القوى المتخلفة في التاريخ لا تقدر الفن، وتبخس الشعر، وتغتال العود والناي، ويقودها العماء إلى معاداة الفلسفة، وتحويل الدين إلى أشجار يابسة.. ولا يوجد فيها ولا داخلها من تحترق ذاته عندما تلتقي الأوتار والأشعار وتحكي قصة الوجود الثائرة، ولا يسري في عروقها دم الفلاسفة الأحرار، لأن أورام الوثوقية والجهل المركب والمقدس تحول دمها إلى دم عبيد، يمدحون البلاهة النافعة، ويذمون المعرفة الضارة. من يختزل الحياة في الفقه والمواعظ أو البيانات السياسية أو الثقافة أو الإدارية والتدبيرية، يقوم بتعليب التاريخ، ويرهن المستقبل ويقتل المعنى والقيمة، وينشر الاستلاب في القلوب والعقول، لتتحول إلى زبون يأنس لغة الخشب، ويستهلك الجاهز ويعيد الإنتاج بلا مساءلة أو نقد وتفكيك. التاريخ بلا شعر بلا موسيقى بلا فلسفة بلا دين يروي ظمأ العطشى، بلا ميادين فسيحة بلا فضاء عام بلا إرادة احتجاجية هو جحيم لا يطاق.. الشعر يعلمك أن تكون مقاتلا بالكلمة والحرف، تبحث عن الكينونة التي تثمر الإيمان الدفاق والعمل التواق، وتحول دون أن تسترقك نزعة التملك لتتحول إلى قطعة نقدية في زمن الاستهلاك، لأن الشاعر الأصيل لا يحب أن يجثوا على قدميه أمام السلاطين للمدح والتزلف، لكنه حتما يحب أن يمشي في جنائزهم، ليطلق ضحكاته الساخرة في الهواء، كما تطلق الكمان عزفها للريح. الشعر يجعلك كائنا يحمل بين ضلوعه مخيلته وذاكرته أينما حل أو ارتحل، لا يستطيع الواقع الرديء والعنيد والمتغول بإكراهاته وسلطه المادية والرمزية، أن يحد من ثورته الممتدة والخلاقة، ومن معهم مخيلتهم التي تحوي ممكناتهم ومستحيلاتهم وأحلامهم وآمالهم وآلامهم، ومعهم ذاكرتهم التي تحوي أمجادهم، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ فالذاكرة أم البدايات، والمخيلة أم النهايات، والشاعر هو من يفلح أن يزيل التخوم بين البدايات والنهايات، ليجعل تاريخه ممتدا وآفاقه واسعة. والموسيقى الراقية تعلمك كيف تقاتل بالعزف والإيقاع، وتتمرد على كهنوت القتامة، لتعبد إلها أجمل من آلهتهم التي تشبه الحاكم العربي الغشوم.. الموسيقى تعلمك الحب والجمال، لا تعلمك الكراهية والخوف؛ تعلمك كيف تحب بصدق، ولا تحب إلا ما هو جميل وعذب، تعلمك كيف تحشر كل مشاعرك في خندق واحد، وتقاتل البشاعة والبغضاء، تعلمك كيف تكون أنت بلا قناع، تبني جسورا وتهدم أسوارا عالية، تمنح التواصل والتفاعل الإنساني العميق، الموسيقى تعلم السنابل كيف تبتسم في وجه الشمس الوهاج والقمر المنير. والفلسفة تعلمك كيف تحول الحياة إلى سؤال وهاج، لا يحجبه غربال الإمتلاء والتقليد والتطابق، تعلمك كيف تتواصل مع الوجود بدون وساطات كهنوتية، تعلمك كيف تجمع بين اعتقادك وتعبيرك، وتسقط كل الخطوط الحمراء، لأن من يمارس حقه في التفكير، ويطلق لسانه بالبوح بدون مجاملات، يستجمع عرى الإيمان من كل جوانبها، ويعبد الله بالامتداد والعمق والرحابة والنمو والتحول، الذي يقاوم الرتابة والوثوقية والتكرار، الذي يمثل الكفر الخفي، الذي يجعل الكائن يعيش في جحر ضيق بلا ضفاف، ويعبد الله على حرف، لا عقل يعقل ولا قلب يتذوق، لا معرفة نقدية ولا وجدان نقي، الفلسفة تحضك على المغامرة والاندهاش، وتحرضك على إتباع الدليل لأنه منار السبيل، والمضي على طريقك الشائق، ولا تعبأ حيث قادتك خطاه، فمن استخدم قواه العاقلة بتجرد وإنصاف، فقد أدى ما عليه من تكليف، وما عليه من ملام. والدين إذا ما تحرر من القيود الكهنوتية الدخيلة عليه، ومن التأويلات السطحية، التي تجعله مجرد إيديولوجية جامدة، تطفئ شعلة الروح الملتهبة في رحابه، وتجفف منابع الإبداع في جذوره، هو رغبة جامحة لتحقيق الكمال الوجودي، فمادام هناك موت هناك دين، لأنه هو الجواب الشافي لتحدي نهاية الكينونة، الدين يخلد الحياة، ويدمج الإنسان في برنامج طقوسي عبادي يومي، ليخرجه من غرفة الوجود المظلمة، ويحقق تكامله الإنساني، بدون عقد القلق العدمي، أو الخوف من زمن الأفول والنهايات الوافدة، كما يذهب صاحب كتاب الدين والظمأ الانطولوجي، والإنسان بدون دين يعيش كذاك الرجل المذهول، الذي يحكي عليه الفيلسوف الوجودي كيركجور، والذي ابتعد وتجرد عن الحياة حتى لا يكاد يعرف أنه يوجد، إلى أن استيقظ ذات صباح ليجد نفسه ميتا، ودون أن يستطيع أن يمس جذور وجوده.. إذا ماذا علينا أن نفعل وقد اهتزت أساسات الأرض، وما لها من قرار، في زمن تتسارع فيه ايقاعات الزمان، وتترك وراءها التيه والغبار؟.. يبقى الدين ملاذا يربطك بالأبدية، والأبدية كما يعرفها، صاحب كتاب الشجاعة من أجل الوجود، بول تيليس، هي التجدد الدائم،وهي اللحظة الحبلى بالتحولات الكبرى، التي تجعل الحاضر ممتلئ، وليس نقطة نهاية، بل تجعله في حالة فوران دائم وانتظار للجديد. فالدين والفلسفة والفنون كالشعر والموسيقى.. تعزز كينونة الإنسان، وتنتشلنا من السطحي واليومي والعابر، من المياه الضحلة التي تحول دون قدرتنا للإنصات لأعماقنا، والارتفاع إلى العلو الذي فوقنا، و الانفتاح على العمق الذي تحت أقدامنا، ولا يغني احد هذه الحقول عن الأخر، فكلها تعمل في تكامل؛ فالفنون تصنع لنا عالمنا المتخيل والبديل، وتطفي على العالم جمالا وبهاء، والدين يشبع حاجات الإنسان إلى التكامل والأبدية، ويمتلك خزانا حيويا من التأويلات المتجددة والمتنورة، التي تلاحق الوجود بشكل لامتناه، والفلسفة هي أم البدايات وأم النهايات، لأنها تجعلك تعرف نفسك بنفسك، وتمنحك لذة الوعي والمعرفة. ولكي نوقف الحريق، لا بد من الحذر من الغلاة، الذين يسحبون الدين إلى الغرف المظلمة، ليمارسوا فيها القتل والدمار.. لابد من الحذر من العدميين الذين يحاصرون الحياة باليأس والقلق والجنون واللامعنى.. ومن المستبدين الذين يصنعون المأساة؛ بتحريف الدين وتوظيفه، ونشر العدم، وملاحقة المعرفة والقيم والجمال وسحبها من حق استيطان الفضاء والخاص.