يقولون إن المناسبة شرط. فأما المناسبة، فهي مُصادقة البرلمان المغربي اليوم الثلاثاء 22 يونيو 2016 على مشروع قانون رقم 78.14 المُتعلق بالمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، بعد ثمانية أشهر من إحالته من قبل الحكومة، وبالضبط الجمعة 23 أكتوبر 2015. وأما عن الشرط، فهو مطلب استثمار هذه اللحظة لإثارة نقاش عمومي حول الأسرة لبعث أدوارها الحيوية وتقوية حضورها المجتمعي، ومساعدتها على مواجهة ما يحيط بها من تحديات والتغلب على ما يحيق بها من تهديدات، بسبب تسارع وتيرة الحياة المدنية ونمط العيش الحديث. الداعي إلى تدبيج هاته المقالة، بهذه المناسبة ولهذا الشرط، هو الرغبة في تكسير جمود السياسي وبرودة الإعلامي في التعاطي مع هذا الحدث التشريعي المهم، ليس فقط لأنه تنزيل لمقتضى دُستوري ينص على إحداث مجلس استشاري للأسرة والطفولة، ولكن لأن الأسرة لم تستأثر بنص قانوني واضح وخاص بها منذ 12 سنة مَضت، أي منذ نازلة تجديد النظر في نص مُدونة الأحوال الشخصية وإعادة استصداره مدونة للأسرة، تتويجاً لتعبئة مجتمعية شهدها النقاش السياسي والإيديولوجي حول ما سُمي آنذاك ب"مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"، زمن حكومة التناوب التوافقي الأولى. على أيٍّ، فإنه ليس للمرء أن يستغرب هذا البرود وهذا التغاضي في ظل سياق سياسي عام متأثر بنزعة حداثوية تعتني فقط بالمواثيق الحقوقية والمشاريع القانونية الخاصة بالحريات الفردية والحقوق الفئوية، في استنكاف عن المبادرات التشريعية والمجهودات العمومية التي تنكب على كل ما له دلالة جمعية أوتسعى إلى تحصين منظومة القيم وإحياء المدركات الجماعية للأمة التي من دونها يفقد أي مجتمع كيف ما كان، خصوصيته الثقافية وتميزه الحضاري. إن تشريع قانون جديد للأسرة بعد عقد من الزمن ونيف، في أحد أبْعاده العميقة، لهو بمثابة خُطوة واعدة لضبط إيقاع وسرعة انخراط المجتمع المغربي في مسار الحداثة والعصرنة. كما أنه لحظة توقف نقدي لإثارة انتباه المغاربة، نخبا وسياسيين وحقوقيين وعموم المواطنات والمواطنين، إلى أنه مهما أقبلنا على العصر، إلا أن ذلك لا يجب أن يُنسينا مقومات هويتنا وأصول ديموغرافيتنا التاريخية ومؤسساتنا الاجتماعية والدينية والثقافية، والتي أسعفتنا على مر التاريخ لمواجهة إشكالات الواقع وتجاوز عقبات الزمان. هذا، وفي مقابل سعي المواثيق الدولية والعهود الحقوقية لإحلال منظومة قيمية حداثية ومعولمة قائمة على النزعة الفردية المتحللة من أسر الانتماء للأطر المجتمعية -المسماة زورا "تقليدية" تحقيرا واستصغارا، مع أنها في الحقيقة "أصيلة"-والتي تعمل على تأسيس مفهوم تعاقدي للعلاقات الاجتماعية؛ يأتي الحديث عن الأسرة كمحاولة لاسترداد ما استقر عليه نسق المدركات الجماعية للأمة من مفهوم قائم على حب الانتماء للجماعة ورد الاعتبار للقيم التراحمية التي أطرت سلوك الإنسان المغربي لقرون من الزمن. والتي، بالمناسبة، تستحضر مفهوما للإنسان والمجتمع، غير ما تُغرينا به أطروحات العولمة الحداثية الرامية إلى تنميط المجتمعات بتفكيكها وإعادة تشكيلها وفق مقررات المتون الأممية وأجندة الأسواق العالمية. ولعلّ في تنامي الاهتمام المجتمعي بالأسرة، والذي ترجمه دستور 2011 ومشروع قانون المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، ما يشي بأن المغاربة معنيون بإبداع حداثة خاصة بهم، حداثة مقاومة لنزعة التفكيك ورغبات القطع مع موارد تراث المجتمع ومضان قيمه وخبرته الحضارية. فروح الأسرة، – قريبا مما يراه بيير بورديو حين حديثه عن روح الدولة في مقابل روح العائلة- لا زالت تحمل في تمثل المغاربة معاني التراحم والتآخي والبذل والعطاء دون مقابل، مقابل الحياة الحديثة التي لا تعترف إلا بلغة القانون والتعاقد، ومقاربتها للأسرة يقتصر على وصفها إطارا قانونيا يربط أفراده بموجب عقد قانوني، وكّأنهم مجرد وضعيات حقوقية بعضها في مقابل البعض، أوكأنهم أعضاء في بنية اقتصادية مرصودة للاستهلاك وتحصيل اللذة، أو مجرد وحدة إحصائية ومعطى رقمي. وبحكم قيمها التراحمية والرسالية، فإن الأسرة المغربية، كما في باقي المجتمعات العربية/الإسلامية، لم تكن فضاءً للتربية والتنشئة الاجتماعية فقط، بل إنها شكلت مُكنة للمغاربة ما كان لهم من دونها أن يتغلبوا على العَديد من المشاكل الاجتماعية والضوائق الاقتصادية والاختلالات الثقافية، إذ قامت الأسرة بدور محوري في تأمين استقرار المجتمع وتغلّبه على تقلبات الزمن. وأمام تنامي حجم التحديات التي باتت تواجهها الأسرة المغربية، فضلا عن تكالب خطابات تسعى، ضمنا أو بشكل مفضوح، إلى تفكيك بنيانها وتقويض فعالياتها، بتنا اليوم في حاجة إلى استثمار الزخم الهادئ الذي يستصحبه أمر استصدار قانون للأسرة والطفولة، من أجل العمل على بعث القيم والأدوار والوظائف الأسرية، واستعادة الأسرة كفضاء أصيل حاضن لأفراده ومكوناته، بعيدا عن النزعة الفردانية التي تغزو مجتمعنا وتهدده بالتفكك. وذلك من خلال العمل على إطلاق دينامية مجتمعية، تستند لهذا الاجتهاد التشريعي، لتجديد الوضعية السوسيو-ثقافية للأسرة المغربية. والحديث هنا عن تجديد إحياء الأسرة ليس بالضرورة من خلال استنساخ أشكالها التاريخية أوباستعادة أنماط ماضوية، وإنما ببعث الأسس القيمية والأطر المفاهيمية التي تأسست عليها الأسرة في واقع الخبرة التاريخية والحضارية المغربية، والعمل على إحياء هذه القيم بتسكينها في واقع الناس ومنحها دلالة في معاشهم اليومي