانظمة الاستبدادية على وجه الخصوص مثل نظام جمال عبد الناصر وحافظ الأسد، كما استعمله الحسن الثاني من قبل وكذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية خلال حرب الفيتنام وحرب الخليج الأولى .. ومن خلال الإعلام يتم توظيف الفنانين والمثقفين والسياسيين من أجل التمكين لمشروعها وترسيخه، وصناعات ولاءات وأتباع من مختلف الشرائح الاجتماعية لاستعمالهم عند الضرورة، مثل الثورة المضادة في مصر يوم 30 يونيو، ومسيرة ولد زروال بالمغرب.. 4/ الذراع الأمني: هو آلية فعالة من أجل الضبط والتحكم في المواطن، بعد أن يتم استغلاله اقتصاديا وتدجينه ثقافيا وإعلاميا، وأي محاولة من أجل النقد أو الاحتجاج أو المعارضة التي تتفتق عن فئة قليلة استعصت عن الاستغلال والتدجين، يأتي الذراع الأمني من أجل ضبط الشارع باستعمال آلية المتابعات والمحاكمات والملاحقات تقوم بها أجهزة الأمن السرية والمخابرات بالدرجة الأولى، مع جعل القضاء في خدمة هذه الإجراءات العقابية كما هو الشأن بالنسبة لمصر السيسي حاليا ومصر مبارك وعبد الناصر وكذا تونس في عهد بن علي وبورقيبة سابقا، وكذا تركيا تحت حكم الجيش كما وقع للرئيس عدنان مندريس الذي تم إعدامه سنة 1961. وهذا أسلوب ومنهج معظم الأنظمة الاستبدادية عبر العالم. الدولة العميقة وعلاقتها بالخارج: لابد لأي دولة عميقة من أجل الحفاظ على وجودها وضمان استمرارها، أن تكون لها ارتباطات بدولة أو دول خارجية، تحقق لها الدعم السياسي والمالي والعسكري أحيانا، وفي المقابل ترعى الدولة العميقة مصالح تلك الجهة الاقتصادية والثقافية والسياسية. ولمعرفة أهمية ذلك يمكن ملاحظة صمود النظام السوري ودولته العميقة بعد التدخل السياسي والمالي والعسكري لكل من روسياوإيران رغم استمرار الحرب الأهلية لسنوات، في حين انهارت دول مثل ليبيا واليمن والعراق بعد انهيار الدولة العميقة التي لم تجد أي سند استراتيجي خارجي يحافظ عليها ويحميها من الانهيار بعد أن انتفت المصلحة أو ضعف البعد الاستراتيجي أو تعاظم خطر تلك الدولة كما هو الشأن بالنسبة للعراق في عهد صدام حسين. غير أن العراق يعرف في السنوات الأخيرة صراعا من أجل بناء دولة عميقة جديدة بين إيرانوأمريكا. المغرب من أهم النماذج التي عرفت أقوى دولة عميقة في حين أخذت الدولة العميقة المتمثلة في الجيش في مصر بزمام الأمور وأجهزت على التجربة الديمقراطية الفتية، وذلك بتواطؤ مع الكنيسة، وبدعم بالمال الخليجي الممول الرسمي للجيش المصري، وبإيعاز من الدول الغربية – خاصة أمريكا – التي تجاهلت كل الانتهاكات والجرائم التي ارتكبت في حق الحكومة الشرعية والموالين لها، وبرعاية رسمية للكيان الإسرائيلي. ويظهر جليا أن أحد أهم ما يحمي الدولة العميقة ويحافظ على وجودها واستمرارها هي وجود دولة أو دول خارجية تربطها مع اللوبي المتحكم مصالح استراتيجية كبرى، منها الاقتصادية والسياسية والثقافية .. وقوة الارتباط والحماية مرتبط بقوة المصالح المشتركة. الدولة العميقة والحكومة السياسية: قد تتعاقب وتتوالى الحكومات وتبقى الدولة العميقة مستمرة في وجودها محافظة على كيانها متمسكة بأجهزتها ومتماسكة بين أركانها، وإن تغيرت الوجوه واستبدلت الرجالات وتنوعت الأذرع والآليات. وتعاقب الحكومات يعني تعدد السياسات وتقلب المواقف وتحول الولاءات، وبالتالي تقع بعض الاحتكاكات والاصطدامات قد تكون خفيفة وعابرة، وقد تكون ثقيلة ومؤثرة، وقد تصل إلى كونها ساحقة ماحقة حسب الأحوال والتوجهات والظروف والشخصيات. هذه الظاهرة عرفتها مجموعة من الدول العربية والغربية على حد سواء كأنه أصبح قانونا كونيا ولازمة سياسية. وبالفعل، لقد قامت الدولة العميقة على زعزعة مجموعة من الحكومات السياسية وإسقاطها أحيانا، باستعمال أساليب متعددة، من بينها التشهير وتشويه السمعة (قضية لوينسكي مع كلينتون) أو التوريط في فضائح مالية (قضية ساركوزي)، أو استعمال الانقلابات كما وقع لتشافيز خلال سنة 2002 في انقلاب 48 ساعة الفاشل، أو استعمال آلية البرلمان كما وقع للرئيسة ديلما روسيف في البرازيل، أو انقلاب عسكري مباشر كما وقع للرئيس الشرعي مرسي في مصر. وغالبا ما تعاني الحكومة السياسية من تغول الدولة العميقة وتوغلها في شرايين الدولة، التي تسعى إلى تطويع هذه الحكومة وتوظيفها وفق أجندتها وإخضاعها لسياستها وأولوياتها، وكلما كانت الحكومة السياسية قوية بشرعيتها الانتخابية وبإنجازاتها التنموية، وعملها لفائدة مواطنيها من أجل تحقيق الحرية والكرامة والرفاه، كلما أضعفت الدولة العميقة، وهذا ما وقع لتركيا بعد فشل انقلاب 15 يوليوز والقضاء نهائيا على فلول الدولة العميقة بها، فمن إعدام الرئيس عدنان مندريس سنة 1961 لمجرد أنه أعاد الأذان، إلى قراءة القرآن بصوت الرئيس رجب طيب أردوغان وإفشال الانقلاب سنة 2017، دام هذا الصراع بين الحكومة السياسية والدولة العميقة في تركيا زهاء 56 سنة. الدولة العميقة بالمغرب: لم يخرج المغرب عن هذه القاعدة، بل يمكن اعتبار المغرب من أهم النماذج التي عرفت أقوى دولة عميقة بالنظر إلى طبيعة الحكم. ولقد نبه ابن كيران في أحدى التجمعات إلى وجود دولتين بالمغرب، دولة رسمية يرأسها الملك محمد السادس وأخرى لا يعرف من أين تأتي تعييناتها وقراراتها. إلا أنه تراجع عن هذا الكلام في الملتقى الوطني 14 للشبيبة، ولا أدري ما سبب تراجعه عن سابق كلامه! والمتتبع لتاريخ الحكومات بالمغرب لابد أن يقف على ذلك منذ فجر الاستقلال، وظهر ذلك جليا مع حكومة عبد الله إبراهيم التي لم تعمر إلا سنتين بعدما أقنع الحسن الثاني وهو ولي العهد آنذاك أباه السلطان محمد الخامس من أجل إعفاء عبد الله ابراهيم ويتولى السلطان شخصيا رئاسة الحكومة سنة 1960. وخلال تولي الحسن الثاني الحكم عمل على تثبيت أركان الدولة العميقة وتشكيل حكومات موالية وخادمة لها بدءً من حكومة أحمد بحنيني سنة 1971 وانتهاء بحكومة عبد اللطيف أفيلال المنتهية سنة 1998، بل كانت الحكومة هي جزء من الدولة العميقة وامتداد لها في المؤسسات الرسمية. لتدخل الدولة إلى عهد جديد من الحكومات بعد توافق القصر مع أحزاب الكتلة وتعيين حكومة عبد الرحمان اليوسفي. وخلال هذه المرحلة ستظهر المسافة بين الحكومة السياسية والدولة العميقة وغلبة الثانية على الأولى وتفوقها عليها من خلال العديد من القرارات التي اتخذتها الحكومة خلال تلك المرحلة إرضاء للدولة العميقة، والتي تتنافى مع مبادئ وتوجهات أحزابها، ومن بينها إغلاق الجرائد ومحاكمة الصحفيين … وتولت الدولة العميقة الحكم مباشرة خلال حكومة ادريس جطو، وبشكل غير مباشر مع حكومة عباس الفاسي. إلى حين تعيين حكومة عبد الإلاه ابن كيران، ليظهر نوع جديد من التوتر على الساحة السياسية بين حكومة ابن كيران السياسية وقوى التحكم (الدولة العميقة)، هذا التوتر الذي انتهى بإعفاء ابن كيران من رئاسة الحكومة الثانية والعودة القوية للدولة العميقة، الأمر الذي دفع بابن كيران إلى التنبيه إلى وجود دولتين في إبانه، والتراجع عن ذلك لاحقا. ومع تعيين حكومة سعد الدين العثماني، لا أدري كيف ستكون العلاقة بين الحكومة السياسية والدولة العميقة؟ هل ستكون الحكومة تابعة لها وفي خدمتها، أم سيتباعدات، أم سيكتفي ذلك الجهاز بمراقبة وتتبع الحكومة دون التدخل فيها؟