المسلمون في إفريقيا وآسيا وفي كل مكان في حاجة إلى مؤسسات المغرب الدعوية وفي غيره من حواضر الإسلام العلمية، لتعيدهم إلى ما تَرَكَنَا عليه الرسول من المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك. إنما الدين لله سبحانه وتعالى وليس لأحد من خلقه، وقد نسبه عز وجل إلى نفسه في غير ما موضع من كتابه الكريم فقال عز من قائل عليما ﴿أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون﴾، وقال: ﴿قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون﴾ [الأعراف: 29]، وقال: ﴿ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا﴾. ومن أوثق عرى الدين وأعظمها شأنا ما يُصطلح عليه عند أهل العلم ب(العقيدة)، وهي تلك الأحكام المتعلقة بالتوحيد بالإيمان وما جاورها من مسائل شديدة المساس بهما؛ وهذه العقيدة لا يصح نسبتها إلا إلى الإسلام التي هي أساسه الأعظم، ولا يجوز نسبتها لبشر، ولا يجوز أن يُتَّبع فيها إلا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلا يصح أن يقول قائل: إنه يتبع عقيدة مالك أو أحمد أو الأشعري أو ابن تيمية أو محمد بن عبدالوهاب؛ وليس أحد من هؤلاء قوله في الاعتقاد أو في غيره ملزِماً لأي من المسلمين ما لم يكن من عند الله تعالى أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالاتباع إنما هو للرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره المبلغ عن الله سبحانه وتعالى. كما لا يصح أن يُدْعَى إلى معتقد أحد إلا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة؛ والدعوة إلى غير ذلك دعوة إلى تعظيم العِبَاد بما لا ينبغي لهم، وتفريق للدين وترسيخ للابتداع فيه. والدعوة إلى ما جاء عن الله ورسوله وما اجتمع عليه سلف الأمة كفيلة بتحقيق وحدة المسلمين ودحر التطرف والإرهاب، والتزام المنهج الوسط في فهم الإسلام وفي تطبيقه؛ فإن الوسط هو ما ترك عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط. ومن المؤسف لكل مسلم يحرص على نشر دين الإسلام ومُثُله ومبادئه الحقة: ما خرجت به الندوة المنعقدة قبل أيام في تنزانيا ونظمتها مؤسسة محمد السادس لعلماء إفريقيا؛ وكان عنوان الندوة التي انعقدت خلال يومين: (المدرسة الأشعرية ومكانة أبي الحسن الأشعري في نصرة أهل السنة والجماعة)، وليس الاعتراض على العنوان، ولا على هدف الندوة إذا كان لدى الباحثين ما يستطيعون إثباته من خدمة الأشاعرة للسنة والجماعة؛ ولكن الاعتراض على التوصيات التي أرى أنها منكر يجب النهي عنه؛ لاسيما وهي تمس أصل الدين، وضررُها متعدٍ شديدَ الخطورة، بالنظر لما يسود مناطق جنوب الصحراء في إفريقيا من الجهل بالدين وتفشي الخرافات وكثرة المبتدعات وانتشار العمل الإيراني في الدعوة للترفض الصفوي؛ ونشاط الجماعات المتطرفة كجماعة الزكزاكي وبوكو حرام وغيرها. فكان الحق هو بذل الجهد لجمع الناس على الكلمة السواء وهي ما جاء عن الله ورسوله وأجمع عليه سلف الأمة؛ لكن الأمر للأسف جاء على خلاف ذلك؛ فجاءت التوصيات كما يأتي: (إعداد كتيبات ميسرة في العقيدة الأشعرية وإدراجها في المقررات التعليمية للنشء الإفريقي، قصد تحصينه من الفكر المتطرف). والصواب أن النشء في إفريقيا وفي كل بلاد الدنيا ليس في حاجة لمعتقد أبي الحسن الأشعري [ت324] أو غيره ممن جاءوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثمائة عام وأكثر؛ بل حاجتهم ماسة لإرجاعهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبيان أصول الاعتقاد منهما، ورد ما فيما من متشابه إلى محكماتهما أما تشجيع النأي بالنشء عن كتاب الله وتعليقهم بالأشخاص فهذا ليس إلا ترسيخاً للفرقة ودعما لما عليه المتطرفون من الغلو في الأشخاص والاستدلال بالمتشابه وإهمال المحكمات. وجاء في التوصيات: (إعداد القوافل الدعوية لتبليغ العقيدة الأشعرية في كافة أنحاء البلاد). فهل الأشعري أشرف من النبي محمد صلى الله عليه وسلم حتى يُقتصر على ذكره، ولا يكون إعداد القوافل لنشر عقيدة الإسلام وما جاء عن الله ورسوله وبلغه عنهما سلف الأمة من الصحابة والتابعين!. ومن التوصيات: (تنظيم دورات تدريبية…. بهدف تعليم العقيدة الأشعرية ومكانة الإمام أبي الحسن الأشعري)، وفي توصية بعدها: (تخصيص منح للطلبة التنزانيين للدراسة في المغرب….. بهدف إعداد من يدافع عن العقيدة الأشعرية والثوابت الدينية). فهل ما يعتقده الأشاعرة وما كان عليه الأشعري رحمه الله مأخوذ عن الله ورسوله أم زائد عليهما؟ فإن كان مأخوذاً عنهما فما الحاجة لنسبته للأشعري وكأنها من دين آخر غير دين الله، وإن كانت عقيدة الأشعري زائدة عمَّا جاء عن الله ورسوله وسلف الأمة فما حاجة الأفارقة إلى تعقيدات علم الكلام وتعقيد العقيدة الإسلامية التي من أبرز سماتها اليسر والسهولة وموافقة الفطرة وملاءمة الطبع والعقل. لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى أمة عظيمة من الخلق وهم أهل اليمن، وكانوا أهل كتاب وعلم وحضارة قديمة فعلمه كيف يلقي عليهم عقيدة الإسلام بيسر وسهولة كما روى ذلك مسلم في صحيحه: (إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). وهكذا دعا رسول الله العربَ وأرسل رسائله إلى ملوك العالم؛ فماذا في عقائد الأشاعرة زائداً عما جاء في الوحي يحتاجه الأفارقة وتبذل لأجله النفقات في الدروس والبعاث والمخيمات؟ هل سيتم تعليم الناشئة من الأفارقة قول الأشاعرة: إن أول الواجبات النظر، كما يقول بعضهم، أو القصد إلى النظر كما يقول آخرون منهم أو اعتقاد وجوب النظر كما يعبر آخرون، وكل ذلك لم يَرِد في كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا إجماع؛ وكان الصحابة والتابعون ومن بعدهم يعلمون الناس الدين ولم يُؤْثَر عنهم أنهم أمروا الناس بالنظر. وهل يحتاج الأفارقة بدلاً من تثبيتهم على الدين الحق أن يُقَال لهم: إن فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تغنيكم شيئا ويجب عليكم أن تتعرفوا إلى الله وتثبتوا وجوده من جديد، وأنكم إذا لم تفعلوا ذلك فأنتم مقلدون في التوحيد، والمقلد في التوحيد أي الذي يقول لا إله إلا الله خالصاً من قلبه لكنه لم يجدد النظر ويبحث ابتداءً في أدلة وجود الله، كل من ليس كذلك فهو كافر عند بعض الأشاعرة، وفاسق عند بعضهم، وفي منزلة بين الإيمان والكفر عند طائفة أخرى منهم وعلى رأسها الأشعري نفسه؛ وفي منظومة الجوهرة التي هي إحدى المتون المعتمدة عندهم يقول الناظم: إذ كل من قلد في التوحيدِ … إيمانُه لم يخل من ترديدِ. والمشكلة: أن هذا النظر الذي ابتدعوا كونه أولَ الواجبات وكَفَّرُوا أو فَسَّقُوا من أجل تركه عامة أمة محمد، يريد القائمون على هذه الندوة أن يعلموه ناشئة تنزانيا كي يحكموا بكفر أو فسق آبائهم ممن وحد الله استجابةً لنداء الفطرة أو امتثالاً لقوله الله ﴿ينزل الملائكة بالروحِ من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون﴾ [النحل: 2]، أو تقليداً لوالديه وأسرته المؤمنة ؛ لا لشيء إلا لأنهم لم يختبروا أدلة وجود الله بأنفسهم. إن المسلمين في إفريقيا وفي آسيا وفي كل مكان في حاجة إلى المؤسسات الدعوية في المغرب وفي غيره من حواضر الإسلام العلمية، لتعيدهم إلى ما تَرَكَنَا عليه رسول الله من المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك والحنيفية السمحة التي تجمع ولا تفرق، فبهذه العقيدة نحقق اجتماع الكلمة وتصحيح المعتقد ومحاربة الغلو والتطرف؛ ولله در ابن تيمية رحمه الله حين قال: (أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم). * أستاذ الفقه وأصوله بجامعة أم القرى بالممكة العربية السعودية.