لطالما توقفت عند مفاهيم المسيري عبد الوهاب رحمه الله، بما لها من أهمية كبيرة في تحليل واستقراء الواقع المعيش، وأطروحته حول “المجتمع التراحمي” و“المجتمع التعاقدي” دعتني أكثر من مرة للتفكير في تجليات هذين المفهومين في حياتنا اليومية، فإذا كان المفكر المصري يوضح أن “المجتمع التراحمي” هو الذي تقوم علاقاته على التراحم والتعاطف بين أفراده، فالتراحم هنا يحيلنا على سمو العلاقات الإنسانية إلى مستوى الأخلاق الفاضلة من تعاون وترابط و تبادل إيجابي، بينما “المجتمع التعاقدي” تتأسس معاملاته على المنفعة والمصلحة المادية الباردة والخالية من كل حس عاطفي. لست هنا بصدد إقامة حدود وفصل بين كل ما هو تراحمي وتعاقدي، فالأمر متداخل ويمكن أن نجد مساحة مشتركة بينهما حتى لا نسقط في علاقات ضدية وندية بين ما هو فردي وما هو جماعي، ونكون بذلك أدخلنا أحد المفهومين "قفص الاتهام والقفص"، فالتطرف لخيار أوحد سهل جدا، لكن تحقيق التوازن والاعتدال هو التحدي. وهنا يمكن أن نتساءل حول إمكانية الحفاظ على مساحة وخصوصية الفرد دون أن نهمش دور وحق الجماعة أيضا، وكيف السبيل لإيحياء روح الفعل الجماعي وتأثيره الإيجابي على حياة الفرد؟ أليس افتقادنا لأدوات التواصل الذكي وغير العنيف هو ما دفع الأغلبية للهروب لعوالم افتراضية و قنوات وإذاعات يبث فيها مشاعره وأسئلته المهمة وأحيانا البسيطة جدا؟. ألا يمكن القول إن في ثنايا التعاقدي يوجد ماهو تراحمي، وخير مثال هو اهتمام الدين الإسلامي بالمعاملات المالية لما تسبب من منازعات وخلافات كبيرة، فقد خصصت أطول آية في القرآن الكريم لقضية "الدين" سورة البقرة 282 ، فالآية هنا تورد أروع مثال عن البعد التراحمي الذي تجلى في تقديم المساعدة وتنفيس كرب المحتاج للقرض، كما ضمن الله عزوجل حق صاحب المال حين ألزمه بكتابة عقد توثيقي يحمي كل منهما من ضعف النفس وتغير الأحوال، وبذلك يكون التعاقد قد حقق المصلحة وحمى الفرد في حالة التعاون أو النسيان أو موت أحد الطرفين. ويمكن أن نسقط المثال السابق على مختلف تعاملاتنا الإنسانية، فالعلاقة التراحمية هي قائمة بالضرورة على تعاقد ما، قد لا يكون عقداً مكتوباً لكنه عقد غير منطوق وغير معلن، مثال ذلك تدبير العلاقات الحميمية من صداقة وزواج وأسرة. وإذا أخذنا مثال الأسرة التي تتأسس في ديننا على ميثاق المودة والرحمة، وهما بعدين تراحمين بامتياز نحتاج أيضا لنوع من التعاقد الذي يعلي من شأن الفرد والجماعة معها (نجد الكثير من الأسر لا تتفق على صيغة تدبير حياتهم اليومية، ابتداء من الجانب المادي وانتهاء بعلاقات التواصل مع الجيران والأقارب، فيكثر الخلاف والصراخ حول تفاصيل المفروض أن تخصص لها جلسة أسرية كلما دعت الضرورة لذلك، ويدبر الأمر بشكل مرن دون السقوط في فخ التواكل على فرد معين وتخلي البعض الآخر عن مسؤوليته في إنجاح هذه التجربة الإنسانية).