تبلورت الأرضية الأولى ل"جمهورية الضباط"،بعد الإطاحة بالنظام الملكي في مصر،وتثبيت العقيد جمال عبد الناصر رئيسا للبلاد عبر استفتاء شعبي سنة 1956.ورغم التخفيف جزئيا من الصبغة العسكرية لمجلس الوزراء في عهد السادات،و انتهاج سياسة التهميش الظاهري للجيش في عهد مبارك،لم تفقد جمهورية الضباط تغلغلها وتوسعها في مفاصل الدولة والمجتمع؛بل توسعت بأشكال جديدة وتحالفت جزئيا مع نظام مبارك،لحمايته وحماية مصالحها،إلى أن خرجت من عباءة نظامه لما أطاحت به ثورة 25يناير،لتقفز إلى سفينة الثورة. وإذا كان الجيش في عهد جمال عبد الناصر يعتبر،بحسب الأيديولوجية الناصرية،عامل تغيير اجتماعي،وأداة لتنفيذ سياسة الثورة من فوق التي يؤمن بها عبد الناصر؛إذ أشرف على إعادة توزيع الأراضير ومصرنة القطاعات الإنتاجية الحيوية،خاصة القطاعين الصناعي والمالي،إلا أن مبارك استغل هذه الخبرة و عمق دمج القوات المسلحة في نظام اقتصادي ريعي يقوم على التمتع بالنفوذ والمحسوبية،عبر استقطاب كبار الضباط والنافذين في الجيش،فنزع عن الجيش تلك المهمة الأيديولوجية التي رسمها له عبد الناصر،بل نزع عنه دوره السياسي،ليتوارى إلى الخلف،لفائدة أجهزة الأمن الداخلي؛الداخلية،ومباحث أمن الدولة...توارى الجيش إلى الخلف ليتجذر في مفاصل الحياة المدنية،حتى أصبح وجوده فيها أمرا عاديا عند عموم الناس،وعند أفراد الجيش أنفسهم. وفي مقابل تواري الجيش إلى الخلف وعد مبارك قادته وضباطه بمنح مجزية عند التقاعد،وفرص مواصلة العمل في القطاعات الحكومية؛مثل إدارة الشركات التجارية التابعة للدولة،وإكراميات ومنح لاحدود لها.ورغم ذلك فقد استفاد من هذه التحفيزات مقابل الولاء لمبارك،فئة قليلة من أصحاب الرتب العالية في الجيش،على حساب ضباط ذوي الرتب المتوسطة والدنيا،خصوصا بعد تولي المشير محمد حسين طنطاوي وزارة الدفاع عام 1991،وخفض الإنفاق العام في مصر. ومن هذه اللحظة سيتكرس الفرز بين فئات الضباط الكبار والمسؤولين والجنود؛إذ سيتم تهميش صغار الضباط،والذين تكون لهم توجهات سياسية في الغالب،ويكونون بذلك غير جديرين بالثقة والتحفيز،فيحرمون من الترقية.لذلك تضخمت "طائفة الضباط الكبار"،بحسب توصيف عالم الاجتماع المصري الدكتور أنور عبد المالك،خصوصا بعد استحداث رتبة عسكرية رفيعة هي:"فريق أول"،وهي رتبة الانقلابي عبد الفتاح السيسي.وظلت هذه الطائفة من الضباط الكبار تتضخم ،رغم انتهاء حالة الحرب مع إسرائيل بالنسبة للجيش المصري منذ سنة 1979.كما تتضخم هذه الطائفة عبر تقنية "الاستدعاء"؛وهي عقود يستفيد منها كبار الضباط بعد التقاعد،تصدر لهم،وتسمح لهم بالبقاء في الزي العسكري،وفي الخدمة الفعلية،ماعدا قيادة العمليات،وقد تجدد هذه العقود إلى مدد قد تزيد على عشر سنوات. وتنفذ هذه العقود ولو كان الضباط المتقاعدون يشتغلون في القطاع المدني ويحصلون على رواتب جراء ذلك.وهذه السياسة هي التي وسعت نفوذ الجيش خارج الحدود الرسمية للمؤسسة العسكرية. لقد عمل مبارك على دمج الضباط الكبار في الجيش في نظامه القائم على المحسوبيات والريع والانتفاع دون مجهود،للتحكم فيهم والحيلولة دون صعود رجل عسكري ينافسه في الزعامة.مع الاستفادة من تجربة وزير الدفاع ،قبل المشير طنطاوي،أبو غزالة؛إذ عزله مبارك لما كان يتمتع به من شعبية تفوق شعبية الرئيس،سواء داخل الجيش أو وسط عامة الناس.وتم تعيين المشير طنطاوي الذي كان يصفه ضباط الجيش بكلب مبارك ،بحسب وثائق وكيليكس في الموضوع المتعلقة بالسفارة الأمريكية في مصر سنة 2008.كما ساعد مواجهة نظام مبارك للجماعات المسلحة ،و كذا تعرضه لمحاولة اغتيال في أديس أبابا سنة 1995،على التعجيل بعملية الضم والتحالف بين دولة مبارك وجمهورية الضباط،مع أن مبارك يميل دائما إلى تقوية الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية؛إذكان يرفع من ميزانياتها باستمرار، مقارنة بميزانية الدفاع. ورغم البروز اللافت للدولة الأمنية في عهد مبارك،مما ساهم جزئيا في تهميش القوات المسلحة،خصوصا من خلال مواجهة الإسلاميين والقوى السياسية المعارضة،إلا أن الجيش ظل يلعب دورا أساسيا في حماية نظام مبارك.وظل العسكريون المتقاعون ذراعا أمنية وتنفيذية مرتبطة بالرئيس من خلال منصب المحافظين الذي يعينون فيه.كما يحتل ضباط الجيش مواقع قيادية وإدارية عليا حساسة في وزارة الداخلية وجهاز المخابرات العامة.كما استفاد الضباط من عملية الخوصصة التي نهجها مبارك سنة 1991 لتحسين شروط التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول إتفاقية 1987.وقد أحدثت هذه العملية تحولا رأسماليا مشوها في الاقتصاد المصري، وأتاحت الفرصة لكبار ضباط الجيش بالتوغل في مفاصل الاقتصاد المصري التابع للدولة؛إذ تم تعيين الكثير منهم على رأس مجالس مجموعة من الشركات،كما كان فرصة لضباط أخرين لمراكمة الثروات والحصول على أملاك إضافية، مما أعاد مصر مرة أخرى إلى المجتمع العسكري ؛ فقد أعادت جمهورية الضباط مفهوم المجتمع العسكري ،بشكل مشوه،كما صاغ نموذجه حكم عبد الناصر. فبرغم أن مبارك كان يمتلك سلطة القرار السياسي،بقيت القوات المسلحة لاعبا محوريا ضمن أجنحة الحكم المتصارعة ومتعددة المحاور،والتي كانت الرئاسة تسعى دائما للتحكم فيها؛خصوصا الأجهزة الأمنية والاستخباراتية،والجماعات الاقتصادية الأساسية،وأجهزة الحزب الوطني الحاكم.هذا الأخير حمل على عاتقه التحكم في القوات المسلحة والحد من نفوذها،من خلال بروز نجم جمال مبارك محاطا بجيش من رجال الأعمال المتنفذين،ووزراء،وضباط موالين للرئاسة والحزب. وحاول مبارك ضمان ولاء فئة من الضباط ،والسعي الحثيث إلى إبعاد الجيش نفسه عن الحياة السياسية،عملا بنصيحة عبد الناصر:"لانريد سياسيين في الجيش"،من منطلق أن الجيش في حد ذاته قوة سياسية تحتاج فقط إلى التحكم الصارم والذكي ثم التوظيف.وبرغم من أن خطة مبارك قد نجحت في الحد من قدرات الجيش على المبادرة والإبداع،إلا أنها لم تستطع الحيلولة دون رغبات الضباط الكبار في الحفاظ على ثرواتهم ومكتسباتهم الاقتصادية والاعتبارية المتعددة.وقد ظهر ذلك في هيمنة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على الحياة السياسية المصرية بعد ثورة 25 يناير2011؛مجلس يتكون من وزير الدفاع ومساعديه في الشؤون القانونية والمالية ورؤساء أركان فروع القوات المسلحة الأساسية ورؤساء الاستخبارات العسكرية وقادة المناطق العسكرية الخمس. وقد سعى المجلس في إدارته للصراع السياسي إلى إقناع الضباط وضباط الصف،وهم القاعدة الأساسية لجمهورية الضباط،وكذا الأفراد،بأنه يمثل مصالح القوات المسلحة،وليس مصالح جمهورية الضباط.والحقيقة أنه كان يدافع عن المصالح الفئوية للضباط الكبار،العصب الرئيس لجمهوريتهم.لذلك فشل المجلس الأعلى للقوات المسلحة في تقديم رؤية اجتماعية أو برنامج اقتصادي أو تصور سياسي واقعي للمرحلة النتقالية بعد ثورة 25يناير.وظل يظهر أنه لايرى مانعا من الانفتاح السياسي وبناء نظام ديمقراطي،يقوم على تجسيد إرادة الشعب عبر الانتخاب، ووفق مقتضيات دستور مستفتى شعبيا حوله،لكنه ظل عاجزا عن التنبؤ بمالات العملية الديمقراطية،كما ظل مسكونا بهاجس الخوف الضمني على مصالح ضباطه الاقتصادية والشخصية.لذا ظهر على المجلس الأعلى للقوات المسلحة ارتباك كبير وتخبط لما وجد نفسه أمام عملية انتقالية غير مألوفة ومقلقة.لذلك ارتد بسهولة إلى قيمه الأبوية وأعرافه السلطوية،مع اسغلال تغلغله في الوجدان الساذج لفئة من الناس،وبدأت تظهر مقاومته للمسار الديمقراطي الوليد في البلد،كلما شعر بتهديد مصالحه،الاقتصادية والسياسية على الخصوص. لذلك احتكر كل أجندة العملية الانتقالية،وأظهر تهميشا مخيفا للقوى المدنية :عكس ماتم في تونس،التي سلم فيها الجيش مقاليد الأمور،بعيد الثورة،ل"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي."وتتشكل كلها من المدنيين.لذلك شوش المجلس العسكري على العملية الدستورية وهمش المدنيين،بل عمق النزاعات بينهم والاشتباك والتقاطب الحاد،وشق عصا الثورة،ليحتكر الوصاية عليها،ويفرض على الواقع السياسي المصري الجديد رؤاه المحدودة والمضطربة،خصوصا وأن التقارير المسربة من السفارة الأمريكية في سنة 2008،كانت تؤكد على ضعف مستوى التأطير والتفكير عند قادة الجيش،وتراجع الجهوزية التكتيكية والعملياتية للقوات المسلحة المصرية،وتفشي الفساد المالي فيه،وترهل ضباطه وتحولهم إلى قطط سمان ومدللين،نشأوا في ظل نظام من المحسوبية والبذخ والكسب غير المشروع،مما أكسب الجيش المصري انغلاقا وجمودا على حساب الكفاءة والمبادرة والإبداع في العمليات المتعلق بالأمن القومي والاستراتيجي.وتم إغراقه في المستنقع السياسي الداخلي،ففقد الجيش المصري الكثير من الاحتراف المهني،والقدرة القتالية. وقد ظهر ذلك في الوثائق الأمريكية المسربة،والتي كانت سلبية في تقييم دور الجيش المصري في عملية "عاصفة الصحراء" في الكويت سنة 1991.إنها النهاية المؤسفة لجيش يتم تحوير رسالته من المرابطة في الثغور إلى السكن في القصور،ومن رصد العدو الخارجي الصهيوني المتربص إلى قتل المتظاهريين السلميين من أهل الوطن.