المسؤولية هي اللبنة الأساسية والضرورية لبسط الأمن وإفشاء السلام وتحقيق حسن التعايش وبناء الأمة وتأصيل الحضارة، المسؤولية هي العنوان الكبير للوعي العالي والنضج المكتمل لدقة التكليف، والمسؤولية تعني – فيما أرى – الحياة الملازمة للعقل في أقصى درجات الوعي والصَّحْوِ ما أمكن.. والمسؤولية مرتبطة كليا بالضمير، الذي إن غاب.. انحاز صاحبه إلى منطق الفوضى والغاب، لذلك فتخلفنا غير متصل البتة بالصدفة أو "القدر" أو قلة الحظ، سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أم بالإدارة أم بالتربية والتعليم بأصنافه المختلفة أم بالصحة أم بالرياضة… ويبدو أن تخلفنا لن نتخلص منه إلا بالإيمان بضرورة المحاسبة والجزاء، والنظر وُجوباً إلى الوراء حتى ننطلق جيداً بحذر ومعرفة و.. حُسن مسؤولية إلى الأمام. وإذا علمنا أن الشعوب التي استنهضت هِممها بتصحيح أخطائها وخطاياها، وانطلقت في العمل والكد دون عُقد واستبعدت الأنانية في تحمل الأعباء بتضحية عالية، لم تأتِ من كواكب أخرى بل هي أيضا من بني الإنسان تأكل وتشرب وتمشي في الأسواق، فإنه يمكننا فعل أشياء إن نحن استبعدنا "الأعشاب الضارة" بيننا، وأقررنا في تشريعاتنا تجريم الكذب (…) والتضليل فينا. والأعشاب الضارة موجودة فينا وبيننا، بأحزاب سياسية طبعا وبدون استثناء، كما هي موجودة بجمعيات ومنظمات ثقافية وفنية ورياضية مختلفة، ولا شك أيضا أنها مستوطنة بهيئات تطوعية وإحسانية ودينية..، وكل هذا ليس غريباً ولا مدهشاً، فالشَّرُّ والجَشَعُ موجودان مُذْ وُجِد الخلقُ، إنما الغرابة والدهشة بل الذهول يتجلى للأسف في الاستسلام للأمر الواقع المزري الذي يتعاظم متسارعاً مخيفا يوماً عن يوم.. لا، بل ساعة إثر ساعة.. ! لذلكم، فإن روح وواجب المسؤولية لابد أن يصحوَ بيننا ويتحرك فينا وفي إطار مُؤَسَّسي، بوعي ومعرفة وتكاثف وتعاضد، ضمن ميثاق تحكمه الأخلاق أولاً، والجد والعزم ثانياً، والدقة والتدقيق والحزم لُزوماً ! ومما ينبغي التأكيد عليه – بعيداً عن لغة الخشب أو خلفية ضيقة – ضرورة وضع معايير موضوعية تتأسس على مبدأ الحزم لتحمل أعباء المسؤولية التدبيرية، متصلة بمنطق العدل والإنصاف والتتبع والمحاسبة والزجر، واستبعاد "هامش" الاستثناء (…) بأي حال، والحق أن "هامش" الاستثناء في إسناد المسؤولية هو الورم الخبيث الذي تولد ويتولد عنه إلى الآن معظم المصائب، وكل التخلف، وكل مبعث عار وخجل.. !!! وغني عن القول أن المسؤولية في السياق (سياق المؤسسة، والمقاولة، والهيئة، والدولة…) تتطلب تلقائيا خضوعها لضوابط حازمة لتؤتي أكلها إيجابا لمصلحة المستفيد والهيئة الرئاسية أو الحاكمة والمجتمع على حد سواء، وبالتالي فإن ثمارها تعود بالنفع بلا شك على الجميع وعلى المحيط، إذ مسؤولية الرسل والأنبياء – وهي أعظم مسؤولية على الإطلاق – لم تُسند إلى أصحابها عبثا أو صدفة، ومؤكد أن المسؤولية اللاحقة مهما كانت دنيا لايجوز بحال ولا يليق التقليل من شأنها أو الاستهانة بدورها في المجتمع أوترك الحبل على الغارب كما يقال، بينما المسؤولية بالشياق هو حال خونة الأمانة الذين يرون فيها ريعا وقفاً عليهم، أو فرصة للإثراء بلا سبب (!) وإذا كان التشبث بواجب المسؤولية على اعتبار أنها واجب ذاتي، وعلى أنها فريضة عينية تتطلب الرعاية الموصولة وحسن التقدير إرضاء للضمير إيماناً، واحتراما لأمانة التكليف التزاماً، فإنه من باب الأولى على الرعاة والقائمين على نظم الحكامة استحضار فرائض المسؤولية تماماً على نحو فرائض أركان الدين، وإذا كان "العقل" من أحكام الصلاة والصوم والحج مثلا، فكيف يعقل مثلا أن تسند المسؤولية الإدارية لمن يعاني الوسواس القهري الحاد ؟ ! أهي أدنى أم أهون من فريضة الصلاة والصوم والحج ؟ أم أن "القرابة" و "الحظوة" شافعة بالإعفاء من بعض الفرائض والأحكام..؟ ! ثم "المعرفة"، هل تعد فريضة في وجوب تحمل المسؤولية الإدارية مثلا، أم هي "مستحبة" فقط ؟ إذا كانت فقط مستحبة، بمعنى توفرها كعدمه، ألا يحيلنا القياس الموضوعي إلى أن الصلاة مثلا – و هي عماد الدين – لا تتطلب من صاحبها العلم والمعرفة بالضرورة، ويكفي التقليد بالوقوف والركوع والسجود.. ، وكذا الطواف والسعي.. إلخ بالنسبة للحج..؟! ثم ماذا عن السيرة الذاتية المهنية، وعن العطاء المحقق، وماذا عن روح المُواطَنة، أو ما يتصل ويُعْرَف بالأمن القومي..، والوعي به ؟ إن أصل المشاكل والمصائب هاهنا، في الاستخفاف بالمسؤولية، بدءاً من البيت والأسرة والمدرسة، لتمتد إلى المجتمع وإلى أمانة إسناد المسؤولية، وإلى تحمل المسؤولية بالمجتمع أو جزء منه ضمن فضاء المؤسسة وهيبة المؤسسة…، وحين نحصد النتائج المسيئة أوالكارثية، ويستأسد الشر ويطغى، يسود الصمت والجبن بين البعض، وتتنابز الإشارات والأصابع بالتهم وحتى القذف بين البعض، فتغيب دلائل الشجاعة، وتختفي أصول الأخلاق، وتتوارى روح المسؤولية ! ***