محمد الساسي شرع بعض الفاعلين السياسيين المغاربة في استعمال مصطلح «الدولة العميقة» للدلالة على القوى أو الأجهزة أو الأفراد المناهضين، من داخل جهاز الدولة، لخطط الإصلاح والتغيير. وقد مثلت البيئة السياسية التركية حقل التداول الأوسع لهذا المصطلح، وذلك منذ ما يزيد على قرن من الزمن؛ وظهرت الدولة العميقة، هناك، كأداة فعلية أفرزها تطور الأحداث السياسية واعتُبرت حارسة للعلمانية في مواجهة «الانحرافات» التي قد تصدر عن قوى إسلامية تحملها صناديق الاقتراع إلى سدة الحكم. الدولة العميقة تتدخل، هنا، ضد ما يمكن أن تقود إليه إرادة المنتخبين من تغييرات على مستوى بنيات الدولة وثوابتها، فتعمد إلى أشكال مختلفة من الضغط ووضع العراقيل والمطبات أمام مشاريع الوافدين الجدد على مؤسسات التقرير والتنفيذ الرسمية. وتُستعمل، أحيانا، كمرادف لمعنى الدولة العميقة، تعبيراتٌ عدة من قبيل (دولة داخل الدولة) أو (دولة فوق الدولة) أو (التحالف السري) أو (الدولة الأمنية) أو (الدولة الموازية). وتحدث الرئيس الأمريكي إيزنهاور عن (المركب العسكري الصناعي) كقوة مركزية في تقرير السياسة الأمريكية. الدولة العميقة هي، إذن، مركب أو مجمع من التحالفات وشبكات العلاقات التي تنجح في التحول إلى قوة سياسية نافذة داخل الدولة ومؤثرة في مسارها، وتتكون، عادة، من ذراع سياسي وذراع مخابراتي وذراع أمني وذراع عسكري وذراع مالي وذراع اقتصادي وذراع إعلامي وذراع قضائي، ويمكن أن ترتبط هذه الأذرع بشبكات مافيوزية عاملة ضد القانون. وتلعب الإدارة دورا مهما في خدمة الدولة العميقة وتشخيص إرادتها وإنجاح مشاريعها. إن مؤسسات الدولة قد تألف نهجا في العمل وطريقة في الاشتغال ويكسب الأفراد، الذين يمثلون أنويتها الصلبة، خبرات هامة ومصالح حيوية، فينشأ لديهم تعلق بمنحى الاستمرارية ويباشرون القيام بمختلف المناورات الهادفة إلى ضمان هذه الاستمرارية والحيلولة دون حصول تغيير يجردهم من مكتسباتهم ويجبرهم على هجر العادات المتأصلة فيهم. الدولة العميقة تتدخل، في الأغلب، لمنع حصول تغيير أو للحد من الآثار المحتملة لهذا التغيير، وتعمل، في نظرها، على «تصحيح» المسار السياسي الديمقراطي الذي قد تتمخض عنه أوضاع مربكة وقد يحمل مفاجآت غير سارة بالنسبة إلى مكونات الدولة العميقة، فتعتبر تدخلها مبررا بضرورة حماية المجتمع من «الانزلاقات» والحفاظ على السلام الأهلي وتجنيب البلاد عواقب أخطاء سياسيين غير مجربين وبلا خبرة وهفوات مُنْتَخَبين شعبويين ومغامرين. الدولة العميقة ترى في نفسها المؤتمنة على ضمان امتداد «السياسة العميقة» في الزمن وعدم خضوعها للرياح الانتخابية، وعلى تأبيد السياسة الاستراتيجية الكبرى والقارة، في نظرها؛ وتستعمل، في تدخلها، أدوات خفية ومتنوعة من ضغط وإكراه وتملص من تنفيذ الالتزامات القانونية والقرارات المنبثقة عن المؤسسات الرسمية المختصة، نظريا، وتحايل وتدليس وإغراء واستقطاب النخب الاقتصادية والسياسية والمالية والإعلامية، وتسعى إلى استصدار القرارات والقوانين التي تريد. وبهذه الطريقة، تتجاوز مكونات الدولة العميقة حدودها المؤسسية والنظامية، فهي تحاول استعمال المؤسسات الديمقراطية لصالحها ومحاربة وإضعاف وتهجين هذه المؤسسات إذا تصرفت ضد تلك المصالح. ويعتبر أردوغان أن كل دولة لها دولتها العميقة. وفي مصر، قال البعض بوجود دولة عميقة قادت حربا شعواء ضد حكم الإسلاميين، وقال البعض الآخر إن الحديث عن وجود دولة عميقة يرمي إلى تبرير أخطاء وعجز الإخوان. وبخصوص المغرب، هناك من يعتبر أن الدولة العميقة، من الناحية النظرية، هي المؤسسة الملكية، وهناك من يعتبر أنها «المخزن»، وهناك من يعتبر أنها تعني الإدارة الترابية. وعلى العموم، فإن الكثير من التحليلات يذهب إلى أن الحكومة الفعلية في المغرب -يطلق عليها البعض، صحافيا وليس علميا، اسم حكومة الظل- تتألف من المستشارين الملكيين، ومسؤولين أساسيين في قطاعات أمنية ومالية وإعلامية وقضائية، ومدراء مؤسسات كبرى، ووزراء السيادة؛ ولم يستطع التناوبان، الأول والثاني، الحد من نفوذ هذه «الحكومة». ومع شروع بعض قادة حزب العدالة والتنمية في الحديث عن الدولة العميقة، رَدَّ البعض، عليهم، بالقول إن المغرب لم يُبتلَ بوجود دولة عميقة، ولكنه ابتُلِيَ بوجود «دولة عقيمة» لا تشتغل جيدا ! في 1962، ذكر المهدي بنبركة، تعليقا على مجريات السنوات الأولى للاستقلال، أن «المبدأ الذي بدون احترامه تكون الحكومة اسما بلا مسمى، هو أن تكون بيد الحكومة سائر وسائل السلطة، وبالأخص الإشراف على موظفي وزارة الداخلية والمحافظين، وكذلك مصالح الجيش والشرطة والدرك التي كان القصر يعمل على احتكارها»؛ وذكر عبد الرحمان اليوسفي، وهو يستحضر دروس نفس السنوات، أن «القوة الثالثة بدأت في شغل جميع المناصب والوظائف حتى داخل القصر وفي كل دواليب الدولة، وهو الأمر الذي أدى إلى حدوث أزمة سياسية في البلاد»، و«لهذا السبب كانت إقامة الديمقراطية بالمغرب، غداة الاستقلال، ترتبط بإبعاد القوة الثالثة من مراكز القرار ووضع حد لهيمنتها». وفي مرحلة لاحقة، لم يعد هناك مجال للحديث عن قوة ثالثة (أو دولة عميقة) تعرقل عمل حكومة وطنية، بل تحول النظام، وفقا لقاموس المعارضة اليسارية آنذاك، إلى «حكم فردي مطلق» و»لم يعد مجال للقصر لكي يقف موضوعيا موقف الحكم أو الوسيط». إن وصف ما حدث في 1960 بكونه انقلابا يعني أن «دولة عميقة» انقلبت على حكومة وطنية تقدمية. مفهوم الدولة العميقة يفترض، ربما، وجود حكومة منبثقة عن صناديق الاقتراع وتمثل مصدرا رسميا للقرار وتريد إحداث تغيير، ولكن الدولة العميقة تتصدى لها وتنتزع منها اختصاصاتها، فعليا، وتحاول فرض أمر واقع مخالف لما تنوي الحكومة إتيانه من أعمال ورسمه من توجهات؛ فبالنسبة إلى المغرب، ورغم ولوج البلاد عهد «المسلسل الديمقراطي»، في منتصف السبعينيات، ظلت الحكومة صورية وطيعة وتابعة لإرادة الذين يقررون من خارجها. وهذا هو الواقع الذي كان الاتحاديون يشيرون إليه حين يتحدثون عن وجود «حزب سري» أو وجود «حكومتين أو ثلاث حكومات» أو وجود «مركب مصالحي إداري استغلالي»، وكان يُنْظَرُ إلى وزارة الداخلية كناطقة باسم مركز السلطة الفعلي، ولهذا سُميت بأم الوزارات. لكن، خلال مرحلة التناوب الأول، أصبحت مقولة «جيوب المقاومة» أقرب إلى مفهوم الدولة العميقة؛ فهناك حكوميون التزموا بإحداث تغييرات جوهرية ولكنهم وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام سلطة نافذة تناهض تلك التغييرات؛ وعبر عن ذلك ذ. اليوسفي بوضوح حين اعتبر أن أحد الأعطاب المؤسسية الخطيرة في المغرب يتجسد في وجود ازدواجية بين سلطة الدولة وسلطة الحكومة، فلا يتعلق الأمر بمجرد جيوب تقاوم سلطة هي في طريق حسم الأوضاع لصالحها، بل يتعلق بوجود سلطة للدولة لا تترك للحكومة إلا هامشا ضيقا للتحرك. وخلال مرحلة التناوب الثاني، تحدث بنكيران عن وجود تماسيح وعفاريت تحارب مشروع الإصلاح، وهذا شبيه بمصطلح «الذئب الأغبر» الذي استُعمل في تركيا. التماسيح مفترسة، وهذا يعني أنها تعبر عن مصالح كبرى ولها قدرة على الفتك بخصومها. والعفاريت تشتغل في الظلام، وهذا يعني الإشارة إلى طابع التخفي الذي تتخذه تحركات الكائنات التي يطلق عليها قياديون في العدالة والتنمية اسم الدولة العميقة. قبل دستور 2011، رفع شباب حركة 20 فبراير لافتات تحمل أسماء الشخصيات التي تؤلف الفريق الحكومي الحقيقي. وبعد دستور 2011، لم يتغير هذا الواقع، جوهريا. طبعا، لا يمكن للدستور، وحده، أن يضمن هذا التغيير؛ ومع ذلك، فإن الوثيقة الدستورية الحالية، في المغرب، ورغم ما حفلت به من «مستجدات»، تجنبت، بذكاء، الإطاحة بالأسس التي تسمح بقيام الازدواجية بين حكومة رسمية وحكومة فعلية. وفي جميع الأحوال، فإن استخدام قياديين في العدالة والتنمية، اليوم، لمصطلح الدولة العميقة، يساهم في تطور القاموس السياسي المستعمل في قراءة الوضع السياسي المغربي وفي تَمَثُّلِه وكشف مفارقاته.