"بين أيدي الجيش. الحرية والفوضى في مصر والشرق الأوسط" هو عنوان كتاب صدر مؤخرا للصحفي والكاتب الأمريكي دافيد كيركباتريك بجريدة "نيويورك تايمز"، وأحد الأخصائيين في "الربيع العربي"، وهو كتاب يكرس تقليدا أمريكيا لصحافة التحقيق الميداني الرصين. ويعمل الكاتب حاليا كمراسل للجريدة في لندن، إلا أنه قرر العودة إلى مصر، حبه الأول في العالم العربي، التي قضى فيها 4 سنوات من أجل تأليف كتابه هذا الذي يصنع الحدث هذه الأيام. اشتغل كيرباتريك رئيسا لمكتب نيويرك تايمز في القاهرة في 2011 عند اندلاع الثورات العربية. وذات يوم، طلب منه رئيسه في نيويورك أن يذهب إلى تونس لتغطية حدث الانتحار الشهير لمحمد البوعزيزي والذي سيشعل الثورة التونسية وفي باقي دول المنطقة. وهكذا سيجد الصحفي نفسه بالصدفة محاصرا في تونس لا يمكنه العودة إلى القاهرة بسبب إغلاق المطارات، فأصبح مضطرا للقيام بتغطية هذه التطورات "رغم قلة خبرته الصحفية" آنذاك كما يقول. وكان قبل مجيئه إلى القاهرة، وهو خريج جامعة واشنطن، قد تعلم اللغة العربية، وذلك ضمن تقليد معروف عن الصحافيين الأنجلوسكسونيين الذين يحرصون، عكس الفرنسيين، على تعلم العربية قبل أو بعد المجيء إلى الدول العربية حتى تكون لهم معرفة أدق بالميدان وبالناس. يحكي كبيرباتريك في كتابه قائلا: عُدت للكتابة عن هذه الأحداث بعد وقوعها بسنوات، لفهم دور واشنطن بشكل أفضل. وهكذا علمت وفهمت أن دعم إدارة أوباما لانتفاضات الربيع العربي قد تعرض لصعوبات منذ البداية، بسبب بروز خلافات داخلية حول نفس القضايا التي تظهر الآن في سياسة دونالد ترامب – سواء ما يتعلق بطبيعة تهديد الإسلام السياسي، وبالإخلاص لحلفاء أمريكا الأوتوقراطيين مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية، وبصعوبة تحقيق تغيير ديمقراطي في مصر والمنطقة". في القاهرة، كان المؤلف شاهدا على مظاهرات ساحة التحرير، وعلى الإطاحة بالرئيس حسني مبارك ثم بالرئيس محمد مرسي. ولعل من أبرز الأسباب التي دفعته إلى تأليف الكتاب ما وقع في ساحة رابعة من قمع لأنصار محمد مرسي، حيث يصف لقناة "سي إن إن" ما وقع بأنه كان: "هجوما واسعا بالرصاص مات خلاله الآلاف من المدنيين غير المسلحين. وهو هجوم أكبر من ذلك الذي وقع خلال قمع مظاهرات المعارضين الصينيين في ساحة تيانانمين في بيكين في 1989. لقد كنت خائفا وأنا أشاهد ما يجري في رابعة. ولن أنسى أبدا الدماء التي أريقت ذلك اليوم. ولهذا قررت العودة إلى مصر لكتابة هذا الكتاب". يؤكد الكاتب في الواقع ما صار اليوم معروفا ومسلما به حول طبيعة وصراع السلطة في مصر، سواء في ما يتعلق بكون الرئيس محمد مرسي رئيس الإخوان المسلمين المنتخب لم يملك أصلا السلطة أمام وزرائه، وخاصة وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي ووزير الداخلية، أو في ما يتعلق بمسلسل إضعاف مرسي من قبل دول الخليج… ولكن الجديد في كتابه هو نقله لتفاصيل دقيقة لمعطيات ولحوارات جرت في كواليس الحكم داخل الإدارة الأمريكية وقياداتها بخصوص طريقة التعامل مع ما يجري في مصر وفي المنطقة المنطقة، وقد نجح في ذلك بفضل المصادر المتعددة، الأمريكية أساسا، التي استطاع الوصول إليها، والحصول بالتالي على معلومات حول ما جرى من أحداث ما زالت تشكل "تاريخا راهنا" وساخنا وحساسا بامتياز، لكن حساسيتها لا تمنع المسؤولين من الكلام عنها، ومن كشف حقائقها عوض التكتم البنيوي والنفسي السائد لدى المسؤولين في الدول العربية مما يجعل تاريخنا الراهن في الغالب إما منسيا أو مزورا. ويرى المؤلف أن الإدارة الأمريكية، على عهد أوباما، ورغم الخطابات الشهيرة لهذا الأخير المؤيدة لتصالح أمريكا مع العالم العربي، وللدمقرطة، فإن هاته الإدارة "كانت ترسل رسائل غامضة ومتناقضة، بحيث أنها كانت تقول، من جهة، إنها مع الديمقرطية وإرادة الشعوب، ولكنها كانت، في نفس الوقت، تقول إنها تريد أن تبقى صديقة مع الجيش، وهو ما جعل الجيش يتشجع للسيطرة على السلطة". واليوم، لم يتغير الواقع حسب الكاتب، بحيث أن الرئيس "ترامب يحب السيسي، والسيسي يحب ترامب". ويوضح كيركباتريك بهذا الخصوص وبالتفصيل ما يلي: "إلى غاية الأيام الأخيرة قبل الاستيلاء على السلطة، كان أوباما يحث على احترام انتخابات حرة في مصر. لكن وخلال مكالمة هاتفية دامت 11 ساعة، ناشد أوباما السيد مرسي أن يتخذ "خطوات جريئة" حتى يستمر في منصبه. لكن غالبية أعضاء إدارة أوباما مالوا إلى آراء الجانب الآخر، مما كان يعكس مخاوف قديمة لديهم بشأن الخطر الحقيقي للإسلام السياسي، وبشأن العقبات التي تعترض الديمقراطية المصرية. وبعد يومين من هاته المكالمة الهاتفية، وبعد يوم من إبعاد محمد مرسي، وخلال اجتماع للبيت الأبيض، استسلم أوباما إلى تلك الآراء عندما قبل باستيلاء العسكر على السلطة. وبقيامه بذلك، يكون أوباما قد اتخذ خطوة أولى نحو السياسات التي أصبحت تشكل المبادئ الأساسية لإدارة ترامب". وكان أوباما يحث مرسي على العمل في اتجاه قيادة حكومة وحدة وطنية في البلاد بحيث قال له: "سر على نهج نيلسون مانديلا" زعيم جنوب إفريقيا الراحل الذي استطاع توحيد البيض والسود وقيادة حكم انتقالي دمقراطي. يعتبر كيرباتريك أن ما وقع في مصر، وهي قلب المنطقة العربية ثقافيا وسكانيا، أرسل إلى بقية العالم العربي رسالة مفادها أن المواطنين لديهم فقط الإختيار بين حكم المتطرفين أو بين الفوضى. حيث يوضح الكاتب، الذي يؤكد أنه لا يدافع عن الإخوان كفكر وكتوجه، أن "هذا الانقلاب كان لحظة فاصلة بالنسبة للمنطقة، حيث أنه قضى على أحلام الديمقراطية وأدى إلى تشجيع كل من الحكام المستبدين والجهاديين". وقد اعتبرت جريدة "الكارديان" البريطانية أن الكتاب كشف أيضا عن تردد الليبراليين المصريين ثم تأييدهم للإنقلاب لرفضهم فكرة مجيء رئيس إسلامي إلى السلطة. إلا أن كيربتريك يسجل، في نفس الوقت، نجاح تجربة الإسلاميين في تونس وتميزها حيث يرى أنها "تجربة خاصة نجحت بدون عنف في إقرار دستور جديد وفي دخول تجربة انتقالية للحكم" السلطات المصرية لا تكن الكثير من الود للصحفي الأمريكي حيث تشن عليه الصحف المقربة من السلطة منذ مدة طويلة، هجمات قوية وانتقادات مستمرة، ومن بين التهم الجاهزة التي كانت توجهها إليه هي أنه يربط علاقات مع الإخوان المسلمين، وبأنه "يتعمد تشويه صورة مصر"، وهي حملة يحتمل أن تزداد مع صدور كتابه الجديد هذا، وقد تكون التهمة الجاهزة هذه المرة هي أيضا ربط علاقات مع الإدارة الأمريكية.