لا يزال سؤال اللغة داخل المجتمع يثير العديد من النقاشات بين النخب المجتمعية على اختلاف مشاربهم الفكرية، وتوجهاتهم الإيديولوجية، من هنا نشأت طروحات متعددة؛ تتراوح بين الطروحات الإيديولوجية والطروحات المعرفية وبين الشق الأول والشق الثاني يجد الاتجاه البراغماتي (النفعي) لنفسه مساحات أكبر في بسط رؤيته للمسألة اللغوية مستعينا بما جادت به وسائل التأثير، حتى صار اليوم مقارنة بالاتجاهين السابقين أقدر على إعادة رسم خرائط المشهد اللغوي المغربي، على الأقل في صفوف الفئات الشعبية، ساعده في ذلك امتلاكه لوسائل الإعلام والاتصال وإقتناع فئة من المثقفين بطروحاته التبشيرية البراقة. والمجتمع كفضاء للتعايش منذ القديم لم يكن ينفك عن قضايا اللغة، بل يمكن القول إن اللغة حضيت في كل الحقب التاريخية للمجتمعات البشرية، بالاهتمام البالغ، تجلى ذلك بالاهتمام بها دراسة وتقعيدا وكتابة، وتطويرا في جميع مستوياتها الصوتية والصرفية والتركيبية، وهذا ما تسجله لنا الكتب التي دونت فها مجهودات المهتمين بالشأن اللغوي عبر العصور، التي كانت فيها الكتابة. وحين نتكلم عن العلاقة بين اللغة والمجتمع. أو عما تؤديه اللغة من وظائف عديدة في المجتمع ينبغي أن نعرف كلا من هذين المصطلحين: فالمجتمع هو مجموعة من الأفراد والجماعات تعيش في موقع جغرافي واحد وتربط بينها علاقات اجتماعية وثقافية ودينية. ومن ذلك نجد أن العناصر التي تكّون المجتمع تتمثل في: إدراك أفراد المجتمع وشعورهم بأنهم يكوّنون وحدة واحدة. واللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، كما عرفها "ابن جني"، فهي ما يتكلمه أفراد مجتمع معين. ورغم أن هذين التعريفين يعبران عن تصوير شامل لكل من المصطلحين فإن هذه الشمولية تقدم لنا فائدة كبيرة خاصة حين يتبين لنا أن هناك أنواعا عديدة من المجتمعات علينا أن ندرسها، وأن الكلام في المجتمع يمكن أن يظهر في أشكال مختلفة غاية الاختلاف، وأن بعض المجتمعات قد تكون متعددة اللغات فيستعمل عدد كبير من أفراد المجتمع أكثر من اللغة. واللغة ترتبط بالمجتمع. وتشغل فيه مكانا ذا أهمية أساسية، إذ هي أقوى الروابط بين أعضاء المجتمع، وهي في الوقت نفسه رمز إلى حياتهم المشتركة وضمانا لها. وليست اللغة رابطة بين أعضاء مجتمع واحد بعينه، وإنما هي عامل مهم للترابط بين جيل وجيل. ولقد تناول الباحثون الروابط بين اللغة والمجتمع، وقدموا لنا العديد من الأبحاث القيمة فإذا نظرنا إلى تاريخ علم اللغة فمن النادر أن نجد أبحاث في اللغة تكون منعزلة انعزالا تاما عن تاريخ تلك اللغة، أو توزيعاتها الإقليمية والاجتماعية أو ارتباطها بالأشياء، والأفكار، والأحداث، والمتكلمين، والمستمعين. ومن هنا نجد إخفاق المقاربات البنيوية والصورية التي حاولت أن تعزل الظاهرة اللغوية عن سياقاتها الاجتماعية والثقافية في حياة الناطقين بها، ومن هما كانت العودة بالدراسات اللغوية في المقاربات ما بعد البنيوية والتوليدية لتشمل كل سياقات التخاطب، فهذا فيرث (J.R.Firth) يقترح بفكرة السياق التي تشبه المقام الذي نص عليه علماء اللغة العربية قديما. فالكلام عنده ليس ضربا من الضوضاء يلقى في فراغ، وإنما مدار فهم الكلام والقدرة على تحليله إنما يكون بالنظر إليه في إطار اجتماعي معين. هذا الإطار له عناصر متكاملة وضرورية في عملية الفهم والإفهام. أما عن الروابط بين اللغة والمجتمع فالتركيب الاجتماعي يؤثر في شكل التركيب اللغوي والسلوك والدليل على ذلك ظاهرة (تدرج السن)، حيث يتكلم الأطفال الصغار بطريقة تختلف عن الطريقة التي يتكلم بها الأطفال الأكبر سنا، وقد أثبتت الدراسات أن التنوعات اللغوية التي يستعملها المتكلمون تعكس أمورا مثل الأصل الإقليمي، أو الاجتماعي، أو العرقي، وقد تعكس النوع كما كشفت دراسات أخرى. كما أن التركيب اللغوي والسلوك يؤثران في شكل التركيب الاجتماعي. وهذا ما تقول به فرضية هورف وما يدعيه برنستين من أن اللغات وليس المتكلمين بها يمكن أن تكون لها السيطرة اقتصادية واجتماعية من أفراد نوع على أفراد نوع آخر. فاللغة والمجتمع يؤثر أحدهما في الآخر، فقد قدم ديتمار N.Dittmar نظرة ماركسية يزعم فيها أن السلوك اللغوي والسلوك الاجتماعي في حالة تفاعل دائم، وأن حالات الحياة المادية عامل مهم في هذه العلاقة. وعلم اللغة الاجتماعي هو محاولة لإيجاد روابط بين التركيب الاجتماعي والتركيب اللغوي، وملاحظة أي تغيرات تحدث، أي إنه محاولة في لوصف وتفسير استعمالات اللغوية في علاقتها بالنسيج الاجتماعي. وانطلاقا من تحليل تشومسكي للغة على اعتبار أنها واحدة من خصائص النوع الإنساني في مكوناته الأساسية، فاللغة تدخل بطريقة جوهرية وسلسة في كل من الفكر والفعل، والعلاقات الاجتماعية، على ضوء هذا سنقوم بتحليل علاقة اللغة بالمجتمع من خلال التطرق إلى مجموعة من النقاط الجوهرية التي تمس كل من اللغة والمجتمع في علاقاتهما: وظائف اللغة في المجتمع نتعرف من خلال هذه النقطة التحليلية على أهم الوظائف المنوطة باللغة بهدف تحديد العلاقة بين متغير اللغة ومتغير المجتمع من منطلق تحديد الوظائف، وقد حدد الباحثين الكثير من هذه الوظائف التي اختلفت باختلاف التعاريف المقدمة لمفهوم اللغة في حد ذاته، وفيما يلي نوضح أهم الوظائف التي تقوم بها اللغة وهي: الوظيفية التعبيرية: تشمل هذه الوظيفة التعبير عن أفكار وسائر العمليات العقلية البسيطة، والمركبة التي يريد الإنسان التعبير عنها، الوظيفة التواصلية والاتصالية: وتتمثل هذه الوظيفة في دور اللغة في التبليغ عن المعلومات وتعبير عنها وتبادلها بين الأفراد. وتحدد وظائف اللغة في ثلاثة أمور أساسية وهي: اللغة وسيلة تفاهم. اللغة كأداة صناعية تساعد على التفكير. أداة تساهم وبشكل فعال في تسجيل الأفكار والرجوع إليها. ومن خلال ما سبق نستنتج بأن وظائف اللغة في أي مجتمع تتمحور حول: الوظيفة النفعية: أو كما يطلق عليها بوظيفة أنا أريد، التي تسمح للفرد بإشباع حاجاته الأساسية داخل المجتمع الموجود فيه، والوظيفة التنظيمية: من خلال اللغة يستطيع الفرد التحكم في سلوكه وسلوك الآخرين. فاللغة تجعل للمعارف والأفكار قيمة اجتماعية، من خلال دورها في الاحتفاظ بالتراث الثقافي والتقاليد الاجتماعية، ونقل ثقافة المجتمع من جيل إلى آخر، فهي تزود الفرد بأدوات التفكير فهي وسيلة التعلم الأساسية التي تساعد الفرد على تكيف وضبط سلوكه مع المجتمع. هذا الذي يؤكد على أن العلاقة بين اللغة والمجتمع من منطلق وظائف اللغة هي علاقة متجذرة يصعب الغائها لأنه وبدون اللغة لما استطاع الانسان التعايش في مجتمعه وتأقلم مع أفراده. فهي علاقة تأثير وتأثر متبادلة، فهي أهم مميزات الإنسان الاجتماعية، فكلهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، فهناك نوع من التفاعل والتداخل الذي قد يصل إلى مرحلة التطابق بين سلوك الكلام والممارسة الاجتماعية، فاللغة هي العنصر الرئيسي الذي يميز المجتمعات البشرية فهي اساس بناء وبقاء المجتمع، كما انه ليس هناك وجود للغة خارج نطاق المجتمع لأنها هي حصيلة اجتماعية ناتجة عن تراكمات تاريخية. وإذا كان الحال كذلك في الأطروحات التي حاولت مقاربة العلاقة بين اللغة والمجتمع، فإن الأطروحة الأكثر كفاية اليوم هي التي ترى أن التركيب اللغوي والسلوك يؤثران في شكل التركيب الاجتماعي، ولا شك هذا له ما يدعمه في الواقع المعاش، وبناء على هذه المعطيات يمكن أن نقول: إن اللغة العربية بشكل عام تبقى في تقديرنا في حاجة اهتمام لتطوير تخصص يولي العناية من جهة لمختلف العلاقات التي تفردها السياقات المعرفية والعلمية الخاصة مع مراعاة السياق المعرفي العام ما دامات اللغة تمثل أداة للتواصل ويولي الاهتمام من جهة ثانية لمضامين الحقول والتخصصات المعرفية على اختلافها مادامت اللغة تمثل أداة لتمثيل الفكر ومن جهة ثالثة وهذا هو الأهم تنشئة الأجيال على المواطنة والهوية والمسؤولية الجماعية إزاء اللغة وكل أنساقها الثقافية ولعل هذا من شأنه أن يعطي للغتنا مكانتها اللائقة في المجتمع وفي حياة الناس اليومية العلمية منها والعملية، فالاعتبار الأول يجعل منها لغة ذات كفاية للاطلاع بدورها في تنمية الحاجة التواصلية والاعتبار الثاني يعمل على تطويرها لتواكب تطور فكرنا مهما كان المجال ومهما كان التخصص، والاعتبار الثالث يجعلها مطلب فخر واعتزاز وموضوع اهتمام ومسؤولية. *طالب باحث في اللسانيات والتواصل