«المبدع العظيم يترك للآخرين مسؤولية تفسيره» من يقرأ الفلاسفة بعمق؟ ومن يقرأ الشعراء والأدباء بروح قتالية؟ وهل هناك حوارا بين الفلاسفة والأدباء؟ وما طبيعة هذا الحوار؟ ومتى يصبح الحوار نعمة للإنسان؟ بل متى يتحول الأدب والفلسفة إلى مشروع حداثي لبناء المغرب الجديد؟. وما أهمية الفلسفة في قراءتها للأدب وفي بناء عظمة روح الأمة؟. سأكون سعيدا بفتح هذا الحوار من جديد بين الفلسفة والأدب لأنهما مولعان ببعضهما، إلى درجة الثمالة، أو بالأحرى إنهما مرح الحب مع نفسه، ذوبان في لهيبه الناعم، إنصات لنداء الحقيقة والوجود لأن الأدب هو المحراب الأكثر براءة للفلسفة، إنه نعمة للفانين مثل ثمار الأرض. ولعل الفيلسوف هو البستاني الذي يرعى هذه الثمار بعنايته. لكن من هو الناطق باسم الوجود والحقيقة، الفلسفة أم الأدب؟، بل من يستمع للآخر؟ وأين يتم تحديد المسافة بينهما هل في الزمان أم في الوجود؟ سأضع هذا الحوار الذي أخذته السكينة في عتماتها، موضع سؤال قلق يتجه نحو الراهن، ل يسعى إلى استثمار إرادة الحوار وفن الإنصات من أجل تحريك أسئلة هذا العصر المضطرب الذي غير براديغم الحوار ببراديغم العنف والموت وحكم علينا بالرعب اليومي. لأن الحوار يكون بالأفكار، وليس بالأجساد، ها هنا، سأفتح سجل التاريخ، وأقرأ عليكم حوار سارتر وكامي، هايدغر وهولدرلين، لأخلص إلى غياب هذا الحوار عندنا، نظرا لغياب الاعتراف المتبادل. لا أحد يسمع للآخر، الكل يتكلم، لكن متى نصبح حوارا نسمع بعضنا البعض. سارتر وكامي: من الصداقة إلى الصراع في رسالة بعث بها كامي إلى سارتر يقول فيها: السيد مدير تحرير العصور الحديثة... إذا تعذر على الناقد أن يجد عيبا في الكتاب فمن السهل عليه أن يضعه فيه، كأن يتحدث عن موضوعات لا وجود لها في الكتاب كالجهل والغباء الالتزام والعبث العدالة والظلم وغير ذلك، فما الذي دفع كامي إلى مهاجمة صديقه سارتر؟. هل يتعلق الأم بحوار شرس بين الأديب والفيلسوف أم أنها ثورة على هذا الرجل الذي حكم بقبضته على العصر بكامله. الواقع أن كامي يحمل سارتر مسؤولية النقد العنيف الذي تعرض له من خلال مقال نقدي كتبه الناقد الشاب جانسون الذي هاجمه بعنف واعتبره عبثيا يعيش خارج التاريخ ينتقل من الغريب إلى الوباء، وظل التاريخ هو الحرب وجنون الآخرين وكأنه يمنع الطيور من الغناء والناس من الحب لكن كيف أجاب سارتر على تهجم كامي؟، وهل استعمل نفس السلاح أم أنه سيتخذ من الفلسفة سلاحه؟. كان سارتر هادئا في رده، وأشد عمقا في حواره إذ يقول: عزيزي كامي أنا متأسف على الصداقة التي كانت تربطنا، كنت أفضل أن ينصب الحوار على المسائل الأساسية، ولا تختلط به رائحة الكبرياء الجريحة.. ثم يتساءل: أين مرسو بطل الغريب ياكامي؟ وأين سيزيف؟ أين هؤلاء الذين حرضوا إلى الثورة الدائمة؟ لاشك أنهم قد قتلوا خلسة، أو أنهم يعيشون اليوم في المنفى؟، لقد سيطرت ديكتاتواهرة مرضية يتناولها تناول الطبيب للجثة الميتة في لوحة رمبرانت المشهورة. ويتساءل سارتر مندهشا ما الذي جعلك مدافعا عن البؤساء وشقيقا لهم؟، أليس أنت من اختار بؤساءه وقال عنهم إنهم إخوته؟، ولماذا يغضب كل هذا الغضب لأن أحد النقاد الشبان قال له أن تفكيره غير فعال؟، وكيف يتحول السخط على العصر إلى موضوع إنشائي يزدحم بالبلاغة والإنشاء؟. مهما يكن عنف هذه الأسئلة مدمرا للأديب، فإنه مع ذلك يغزو ويقتحم، لا من أجل التهديم والتصفية، بل بغية بناء روح الحوار، باعتباره فضاء مبتهجا بالأنوار يسمح للروح بالنمو في عنصر العقل إلى أن تحقق وعيها الذاتي بمجرد ما تغادر قارة الوعي الشقي، والشاهد على ذلك أن سارتر سيعترف بعمق كامي الإبداعي، ولكنه سيتحدث عن قصوره الفلسفي، لأنه يكتفي بالكتب الثانوية، ولا يرجع إلى المصادر، سواء كان ذلك في حديثه عن هيجل وماركس، وسارتر، بل أن سارتر يذهب إلى حد أنه لا ينصحه بالرجوع إلى الوجود والعدم الذي ستكون قراءته شاقة وصعبة عليه، لأنه تعود ألا يتعب نفسه في الفهم لكي يستطيع بعد ذلك أن يقول أنه لم يجد شيئا يفهم، ثم يعلمه معنى الحرية وهي الاختيار الحر، وحرية الالتزام، وخوض معركة التاريخ، لا حرية المتفرج خارج التاريخ، ومع ذلك نتساءل فمن هو كامي بالنسبة لسارتر؟ هل هو الأديب، أم الصديق، أم الناقد؟، أم العبثي الجاهل للفلسفة؟. يعترف سارتر قائلا: «لقد كنت بالنسبة لنا ? وقد تصبح كذلك غدا ? مركبا عجيبا يتألف من الشخص والفعل والمؤلفات» وليس مجرد مرسو الذي يرفض القول بأنه يحب أمه أو عشيقته. والذي حكم عليه مجتمعنا بالإعدام، إنك تجمع في شخصك صراعات العصر. آخر ورثة شاتوبريان تجمع بين عاطفة العظمة والإحساس الملتهب بالجمال، بين حب الحياة والشعور بمعنى الموت. فهل بإمكاننا أن نتمتع بحوار شيق بين الفيلسوف والأديب، أم أن سارتر حكم علينا بهذا الانزياح إلى ملكة التهكم وبعبارة أخرى هل كان سارتر سقراطيا في تهكمه على كامي، وهل الفلسفة باعتبارها هبة الأعماق وشعلة الروح، تنام في حضن التراجيدية؟، وماذا يعني أن يكون المرء فيلسوفا في عالم يحكم على الفلسفة بالإعدام؟ ألا يكون أمله أن يتوجه من عتمة التراجيدية إلى ضوء الصباح الأكثر صفاء؟ وما معنى هذا الغروب في صمت النداء ونعمة الأصيل الروحاني للمساء؟. يحدد نيتشه الفلسفة بأنها مذكرات عشق للفيلسوف، تأملات في النسيان، ومع ذلك نتساءل لمن تكون الفلسفة نعمة؟ هل للفيلسوف؟ أم لمن يحبها من الأدباء والشعراء وكتاب التراجيدية؟. يلتمس الشاعر هولدرلين من الفلسفة أن تمنحه صيفا واحدا ليتمم قصيدته يقول: أين أنت؟ فالغروب يطفئ روحي، ويحرمها من الابتهاج بلذتك. امنحيني صيفا واحدا، وخريفا واحدا لينضج نشيدي فالنور الفلسفي يطل من نافذتي ولكن أين أنت إنني أحبك أكثر فبأي معنى تصبح الفلسفة عاشقة متمردة تتأهب للرحيل؟ وما قيمة هذا العشق المبني على جسر منهار؟ بل ما قيمة هذه العاشقة التي تقتل عشاقها. وهل الفلسفة في حقيقتها تأسيس للوجود بواسطة الحب؟ أم بواسطة الحوار؟ في هذه الجراح العميقةالسلاسل بقتالهم، ومنحوا للحرية مذاقا منتشيا بالثمالة، إنها تقاتل وتقاتل من أجل عالم أفضل، ولم تصاب أبدا بخيبة الأمل، فمنذ سقراط الذي تجرع قدح السم إلى يومنا هذا لم تستسلم، بل قامت بتحريض الشعر والمسرح، والرواية والفن. وتحولت إلى فضاء للحرية يساعد الروح على النمو التدريجي لتحقق حريتها على الوعي الذاتي بعد تدمير قشور الوعي البائس. نتساءل كيف يمكن للإنسان أن يترك الظلام ويقتحم نعمة الضوء، أو بالأحرى فضاء التنوير؟، وهل تستطيع الفلسفة إنقاذ الإنسان من الضياع؟. هنا في الضوء الخالص يشع على هذا الجسد الجريح حب وألم. أيها الغريب ادخل بدعة وسكينة لتنالك الحظوة من الألم في هذه الجراح العميقة التي يحملها جسد الفلسفة تنمو عظمتها وقدرتها على الانتشار في الضياع، إنها احتفالا جنائزيا بالمحبة. الفيلين يعني عمق المحبة. إن ما تريده الحياة هو الحياة نفسها، وليس هنا أنبل من الحياة التي تتم في ضيافة الفكر، لأن الحياة الخالية من التأمل لا تليق بالإنسان. في غمرة هذا الفرح الطفولي الذي يجعل من الفكر نشوة وعيد يستضيفنا ذلك الحوار الأبدي بين هايدغر وهولدرلين من أجل متعة هذا الحوار ننطلق من هذه العبارة لنيتشه: «إن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء، أما عندي فهو نشوة وعيد»، فمتى يكون هذا العيد ممكنا، وما هي طقوس الاحتفال به؟ كما في يوم عيد عنوان القصيدة رائعة تركها هولدرلين، فكيف سيتسلل هايدغر إلى فرحة هذا العيد؟. ويقتسم بهجته مع القارئ؟. هايدغر وهولدرلين حوار الأصفياء في رسالة بعث بها هولدرلين إلى أمه قبل أن يسكنه الجنون في عتماته يقول: الشعر هو أوفر الأعمال حظا من البراءة كما أننا نجد هيجل يعرف الفلسفة بأنها المحراب الأكثر براءة للروح، فبأي معيار تصبح البراءة قاسما مشتركا بين الفلسفة والشعر؟، وما المقصود بالبراءة؟ هل تعني الانفلات من جدية القرار؟، هل هي مجرد لعب باللغة في نشوة الفرح الطفولي؟، وكيف تتحول اللغة إلى ميدان أوفر حظا من البراءة وهي أخطر النعم؟ ولمن تكون اللغة نعمة؟. يعترف هايدغر بأن اللغة هي مسكن الوجود والإنسان هو حارس هذا المسكن، ولذلك منحت له اللغة من أجل أن يشهد على وجوده بواسطة الحوار باعتباره ترجمة لنداء الوجود والحقيقة، وبلغة هايدغر إنه الكشف والإفشاء: « منذ أن كنا حوارا واستطعنا بعضنا أن يسمع البعض الآخر» ها هنا تتدخل الميتافيزيقا لتوجه هذا الإنصات إلى نداء للوجود، ذلك أن ماهية الحوار لا تنكشف إلى في الروح التي هي تلبية لهذا النداء الذي يناديها. لأن الروح هي الزمان. ولذلك فإن سقراط كان يعتبر الحوار أبديا ولا يتوقف، وكان يتفق مع محاوره على اللقاء في الغد. لأن الحوار الفلسفي هو نشوة وعيد، إلى درجة أن التفلسف موجود ما وجد الإنسان فحياته بدون هذا الحوار لا قيمة لها، لكن ما الذي يحدث لو أن هذا العصر القلق قام بتدمير الحوار وتهجير الفلسفة واغتيال براءة الأدب؟ فما هي طبيعة الإنسان في أفق هذا الهجران؟، وهل بإمكان الإنسان أن ينعم بالوجود بعد نسيان طبيعته الميتافيزيقية؟، وهل يستطيع الوجود أن يعلن عن حقيقته في غياب الميتافيزيقا؟، وكيف يكون الحوار أداة للحفر في ماهية الشعر والفلسفة؟. إنهما مولعان ببعضهما البعض، مادام أنهما يتحاوران باستمرار إلى أن تظهر تلك الغيوم النشيدية ثم تفسح المجال أمام البرج الأزرق الساحر حيث يلمع الحوار الأبدي بين الفلسفة والأدب. * قدمت هذه المداخلة في المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء 19 يناير 2014.